في ذكرى الشاعر محمد عفيفي مطر بين اللحم وسلك الكهرباء

بقلم: المتوكل طه

المتوكل طه.jpg
  • المتوكل طه

***

يهربُ القلبُ أمام النيل المخضّل بخضرته الداكنة، ويفتحُ نوافذه لهذا الوحش البهيّ المروَّض الذي وهب البقاء للأرض وأبنائها! فجمال هذا البحر المنسرب العريض محمول على مشاهد حياةٍ تكاد تكون الأثرى، في تفاصيلها ومضامينها، عبر آلاف مؤلّفة من سنوات تراكم الحراك والبذل والإبداع، الذي ما فتىء يذهل الدنيا بأسراره ومشغولاته وصموده.

ومن تلك الضفاف الأصفى والنجوع، نبت الشعراء كالمانغو الساخنة التي أذابت سُكّرها في الأخاديد والجراح، وأطلقت مع أجنحة الطيور رهافة القول ليكون الغد أكثر معقولية لكل الأجنّة الطالعة من الزوايا والزهور والحرائق الصغيرة، وليكون المزمار أكثر قدرة على الذّبح والغناء.

ولربما كان لا بُدّ من الاحتفاء بواحد من شعراء النيل المنسيين، لنقول إننا بتكريمه، في ذكراه الوارفة ، إنما نُكرّم كل تلك القامات العالية التي بعثت الروح في جسد الكلام الصعب، في مصر المحروسة، كنانة الأمّة، ونقصد، بالضرورة، كل الشعراء والمبدعين، الأحياء منهم والأحياء، من حدّاد وجاهين إلى الأبنودي ونجم، ومن أمل دنقل إلى شاعر يتلعثم الآن بقصيدته البكْر في الصعيد أو البعيد.

إن ميزة الشاعر العربي الكبير عفيفي مطر العليا أنه استطاع ليس فقط، محاكمة لحظته، وإنما محاكمة السيء من تاريخ أمّته، فقد رأى أن سوء اللحظة التي يعيش هي مراكمة لكل ذلك السوء والرداءة في ما مضى. لقد استطاع محمد عفيفي مطر- هذا الشاعر المنسي أو المُغيَّب - أن يقدم صيغة مبدعة لعلاقة الشاعر/ المثقف بالسلطة وإفرازاتها وهيمنتها وما تضعه حولها من نخب تتبنّى وتردد أطروحاتها، خالقة بذلك "ظلاماً" كثيفاً يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية ويغتال البصيرة والحياة.

إنّ مفردة "الظلام" التي يستعملها الشاعر محمد عفيفي مطر هي من أكثر المفردات تكراراً في دواوينه.

الظلام الذي يعيشه الشاعر ليس فقط، في زنزانته التي يسميها "جحيماً" وإنما في لحظته المعيشة وفي تاريخه. إن ما يعانيه ويكابده الشاعر جعله يرى الأشياء من جديد ويقرأ التاريخ بعيون وروح جديدة، أو لنقل، بنظرية جديدة هي نظرية "الخوف من الخوف".

وما بين "الظلام" و"الخوف" يكون الموت، وفي هذه الكآبة، والقتامة، تلد قصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر، قصيدة تضجّ بالألم والفزع والكوابيس والرؤى المقتولة والأماني المغدورة ووجوه الأحبّة الموتى والمدن التي يسكنها الأشباح ،كما أنها قصيدة مُركّبة تستند إلى الأسطورة التي يُعيد إنتاجها بلغة حداثية فلسفية، تؤكد أن صاحبها شاعر يستحق الاحترام.

ولعله لا يرى من عصره سوى "طائر الخوف" و"عصر العسس"، فهو لا يملك إلاّ "سجع الأقدمين". وفي ذرى إحساسه بكامل الهزيمة وقلّة الحيلة نراه يدرك بلاغةَ صمت الذبيحة وجلدها لذاتها!

ومحمد عفيفي مطر، الذي يرتفع بمأساته الشخصية إلى قمة أخرى وقاع آخر، يكشف كل أوراقه لنا في لحظة اعتراف هي قبل لحظة الذبح "البليغ"، فنجده يقرّع نفسه المنتشية بالخرائب والذكريات، وحيداً، يعقد أنشوطة المجاز الشعري من حبال المشنقة. ما يفسّر أن وزن قصيده من تفاعيل الجنون والاستباحة والدم المجانيّ، وشكل قصيدة من رغام الهزائم.

ونسأل: كيف لشاعر أن يعيش هزيمة ويكتوي بنارها ومن ثم يعبّر عنها بكامل الأناقة والرفعة؟!

كيف للشعر أن يدخل إلى فضائه كل هذا القبح وكل هذه البشاعة؟!

كيف للشاعر أن يتحوّل -كالعادة- إلى نحلة تمتص أزهاراً متوحشة ليصنع من رحيقها عسلاً مرّاً؟!

أما وطن الشاعر فهو رحيب خصيب، لكنه مكتوٍ بالعسس والخوف، ومساحة هذا الوطن تُختصر في المسافة الواقعة ما بين لحم الشاعر وسلك الكهرباء! في حمأة لحظة ثقيلة هي زمن السجن الذي يسمّيه دائماً بالجحيم، الذي يتجاوز في رُعبه جحيم دانتي المليء بالمهاوي والمستنقعات والأسوار النارية.

 أما السلطة التي تحوّل الوطن إلى مجرد المسافة بين اللحم الحي وسلك الكهرباء، فلا يبقى للشاعر سوى أن ينادي" الأشباح" بأن يقوم فيها "درويش من الأموات" يركض في سهوب الموت..

عالم محمد عفيفي مطر هو كذلك.. ظلام وخوف وموتى وعذاب وألم مقيم.. ويكاد الشاعر يفقد كل أمل لأن المشاعل تخبو، والظلام يشمل في عباءته كلَّ السهول!

إن تجربة الشاعر في سجون السلطة ومواقفه التي خالفتها، جعلت منه حساساً لما كان، ومتيقظاً لكل الاخفاقات، وإيمانه القوي والوطني دفعه إلى أن يتساءل حقاً عن مسلماته ، بعد أن غرق الجميع في حمأة الاشتباه، لهذا لا يرى في لغته إلاّ لغواً ينطق به، على طريق أن يقوده هذا اللغو إلى اكتشاف البرق في الغيم والنبض في الطين.

ولعله من الطبيعي أن يكون موقع الشاعر السياسي والكفاحي ومجموع مواقفه الوطنية والقومية، قد جرّت عليه السجن والتعذيب والطرد من العمل ومقاربة الجوع والنكران، ولكنه لم ينكسر ولم يضعف، لهذا يصيح أمام الجميع ليكشف الخديعة الكبرى، وليعرّي ما يجري دون مواربة.. ما يبرر بشاعة تلك الصور المقيتة لحال الشَعب المُستَلبَ المرتجف برداً وجوعاً وخوفاً، من قبل جلاّديه الذين يجدون غطاءً وتبريراً فجّاً من أبواق الصحافة المأجورة والأقلام التي باعت ذاتها لخسران والشيطان.

إن ثورة الشاعر ثورة متكاملة بشقيها السياسي والاجتماعي، يعرف مصادر الخلل ويشير إليها ويحددها دون وجل أو تردد. هو يعرف أن المثقف الحديث "مضطر" أو دُفع إلى أن يربط مصالحه بمصالح السلطة وأن يطوّع مواقفه من أجلها، ولهذا فإن "الديوث الجديد" هو "الصحف".

أما شاعرنا فيطلب إليه أن "يعترف" وهو يعاني " سياط الكهرباء بين القيد والظلمات السود"، فماذا يكون اعترافه؟!

يعترف الشاعر بأن الكلاب هي الملوك الحُكّام، أما الحُكّام الحقيقيون الملوك المتربّعون على عروشهم فهم بيادق ودُمى، وأن كراسيهم على أرض تجرفها جيوش الروم الذين يقبضون على عنق الأرض بما سرقوا وبما نالهم من دعم من تلك الأنظمة المُكرّسة لخدمتهم.

إن شاعرنا، هنا، يذكّرنا بالمثقف الثوري المأمول وبضرورة ولادة مثقف جديد ليعيد الأمور إلى نصابها القديم.

إنه شاعر يعيد إلينا ما قد نسيناه ويذكرنا بما يريدوننا أن ننساه.

إننا نحتفل بحضور هذا الشاعر الباقي بيننا، لأننا نحتفل بروايته ونضاله ومواقفه، ونحتفل بشاعر تصدى لعصره وللسائد فيه، نحتفل برؤية لم تعد تُفتح لها المنابر ولا المسارح، نحتفل برؤية مستقبلة مضيئة، ترى في نفسها "فزّاعة الطير في حقول الفقراء." نحتفل بهذا الشاعر لانحيازه وإيمانه بنا وبماضينا ومستقبلنا، ولأنه لا يعبد التماثيل في الشوارع ولا يضيء الشموع لها، ولكنه -في المقابل- يضيء لنا مشاعل تطرد الظلام وتوقظ الموتى ليركضوا في براح الحياة وليس الموت.

إنه شاعر يعاني الموت، ولكنّه يغنّي للحياة حقاً.

وهو شاعر قضى وقتاً طويلاً في السجن والمرض ولكنّه غنّى للحريّة والشمس.

إن محمد عفيفي مطر من الديناصورات القلائل الباقين على خط الدفاع الأول عن الثوابت والمبادئ الكبرى، في عصر الانفتاح والاستهلاك وطوفان العولمة الذي طمر معه أحلام الوحدة والمساواة والتحرير، وأشاع ثقافة الهزيمة محاولاً استدخالها في روح الأجيال الطالعة، ليتم مشروع الخنوع للنقيض ويتمّم بذلك استراتيجياته الهادفة إلى النهب والتذرير والسيطرة المُطلقة، لهذا نجد هذه الجبهة الشيطانية، بكل رموزها وأدواتها تحارب صوت شاعرنا المنحاز لقومه وأرضه، ولم يبارح آماله المحروسة بعنايته الفائقة.

ونحن هنا، نحتفل بهذا الصوت القوي وبهذه الرؤية الواعدة، لأننا نؤمن بأن الشاعر يجب أن ينحاز كليّاً إلى كل ما هو خير وجميل وحُرّ، ولا يجوز أن نقبل نصف ذلك، لأن نصف الحريّة تعني بقاء نصف العبودية.

ولربما لن يحظى شاعرنا بحاضر نظيف لا سجون فيه ولا عسس ولا محاكمات لفلاسفة وصوفيين وشعراء.. بمعنى قد كان شاعراً دون مستقبل، لكنه أدرك أن المستقبل كلّه له، ذلك المستقبل الذي نراه يتوالد من نسيج شعره العميق الآتي من دفاتر الأنبياء القدماء، ذلك لأنه شاعر حقيقي ينافح عن الحقيقة، فلا بدّ له إلاّ أن يرتمي في لزوجة السجن والمهانة والأسداف، فالدمُ حبر الحقيقة، مثلما أن الموت مهرها أيضاً.

إن شاعرنا مطر من الأصوات الماسية النادرة التي ظلت تَمُور بنارها المقدسة في ليل العرب المهزومين، في بقاعٍ تغطّيها أشلاء الرُضّع والطيور والشيوخ، حيث شاهدنا ذلك الصمت المريب، من جلّ المثقفين، من المحيط إلى الخليج، والمتماهي مع ما يجري في العراق وفلسطين، كأن الأمر كان يعني غيرهم، وكأن دهم المجنزرات عظام الأمهات في بغداد ورفح ينبغي أن يوقظ سواهم من أصحاب الكلام، أو أن الدوس على المقدسات والخرائط والآيات يجب أن يستنفر ذائقة الشعراء في عالم بعيد عن عالم العرب والمسلمين، في وقت رأينا فيه العديد من هؤلاء الجهابذة الأفذاذ ينافحون عن مقولات نظام الغرب القاتل، أو يتصدّون لأي مداخلةً عنيفةً تستهدفه، اعتقاداً منهم بأنهم يحققون عبقريتهم ويرضون ضمائرهم أمام أولئك المغتصبين الذين باتت أوراق البنكوت والجوائز والشهادات في أيديهم.

كان محمد عفيفي مطر صوت الحق الباقي، صوت العروبة والإسلام والمقاومة المشروعة، ونداء العدل الذي يجب أن يعود حتى لا تظلّ الموازين مختلة، وحتى لا يبقى التمايز الاجتماعي والإنساني صفة مؤذية سرمدية.

ولعل هذا الشاعر هو النموذج الذي لا بُدّ من نسخه وإشهاره وتعميمه، ليكتشف القارئُ الفارقَ الجارح بين الشِعر الشاهر سيفه بالحق وبين الشِعر الحامل ذُلّه وصليبه بضمور وانكسار وتسوُّل.

ولأننا، الآن، بحاجة ماسّة إلى هذا المثال المضيء وهذا النموذج الجامح الواضح فإننا نتذكّره، ونعلن فرحتنا التاريخية به، انتصاراً منّا لقضايانا وثوابتنا العروبية والوطنية والاجتماعية والإنسانية والعقدية، وتأكيداً على أن مقولتنا باقية لتسهر على حراسة أحلامنا حتى ينبلج فجر ليس ببعيد.

ولعلّي أكثر إحساساً بشاعرنا محمد عفيفي مطر، ذلك الذي واصل رسم دائرة الضوء في  المعتقلات والسجون التي لا تُحصى، من رواية "شرق المتوسط" إلى "الأقدام الحافية" ومن قصيدة "الكلاب" ورصاص "البريء" إلى آخر مقطع يكتبه الآن معتقل فلسطيني في سجون الاحتلال، منسيّاً وراء العقرب المخاتل في زمن السلام الجنائزيّ والسيدة العمياء العدالة!

إننا في زمن يغلب فيه تاجرُ الجلود الشاعرَ أو الفيلسوفَ، لكننا نحلم أيها المحمد بمدينة إلهية ترى فيها أبناءك الحكماء العشاق، وليس أولئك الخنوميين الذين يواصلون قرع أجراس الرعب ويملأون العربات بالعبيد.. وإننا نحلم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت