رحلت قبل يومين في بلدة عارة (35 كم جنوب حيفا)، صبحية يونس، صاحبة أطول انتظار لعناق عرفته فلسطين.
مضت صبحية (88 عاما)، بعد صبرها وتحملها 39 عاما ونصف العام بانتظار تحرر نجلها كريم يونس (63 عاما) من سجون الاحتلال الإسرائيلي، قبل أشهر قليلة من انتهاء محكوميته البالغة 40 عاما.
ولعلها تكون أطول مدة انتظار عرفها العالم، لأم على مشارف التسعينات، تنتظر منذ السادس من كانون الثاني 1983 عودة ابنها البكر، تُربي وتسقي كل صباح الأمل والقوة والصوت والإحساس والأنفاس والزعتر والحكايات والسنوات الطويلة، للحظة الأولى التي سيرتمي فيها "كريم" في حضنها.
رحلت صاحبة "يا مندرا"، وهو لفظ عامي يعني التمني والأمل بحدوث انفراج وفرح والحصول على واحد من الطموحات التي يتمناها ويطلبها الانسان، وعادة ما تقال بنبرة حسرة وكسر، رحلت وهي تردد: "يا مندرا يا كريم أشوفك فايت ع البيت".
جملا متقطعة، غلبها القهر والبكاء الداخلي، خرجت من فم صبحية في أحد التقارير المصورة لتلفزيون فلسطين:
"أمنيتي يطلع وأعيش معه سنة زمان على الأقل"..
"أفرح فيه وهو بلف حدي.. هذا كل اشي بتمناه من الله"
"إن شاء الله انه يطلع وأفرح فيه"
في 25 أيار الفائت -23 رمضان- أي قبل عدة أيام فقط، وخلال افطار جماعي في بيت الأسير يونس، قالت صبحية بنبرة طغى عليها التقدم في العمر ودموع الانتظار: "بعد فيهن باليوم والساعة، بستنى وينته يخلصن ويطلع"..
40 رمضان مرت على صبحية وهي تفتقد كريم على مائدة الطعام، واصفة تلك اللحظة "بتضيق الدنيا فوجهي لما أشوف إنه مش معنا على الطاولة".
توفي والد كريم في الذكرى الـ30 لاعتقاله، ففي تاريخ 6-1-2013 دخل إليه مروان البرغوثي وخالد الأزرق ليعزيانه، دون أن يكون قد علم بعد برحيل والده، فتحدثا إليها بعبارات من سبيل: شدة وبتزول، الله يهونها عليك، ليرد عليهم كريم: هذا وضعنا للأسف وحالنا، أتمنى ألا تصلوا للرقم الذي وصلت اليه، 30 عاما خلف القضبان.. لكنهما صححا: لا، نحن لم نأتِ لنواسيك بهذه السنوات الطويلة من السجن إنما بوفاة والدك، هنا انهار كريم وسقط على الأرض مغشيا عليه، ليستفيق في عيادة السجن، مصدوما وحزينا.
يُشار إلى أن الأسير كريم يونس هو عميد الأسرى الفلسطينيين، وعضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، ولد في الـ23 من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1958، في بلدة عارة في أراضي العام 1948، وهو الابن الأكبر لعائلته.
اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي الأسير يونس في السادس من كانون الثاني/ يناير عام 1983، وحكمت عليه بالسّجن المؤبد، جرى تحديده لاحقا بمدة (40) عاما.
أحب كريم يونس في طفولته البرية والساحل والجبل والوادي والتل، السباحة والرياضة بأنواعها، والمشي.
مثقفا، كاتبا، وصاحب خط عربي أنيق، ورساما، يرعى الأغنام ويبني مع والده الحظيرة، وناشطا اجتماعيا ومبادرا لتوفير الخدمات والبنى التحتية في البلدة، كتعبيد الشوارع، وانشاء ملعب لكرة الطائرة.
توفي من أقاربه وهو داخل السجن: أربعة أخوال، وخالتاه، وعمتاه، وجداه وجدتاه، فيما ولد لأشقائه الثلاثة وشقيقتيه أكثر من 20 نفرا، لم يشاهدهم كريم إلا عبر الصور.
رفيق دربه الأسير ماهر يونس، الذي أمضى معه حتى اليوم 40 عاما في السجون، ولد في الـ6 من كانون الثاني/ يناير 1958، وهو من قرية عارة في أراضي العام 1948، ومن عائلة مكونة من خمس أخوات، وأخ، واعتقلته قوات الاحتلال في الـ18 كانون الثاني/ يناير 1983، وحكمت عليه بالسجن المؤبد، جرى تحديده لاحقا بـ40 عاما، وخلال سنوات اعتقاله توفي والده وذلك عام 2008.