- د. سنية الحسيني
ليست مستبعدة، الحرب على غزة، تبقى دائماً ممكنة، في ظل الاستراتيجية التي وضعها الاحتلال لضمان استمرار فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، لتحقيق أهداف سياسية إسرائيلية جوهرية في الحقبة الحالية، إلا أن مقاربة حكومة بينيت - لابيد السياسية عموماً تجاه التعامل مع قطاع غزة، وسياساتها الحالية تجاه التصعيد الأخير في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تشير إلى عدم رغبتها بشن حرب جديدة على غزة، الآن. كما أن التطورات الداخلية في إسرائيل التي تواجه هذه الحكومة ترجح أيضاً عدم نيتها حالياً فتح جبهة حرب مع غزة، وفتح جبهات تصعيد متعددة محتملة في فلسطين، ومع ذلك تبقى تطورات الأحداث في فلسطين مفتوحة على جميع الاحتمالات. وشهدت الأراضي الفلسطينية خلال الأسبوعين الأخيرين توترات طالت المدينة المقدسة بعد قيام شرطة الاحتلال بالاعتداء على المصلين في المسجد الأقصى خلال أيام شهر رمضان من ناحية، وحماية مسيرات المستوطنين المتطرفين للمسجد من ناحية أخرى، هذا بالإضافة إلى منع مسيحيي فلسطين من الدخول إلى كنيسة القيامة خلال أعياد عيد الفصح من ناحية ثالثة. وقوبلت ممارسات الاحتلال تلك بإطلاق صواريخ من غزة. وتذكر هذه التطورات بالإرهاصات التي سبقت حرب غزة الأخيرة في شهر أيار من العام الماضي.
تعتبر غزة جبهة حرب مفتوحة، إذ شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي أربع حروب على قطاع غزة، بدأتها بعد أحداث الانقسام وانفصال قطاع غزة بقيادة حركة حماس العام ٢٠٠٧، فجاءت أولها نهاية العام ٢٠٠٨، بينما شن آخرها في شهر أيار من العام الماضي. وتستخدم إسرائيل الانقسام الفلسطيني منذ ذلك الوقت، كذريعة أمام العالم للتنصل من التزاماتها في إطار العملية السلمية، وكوسيلة تساعدها في تحقيق أهدافها على جانبي الوطن الفلسطيني. فتمضي إسرائيل قدماً في ترسيخ وجودها في الضفة الغربية ومدينة القدس جغرافياً وديمغرافياً وثقافياً «التهويد»، دون رقيب أو حسيب. وتحتفظ إسرائيل بالوضع القائم في غزة، كـ»محفز إستراتيجي» يضمن دعم الاسرائيليين لسياسات الحكومات الإسرائيلية المختلفة لردع حركة حماس عسكرياً في غزة، ويخلق في نفس الوقت التعاطف المطلوب معها من قبل العالم والولايات المتحدة والدول الغربية، لصد هذا الخطر. وتخضع إسرائيل قطاع غزة لحصار مستمر، يضمن بقاءه في وضع اقتصادي ضعيف ومضبوط عسكرياً، تتدخل لردعه عند تجاوزه الحد الذي تضعه له، وتستخدمه أحياناً للخروج من أزماتها السياسية الداخلية.
في إطار الإستراتيجية العامة السابقة، وضعت حكومة بينيت – لابيد آلية جديدة للتعامل مع قطاع غزة بعد صعودها للحكم في إسرائيل، تختلف عن تلك التي اتبعها بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل السابق، منذ وصوله للحكم العام ٢٠٠٩. آثر نتنياهو إحكام حصاره الاقتصادي على قطاع غزة لإبقائه فقيراً حد الكفاف، بينما ردع بالقوة العسكرية غير المتكافئة أي هجوم عسكري من غزة، في سياسية وصفت بـ»الهدوء مقابل الهدوء». في حين تركز سياسة حكومة بينيت – لابيد الحالية على آلية مختلفة للتعامل مع القطاع، تقوم على أساس اقتصادي يمكن أن يحقق نوعاً من التعايش مع الاحتلال، وهي ذات الفكرة التي بنيت على أساسها فكرة اتفاقيات السلام مع الفلسطينيين منذ اتفاق أوسلو، والتي تمت الإشارة إليها أيضاً بوضوح في «صفقة القرن» التي طرحتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وليس من الصعب ملاحظة سياسة إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية التي ربطت بين أموال المقاصة والمساعدات الاقتصادية الموجهة للفلسطينيين مع الضغط على السلطة الفلسطينية لتبني سياسات تجاه رواتب الأسرى الفلسطينيين أو لفرض محتوى إعلامي ومناهج تعليمية لا تحتوي على معلومات «تحريضية» على حد تعبير تلك الجهات.
تركز الحكومة الإسرائيلية الجديدة في تعاملها مع قطاع غزة على مقاربة «الاقتصاد مقابل الهدوء»، لذلك سمحت بعد حرب العام الماضي بالبدء فوراً بإعمار قطاع غزة، بإشراف من مصر. كما قبلت باستمرار إدخال الأموال القطرية للقطاع، والتي بدأت بالتدفق إلى غزة منذ العام ٢٠١٨، لكن بشكل رسمي منضبط. كما أجازت إسرائيل للعمال الغزيين العمل في إسرائيل، بعد أن توقف ذلك الإجراء منذ العام ٢٠٠٥، وبأعداد كبيرة، وصلت إلى ٢٠ ألف عامل، وهناك حديث عن أعداد أكبر. ترجح هذه الاستراتيجية عموماً، ميل الحكومة الإسرائيلية الحالية لتحقيق الهدوء مع غزة على حساب توجه الحرب، باستخدام تلك المشاريع الاقتصادية الانفتاحية المتنوعة، وتفعيل سياسة «العصا والجزرة»، وهو ما تحقق بالفعل في الأزمة الأخيرة. فقد تدخلت الدبلوماسية المصرية بفاعلية للحد من تدهور الأحداث الأخيرة، وهي التي بات لها دور سياسي ملحوظ ومؤثر في غزة. كما أغلقت إسرائيل معبر بيت حانون لمدة يومين، بعد إطلاق الصواريخ من غزة مطلع هذا الأسبوع، وأعادت فتحه مباشرة بعد ذلك، بعد أن سادت حالة من الهدوء الهش.
بالإضافة إلى السياسة التي تبنتها مع غزة مؤخراً، وعلى رأسها الرد العسكري الشكلي أو غير الحاسم والذي لم يوقع ضحايا بشرية في صفوف الفلسطينيين كما هو مألوف، هناك مؤشرات عديدة ترجح توجه حكومة بينيت – لابيد لتبني المهادنة وعدم الذهاب للحرب مع حركة حماس خلال هذه الفترة. فجاءت تأكيدات حكومة الاحتلال بعدم السماح بدخول غير المسلمين إلى الحرم القدسي ابتداء من يوم ٢٢ من الشهر الجاري، في إطار تصاعد الأحداث للتخفيف من وطأتها، حيث أثار ذلك غضب نواب وشخصيات سياسية ودينية يمينية متطرفة، والتي اعتبرت قرار الحكومة الإسرائيلية رضوخا لـ»الإرهاب»، على الرغم من أن الحكومات المختلفة دأبت على اتخاذ هذا القرار في الماضي. ومنعت شرطة الاحتلال يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، «مسيرة الأعلام» التي نفذتها جهات يهودية يمينية متطرفة من الوصول إلى باب العامود، كما منعت كذلك النائب اليميني المتطرف إيتمار بن غفير من ذلك، حيث أكد بينيت أن تلك المسيرة ستجري في موعدها الأصلي وليس الآن. وتنظم «مسيرة الأعلام» جماعات يهودية يمينية متطرفة، بالتزامن مع احتفالات دولة الاحتلال بـ»يوم القدس» في ذكرى احتلال المدينة المقدسة، و»توحيد» شطريها.
وجاءت تصريحات يائير لابيد وزير الخارجية الإسرائيلي بعدم وجود نية لدى حكومة بلاده لتغيير الوضع القائم في الحرم القدسي، للتخفيف من وطأة التوترات مع الفلسطينيين أيضاً. وتدعي الحكومة الإسرائيلية بأن عدم سماحها لليهود بالصلاة في الحرم، جاء عملاً بتفاهماتها مع الحكومة الأردنية، التي تتولى مسؤولية إدارة الحرم. ويعتبر الفلسطينيون والعرب أن إسرائيل لا تلتزم بتلك التفاهمات مع الحكومة الأردنية وذلك بهدف تثبيت سيادتها على الحرم تدريجياً، من خلال السماح لليهود المتطرفين بالدخول إلى ساحات المسجد الأقصى للزيارة وأداء الطقوس الدينية تحت حمايتها الأمنية، ومساعيها الدؤوبة لإحكام سيطرتها على الحرم وساحاته من خلال تكثيف البناء حوله والحفر من تحته والسيطرة على بيوت الفلسطينيين القريبة منه.
تعتبر الظروف التي تمر بها الحكومة الإسرائيلية حالياً من أهم المؤشرات التي ترجح عدم مصلحتها بالذهاب إلى حرب مع غزة، الآن. وتواجه الحكومة الإسرائيلية تهديد الكتلة العربية الموحدة بالانسحاب من الائتلاف الحاكم في حال استمرت الاضطرابات في مدينة القدس وحول المسجد الأقصى. وقد أقدمت الكتلة بالفعل على إجراء تهديدي شكلي، بإعلانها تجميد عضويتها في الحكومة والكنيست بشكل مؤقت خلال عطلة الكنيست الحالية والتي تنتهي في الخامس من شهر القادم، لحفظ ماء وجهها أمام ناخبيها، لكن دون انسحاب حقيقي. وتمر الحكومة الإسرائيلية بأزمة، قبل ذلك التهديد بالانسحاب من الائتلاف الحكومي من قبل الكتلة الموحدة، وذلك لانسحاب النائب عيديت سيلمان من حزب «يمينا» من الائتلاف الحاكم في السادس من الشهر الجاري، والذي وضع مستقبل الحكومة الإسرائيلية بأسرها على المحك، بعد أن باتت تمتلك فقط ٦٠ مقعداً من مجمل مقاعد الكنيست الـ ١٢٠. ورغم أن ذلك لا يسقط الحكومة في إسرائيل، إلا انه يضعفها تشريعياً، ويفتح المجال أمام انسحابات أخرى قد تودي بحياتها، كما يتيح المجال أمام حل الكنيست والذهاب إلى انتخابات مبكرة، إذ يحتاج ذلك لإقراره إلى ٦١ صوتا، وهو ما لا تتمناه الحكومة الحالية، ولم تتفق حوله المعارضة المشتتة في الكنيست بعد.
كما شكل موقف الدول العربية المعتدلة الرافضة لاعتداءات إسرائيل في القدس ومحيط المسجد الأقصى عاملا من عوامل قرارها بالتهدئة، حيث دعت الأردن لاجتماع طارئ للجنة الوزارية الإقليمية العربية، والذي خرج ببيان ينتقد ممارسات إسرائيل في الحرم، ويصفها بالاستفزازية. كما استدعت دولة الإمارات، على خلفية تلك الأحداث، السفير الإسرائيلي لأول مرة منذ توقيع اتفاقية التطبيع بين البلدين. وجاءت تلك التطورات في ظل تحرك أميركي مكثف استهدف السلطة الفلسطينية والأردن وإسرائيل لتفادي انفجار الأوضاع في هذه الفترة.
تدرك إسرائيل أن تبني المقاربة الاقتصادية وسياسة العقوبات الاقتصادية على غزة يمكن أن يخلق حالة أمنية مصطنعة ومؤقتة، لكنها لن تمنع التصعيد العسكري في أي لحظة من اللحظات، خصوصاً عندما يتعلق الأمر باعتداءات غير مقبولة في مدينة القدس وتجاه المسجد الأقصى، والذي بات من الواضح أنه يشكل الشرارة التي يمكن أن تحرق المنطقة بأكملها. الاعتداء الإسرائيلي على المسجد الأقصى لم يحرك هذه المرة الفلسطينيين فقط أو الشعوب العربية كما هو مألوف، وإنما تجاوزهم ليشمل أيضاً الحكومات العربية المعتدلة، التي اتخذت جميعها موقفاً موحداً منتقدا لإسرائيل. لم تفهم إسرائيل حتى هذه اللحظة أن مشكلتها مع الفلسطينيين مشكلة سياسية بامتياز تتعلق بالاحتلال، وأن الحلول الاقتصادية ما هي إلا حلول تخديرية مؤقتة، لا يمكن لها أن تحسم معركتها وصراعها المزمن مع الفلسطينيين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت