- بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يشعر من بقي من رواد المشروع الصهيوني، وهم قلةٌ يتضاءلون ويندثرون، ونفرٌ يضعفون ويتراجعون، أن الزمن لم يعد يعمل لصالحهم، وأن الظروف الدولية لم تعد تخدمهم، وأن سراب السياسات العربية واتفاقيات التطبيع الجديدة لا تنفعهم ولا تسمنهم من جوع، ولا تؤمنهم من خوفٍ، ولا تطمئنهم من قلقٍ، بل قد تكون وبالاً عليهم، وسبباً في تشكيل جبهاتٍ جديدةٍ ضدهم، تساند عناد الفلسطينيين وتؤيدهم في نضالهم، وتدعم مقاومتهم، وتؤازرهم في معركتهم ضد كيانهم، الذي بات متردداً في فتح معارك جديدة، وتوتير جبهاتٍ متعددة، بعد أن كان جيشه هو السيد المسيطر، والقوي المتنفذ، وصاحب الذراع الطويلة والقدم الثقيلة.
لا أحاول هنا أن أسقط على النص أمانيَّ الشخصية ومعتقداتي الذاتية، فأحمله ما أريد وأضمنه ما أتمنى، دون الاستناد إلى حقيقةٍ واقعيةٍ، أو الاعتماد على رأيٍ علميٍ متجردٍ من العاطفة، يعتمد على القراءة الموضوعية والفهم المنطقي لمجريات الأمور، ودراسة حقيقية لعقل المحتل الإسرائيلي وطريقة تفكيره، ومعرفة اتجاهات الرأي وأشكال الحلول السائدة، والمخارج الإسرائيلية من الأزمة التي يعترفون بها ويقرون بخطورتها واستثنائيتها، علماً أن الفضاء الإعلامي الإسرائيلي يضج بالتحليلات والآراء التي تتفاعل مع أزمتهم الوجودية، وتحاكي معاناتهم اليومية ومخاوفهم المستقبلية.
مراكز القرار الإسرائيلية السياسية والأمنية والعسكرية مضطربة ومرتبكة، ومراكز الدراسات والبحوث السياسية والاستراتيجية، التي يشارك فيها نخبٌ كبيرة وهامة من مختلف العلوم والتخصصات، حائرة ضائعة، لكنها تدرك أكثر من غيرها حقيقة الأوضاع الراهنة، وصعوبة الظروف التي يواجهها كيانهم، وعمق المياه التي كانت راكدة لفترة طويلة، ومنحتهم لسنواتٍ الأمن والاستقرار، ولكنها الآن أصبحت عميقة ومتحركة، وجرت فيها مياهٌ كثيرة، جديدة وغريبة، وصنعت تياراتٍ قوية جارفة وخطيرة، مما جعلهم يتخوفون من الآتي، الذي يرون أنه الأصعب والأخطر، مما يفرض على حكوماتهم أن تتهيأ لمواجهة مراحل مقبلة، واتخاذ قراراتٍ قد تكون مصيرية بالنسبة لهم، وتاريخية بما يتعلق بــــ"الشعب اليهودي".
يعدد الإسرائيليون أزماتهم ويرونها كثيرة، ويستعرضون مخاوفهم ويرون أنها خطيرة، فالتعداد السكاني الفلسطيني في ازديادٍ متوالي، والروح القومية العربية والفلسطينية في الأرض المحتلة في تعالي وارتفاع، وقدرات المقاومة الفلسطينية تتعاظم، وأسلحتها أضحت أخطر وأبعد مدىً وأدق إصابة وأشد أثراً.
والعمليات الفردية الفلسطينية كثرت وتنوعت، وتفاقم خطرها وزاد عدد ضحاياها، والحرب السيبرانية أصبحت عالمية، وغدا جنودها كل العرب والمسلمين أينما كانوا، والأهداف الإسرائيلية كثيرة وسهلة، واختراقها بات ممكناً بصورة يومية، والخسائر فادحة والآثار الاقتصادية والأمنية كارثية.
والجبهات الفلسطينية اتحدت واتفقت، وانضمت إليها بعد القدس الشرقية بدو النقب الأشداء، وسكان البلدات العربية، الذين يحملون الهوية الإسرائيلية ويتقنون اللغة العبرية، ويستطيعون الوصول بسهولةٍ إلى كل البلدات الإسرائيلية، ومهاجمة العديد من الأهداف الدقيقة والحساسة.
وبات الشتات الفلسطيني مسلحاً بالعقيدة والإرادة، وبالقدرات العلمية والمادية، والمراكز السياسية والاقتصادية، وأصبحوا أكثر حرصاً على المشاركة في ميادين الحرب المتعددة الأشكال والمفتحة الأبواب، وغدت أجيالهم الطالعة أشد مراساً وأكثر عناداً من الأجيال التي رحلت، سواء تلك التي شهدت النكبة أو عانت من ويلاتها، وبات تأثيرهم على صناع القرار الغربي كبيراً وفاعلاً.
أما الجبهة الداخلية الإسرائيلية فقد غدت مفككة ضعيفة، خائفة مترددة، تستشعر الخطر وتدرك حقيقة الأزمة، وتخشى من فقدان الأمن وغياب الاستقرار، ويشكو قطاعٌ كبيرٌ من شعبهم من تغول المستوطنين وتهورهم، وتحكمهم في حركة الشارع وقرارات الحكومة، حيث أصبحوا بممارساتهم الاستفزازية سبباً مباشراً في تدهور الأوضاع الأمنية، وخلق ردود فعلٍ شعبيةٍ فلسطينيةٍ قويةٍ.
كما أن الجيش الذي كان على مدى السبعين عاماً الماضية، هو الترس الذي يحمي الإسرائيليين، والذراع الطويلة التي تؤمنهم وتردع أعداءهم، بات غير قادرٍ على حسم المعارك والقضاء على الأزمات، وأصبح يتردد عند كل اجتياح، ويجبن عن مواصلة المعركة واستمرار القتال، فخسائره صارت كثيرة، واحتمالات تعرض جنوده للأسر أضحت كبيرة، وقيادته تتخوف من أي خسارةٍ جديدةٍ قد تلحق به، إذ سيكون لها أبلغ الأثر على النفوس والمعنويات، علماً أنهم يتحسبون كثيراً من أن المعركة القادمة لن تكون فيما يسمى "أرض الخصم"، بل ستدور رحاها بينهم ووسط مستوطنيهم، وفي بلداتهم وداخل تجمعاتهم.
لا تتوقف المخاوف الإسرائيلية على أمنهم القريب ومستقبلهم البعيد عند الحقائق المستجدة داخلياً وفلسطينياً، بل تمتد في ظل الحرب الأوكرانية الروسية وقبلها، إلى الواقع الدولي الجديد والمزاج العالمي المتشكل، الذي أصبح ينظر إلى "إسرائيل" على أنها عبء وعقبة، وكلفة وخسارة، فضلاً عن أنها قوة احتلالٍ وسلطة بطش، مما ينذر بتغير السياسات الدولية، وتراجع قوى التأييد التاريخية.
كان الإسرائيليون قد شعروا بخيبة أمل وبالكثير من الخوف والقلق نتيجة الانسحابات الأمريكية، وإن كانت محدودة وشكلية، من مناطق مختلفة في العراق وسوريا، وانسحابها المريع والمفاجئ من أفغانستان، وعجزها عن حماية الأجواء السعودية والإمارتية أمام الهجمات الحوثية، وزاد في قلقهم المستجدات الروسية الجادة، الساعية إلى تغيير النظام العالمي، واستبدال القواعد الدولية القديمة، التي حكمت العالم لعقودٍ طويلةٍ، ومكنت أمريكا التي تدعمهم وتحميهم، من أن تكون سيدة العالم وأقوى دولةٍ فيه، والمتفردة في صناعة القرارات الدولية.
تلك هي مخاوفٌ إسرائيلية بلسانهم، وهواجسٌ حقيقة بأقلامهم، لا ينفكون يرددونها ويطرحونها، ويعلنونها ولا يخفونها، ويدركون حقيقتها وقسوتها، ويعملون في السر والعلن مع كل الأطراف لتجاوزها أو التقليل من مخاطرها، ولعل مقاومتنا التي تقوى وتشتد، وتتجذر وتتوسع، تدرك حقيقة مخاوفهم، وتعمل على انتهاز الفرصة والاستفادة من الظرف، وتحقيق الوعد الآخر والنصر المكين، وذلك ليس صعباً أو مستحيلاً، بل هو على الله عز وجل يسيرٌ وغير عسير، شرط أن ندخل عليهم الباب بثقةٍ وثباتٍ، "فإذا دخلتموه فإنكم غالبون".
بيروت في 24/4/2022
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت