الأسير كميل أبو حنيش
(سجن ريمون الصحراوي)
اسمحوا لي في البداية أن أبرق لكم باسمي وباسم إخواني ورفاقي الأسرى في السجون الاحتلالية الصهيونية أسمى التحيات وأصدقها، ونشد على أياديكم جميعًا كل باسمه ولقبه ونثمّن دوركم وجهودكم وأنشطتكم وفعالياتكم بما فيها هذا المؤتمر الهام الذي يساهم في تسليط الضوء على قضية الأسرى الفلسطينيين بوصفها إحدى القضايا السياسية والإنسانية اللافتة في القرن الحادي والعشرين، ارتباطًا ببعدها التحرري والنضالي والأخلاقي الذي كان يخوضه شعبنا منذ أكثر من قرن ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني العنصري.
أيها الحضور الكريم:
يتعين علينا في البداية أن نؤكد أننا لسنا مجرد قضية إنسانية وحسب تستدعي الشفقة والتعاطف وإمطارنا بالمديح والإجلال والإكبار، وإنما نحن جزء من حركة شعبنا التحررية في سبيل الانعتاق من السيطرة الاستعمارية الصهيونية، وبهذا ينبغي النظر إلى قضيتنا من هذه الزاوية أولًا، مع الإشارة لدورنا في المعركة التحررية وما تنطوي عليه ثانيّا من معان ومعانيات إنسانية.
إنَّ وصفنا من قبل السلطات الاحتلالية بالأسرى الارهابيين لا يلغي من حقيقة الاحتلال بوصفه استعمارًا إحلاليًا عنصريًّا يحتل بلادنا ويهيمن على شعبنا بقوة السلاح، فنحن مناضلون في سبيل الحرية والخلاص، ننتمي لشعب يخوض أبناؤه نضالهم العنيد ضد ممارسات الاحتلال الصهيوني ووسائله القمعية، وهذه حقيقة يعرفها العالم أجمع مهما حاولت شريعة الغاب السائدة في هذا العالم وصْمَ نضالنا ونضال شعبنا بالإرهاب، وبهذا المعنى فإنَّ قضيتنا كأسرى هي قضية سياسية وإنسانية وأخلاقية في ذات الوقت.
لذا استهدف الاحتلال الاسرائيلي منذ أكثر من سبعين عامًا مختلف فئات وشرائح الشعب الفلسطيني، ولم تسلم المرأة والرجل والطفل والكهل من سيف الاعتقال المسلط على رقاب شعبنا ،حيث دخل السجون الإسرائيلية منذ العام 48 ما يناهز المليون فلسطيني وعربي وأممي، لترتفع وتيرة هذه الاعتقالات منذ العام 67 وشملت مئات الآلاف من الفلسطينيين، ولا يزال يقبع حتى الآن ما يفوق خمسة آلاف أسير فلسطيني يعيشون في ظروف قاسية، أمضى عدد كبير منهم أكثر من عشرين عامًا في الأسر، ووصلت بعض الحالات إلى حد الأربعين عامًا كحالة الأسرى نائل البرغوثي وكميل يونس وماهر يونس، وهناك أسرى كبار في السن وأسرى مرضى ، وكذلك النساء والاطفال، أمَّا الأدهى في الممارسات الاحتلالية، فيتمثل باحتجاز جثامين الشهداء من الأسرى وحرمان ذويهم من وداعهم ودفنهم بكرامة، ويصر على الاحتفاظ بجثثهم في مقابر الأرقام أو ثلاجات الموتى بصورة تنم عن فاشية هذا الاحتلال ولإنسانيته وساديّته.
لقد تحولت سجون الاحتلال الإسرائيلي في العقدين الأخيرين إلى معسكرات تشبه المعسكرات النازية، وإن بدت في الظاهر أنها خاضعة للقانون ويتمتع فيها الأسرى الفلسطينيون ببعض الحقوق الإنسانية: كالزيارات العائلية، والسماح بالشراء عبر الكانتين ، أو زيارة المحامي، وغيرها، لكن هذه الحقوق البسيطة التي يحظى بها الأسير ما هي إلا ستار يحجب وراءه ممارساتٍ احتلاليةً غاشمة ، فالسجون الإسرائيلية اليوم كما بالأمس كانت ولا زالت تشكل المكان الأمثل لتعذيب الأجيال الفلسطينية ومحاولات كسر إرادتها، وهي اليوم تستخدم وسائل حديثة تستهدف الوعي وإنسانية الاسير، فهذا الأسير الذي يُمضي عقودًا من عمره بين الجدران وخلف الأبواب الموصدة، لا يتاح له لقاء الأحبة والأهل، ويتعرض للقمع والإذلال اليومي، ومحروم من أبسط حقوقه ، ويجري الاعتداء الجسدي عليه بين الفينة والأخرى، وإرهاقه بالتنقلات بين السجون، وإثقاله بالغرامات المالية والعقوبات، كالحرمان من زيارة الأهل ، والزنازين، كما أن إدارة السجون باتت تستخدم اليوم أكثر من أي وقت مضى أدوات المراقبة الشاملة والتحكم بحياة الاسير داخل السجن بصورة تامة، أمَّا الإجراءات الأمنية المتبعة فهي إجراءات متعددة وطويلة على مدار اليوم، كالعدد والفحص الأمني، والتفتيشات التي يجري تنفيذها في الليل وفي النهار ،علاوة على فرق القمع المجهزة بأحدث الوسائل لقمع الأسرى والاعتداء عليهم كفرق : المتسادا، والدرور، واليماز.
أمَّا أهالي الأسرى فلهم نصيب كبير من المعاناة على أيدي السلطات الاحتلالية ،حيث يجري احتجازهم لساعات على الحواجز العسكرية وعلى بوابات السجون، والاعتداء عليهم وإهانتهم، واعتقال البعض منهم في كثير من الأحيان، وهو ما يحول السجن إلى وسيلة تعذيب يومية للإنسان الفلسطيني بشكل عام.
أمَّا الوجه الآخر للممارسات الاحتلالية فيتمثل باستغلال الاسرى الفلسطينيين من خلال تحويل السجون إلى أسواق لتصريف البضائع الاسرائيلية الكاسدة وبأسعار أعلى من مثيلاتها في السوق الاسرائيلية، بعد اتباع سياسة تقليص ما تقدمه إدارة مصلحة السجون للأسرى من مواد غذائية ومنظفات وغيرها، وإرغامهم على شراء هذه المواد على حسابهم الخاص من الكانتين، مما يدر على الاحتلال بأرباح طائلة تقدر بعشرات ملايين الشواقل سنويًّا مما يحول السجون إلى أداة للاستغلال الاقتصادي، إلى جانب استغلالهم سياسيًّا وحرمانهم من أية امتيازات ثقافية أو أكاديمية او ترفيهية.
أيها الحضور الكريم؛
إن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي وهم يخوضون معركة التحرر الوطني جنبًا إلى جنب مع أبناء شعبهم، فإنهم في ذات الوقت يناضلون داخل السجن من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية والإنسانية من خلال وسائل نضالية مختلفة، ابرزها: الإضرابات المفتوحة عن الطعام، فلقد خاضت الحركة الاسيرة طوال تاريخها عشرات الإضرابات عن الطعام وهي الوسيلة الوحيدة التي كانت تجبر إدارة السجون على الإذعان لمطالب الأسرى المشروعة، حيث تحققت مئات الإنجازات طوال العقود الماضية بفعل نضالات الحركة الاسيرة العتيدة بدءًا بالقلم والكتاب ، وليس انتهاءً بالزيارات العائلية، وتحسين بعض الشروط الإنسانية، وعلينا ألا ننسى سقوط عدد من الشهداء أثناء الإضرابات.
كما ينبغي التأكيد على صورية المحاكم الاسرائيلية وزيفها، فهي محاكم جائرة وردعية، ولا تلامس الحد الادنى من شروط العدالة المعروفة، وهنالك تواطؤ كامل بين المحاكم العسكرية والنيابة التي تمثل السلطة الاحتلالية، وغالبًا ما يتبنى القضاة وجهة نظر الادعاء ويفرض أحكامًا عالية على الأسرى، إلى جانب الغرامات المالية الباهظة.
أمَّا الحكم بالسجن المؤبد فهو من الأحكام القاسية التي تفرضه سلطات الاحتلال على الأسير الفلسطيني، وتحدده هذه السلطات بمدة لا تقل عن تسعةٍ وتسعين عامًا، وعندما يموت الأسير المحكوم عليه بالسجن المؤبد فإن جثمانه لا يسلم لذويه ليدفن بكرامة، وإنما يجري احتجازه في مقابر الأرقام، كما ويستخدم الاحتلال سيف الاعتقال الإداري الذي يستهدف المئات من الفلسطينيون سنويًّا من دون أيَّةِ تهمة محددة، وهي وسيلة أخرى من وسائل الإخضاع وتشويش الحياة الاجتماعية الفلسطينية.
أيها الأخوة والاصدقاء:
لقد ساهم نضالنا الاعتقالي بتحسين ظروف حياتنا داخل السجن، فبفضل الإضراب عن الطعام صار بوسعنا إدخال آلاف الكتب، ونثمّن مبادرة "لكلّ أسير كتاب" التي أطلقها المحامي الحيفاوي حسن عبادي ودخلت بفضلها آلاف الكتب للسجون، وتمكنّا من تحويل السجون إلى مدارس وجامعات، وثمة أنشطة ثقافية واجتماعية ورياضية متنوعة، وأيضًا ثمة أدباء وشعراء وفنانون ومثقفون في مختلف ساحات السجون، وطوال أكثر من نصف قرن تمكنت أجيال من الأسرى من تطوير مجتمع الأسر، له ثقافته وأعرافه وتقاليده وأخلاقياته، مما ينسجم مع التجربة الكفاحية الفلسطينية ،وبما تنطوي عليه هذه التجربة من معان انسانية وقيمية.
إننا كأسرى فلسطينيين عشاقُ حرية وسلام، ولهذا قاتلنا من أجل الحرية والسلام، وإننا واذ نخاطبكم فإننا نطالبكم بالالتفات إلى ما يجري داخل السجون الإسرائيلية، وفضح الممارسات الاستعمارية العنصرية بحقنا، وتجريد إسرائيل من سمة الدولة الديمقراطية ودولة القانون، وكشف النقاب عن جرائمها بحق شعبنا طوال العقود الماضية.
نشكركم التحالف الأوروبي لمنتصرة أسرى فلسطين على هذا المؤتمر ونشد على أياديكم جميعًا، ولكم مني ومن عموم الأسرى أجمل باقات المحبة والتقدير.
*** ألقت المداخلة في المؤتمر السابع للتحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين نيابة عنه الأسيرة المحرّرة دارين طاطور يوم الأحد 19.06.2022 في مالمو السويديّة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت