خاطب نائبُ الأمينِ العامِ للجبهةِ الشعبيّة لتحرير فلسطين جميل مزهر الشهيدَ غسّان كنفاني في الذكرى الخمسين لاستشهادِهِ قائلا:
في الذكرى الخمسين لاستشهادِهِ؛ تموتُ الأجسادُ لا الفكرة... عهدُ الأوّلينَ ووصاياهم يحفظُها التابعون...
قبلَ خمسينَ عامًا، وفي مثلِ هذا اليوم؛ امتدّتْ يدُ الغدرِ الصهيونيّة لتطالَ رائدَ الأدبِ المقاوم وعميدَه، الشهيدَ الأديبَ المفكّرَ والمناضلَ الوطنيَّ والقوميَّ عضوَ المكتبِ السياسيّ للجبهةِ الشعبيّةِ الرفيق غسّان كنفاني.
في ظلالِ هذه الذكرى لانبعاثِ فكرِكِ وتجدُّدِهِ الذي ملأ الدنيا التزامًا وتمسّكًا بالثوابتِ فكرةً وتبشيرًا بالثورة؛ وعلى الأرضِ التي حفظت جسدَك، وتحت عيونِ السّماءِ التي شاهدت جريمةَ اغتيالِكَ الآثمةَ على أيدي مجموعةٍ عنصريّةٍ مجرمةٍ ستزولُ حتمًا عن الوجودِ طالَ الزمنُ أو قصر.
خمسون عامًا على رحيلِكَ وما زلتَ حاضرًا بيننا بفكرِكَ وأحاسيسِك، بعشقِكَ لفلسطين، بإنسانيّتِك، بقلبِكَ المرهف، بكلماتِكَ الثوريّةِ التي ما زالت تصدحُ في ساحاتِ المواجهةِ وميادينها، فأنتَ من آمنَ بأنَّ كفاحَنا طويلٌ ومرير، وأنَّ الحرّيّةَ لن تتحقّقَ إلا بالتضحيةِ والمقاومةِ والبندقيّة. فقد قاتلتَ فعلًا الحركةَ الصهيونيّةَ بسلاحِ الأدبِ والفكرِ والكلمة، وكان قتالًا لم يستطع العدوُّ الصهيونيُّ أن ينتصرَ فيه، فقد كنت أنت بالفعلِ كتيبةً فكريّةً مُسلحةً تُشكّل خطرًا على العدوّ "باعترافِ رئيسةِ وزراءِ العدوِّ المجرمة "غولدا مائير". وصدقتَ رفيقي الشهيد بأنَّ الكلمةَ يجبُ أن تكونَ وسيلة، وتَتحّولَ إلى حجرٍ في يدِ الأعزل، وجوادٍ تحت رجلٍ طريد، إلى رمحٍ في يدِ فارس، إلى ضوءٍ في عينيْ أعمى. هكذا ننهلُ دائمًا من قاموس كلماتِكَ لتكونَ لنا بوصلةً ترسمُ لنا معالمَ التحرير.
وكنتَ أكثرَ إدراكًا بأنَّ رحلةَ العذابِ الطويلة، والتيه في الصحراء، لن تنتهيَ إلا بالتحريرِ والعودة، وشعبُنا لن يظلَّ حبيسَ جدرانِ خزّانِ النكبةِ والخنوعِ العربيّ، ومشاريع الاستسلام، فسينتفضُ مشمّرًا عن سواعده، مطلقًا العنانَ لانتفاضةِ التحرير. فشعبُنا يا غسّان تحرّرَ من أوحالِ الهزيمة، ومن قيودِ أبي الخيرزان؛ ليبنيَ جسرَ عودتِهِ إلى حيفا ببنادقِ الثائرينَ والمقاتلينَ وطلقاتهم وصواريخهم، فالإنسانُ في نهاية الأمرِ قضيّة، ولا يوجدُ أنبلُ وأعدلُ من قضيّةِ فلسطينَ ليضحيَ الإنسانُ من أجلها.
رفيقي فارس فارس:
أرادَ العدوُّ باغتيالِك طمسَ روايةِ شعبنا، وإذ أنتَ عائدٌ إلى حيفا في كلّ مساء، فخالدٌ ليومِنا هذا باقٍ في وجدانِ الشعبِ وذاكرتِه، مُنتزعًا من العدوِّ جنّته، وأرّخ للثورةِ جدواها المستمرّة.
مُنسجمًا مع هُويّتك الطبقيّة، فقد كشفتَ عورةَ الفاسدين رفيقي، فأنتَ القائل: "هذا العالمُ يسحقُ العدلَ بحقارةٍ كلّ يوم"، و"يسرقون رغيفَكَ ثمَّ يعطونك منه كِسرةً ثمّ يأمرونكَ أن تشكرهم على كرمهم يالوقاحتهم"؛ لتُجسّدَ في أدبِكَ برنامجًا ديمقراطيًّا مطلبيًّا، سعيت خلالها لتعزيز معركةَ الصمودِ جزءًا لا يتجزّأُ من معركةِ التحريرِ والحرّيّة. ورأيتَ في الحرّيّاتِ والمساواةِ شرطًا مهمًّا لتحرير المرأة. نعم رفيقي كان صوت أم سعد دائمًا بالنسبة لك هو صوتُ تلك الطبقةِ الفلسطينيّةِ التي دفعت غاليًا ثمنَ الهزيمة، وهي ليست امرأةً واحدة، ولولا أنّها ظلّت جسدًا وعقلًا وكدحًا في قلب الجماهير وفي محورِ همومِها وجزءًا لا ينسلخُ عن يوميّاتها، حاملًا نبوءتك لابنةِ أخيك الشهيدة لميس في رواية "القنديل الصغير": لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفةٍ مغلقة" لتؤكّدَ لها أنّ الحزنَ والبكاءَ لا يحلّانِ المشكلة، وأنّ الخلاصَ والحلَّ جماعيٌّ، ولا يستطيعُ فردٌ وحدَهُ مهما بلغت قوّتُهُ أن ينتصرَ في المعركة.
وعن صمودِ المخيّماتِ كتبتَ رفيقي في رائعةِ أرض البرتقال الحزين (لقد حاولوا أن يذوبوني كقطعة سكّر في فنجان شاي ساخن..). ولا ننسى رفيقي أنّك كنت دومًا مدافعًا عن الكادحين، واعتبارهم مادّةَ الثورةِ وأصحابَ المصلحةِ بانتصارها، فأنتَ القائل: "في صفاءِ رؤيا الجماهير تكون الثورةُ جزءًا لا ينقسمُ عن الخبزِ والماءِ وأكفّ الكدحِ ونبض القلب".
رفيقي العزيز غسّان:
ما زال رفاقُكَ يسيرونَ على جمرِ المبادئِ التي خطّها قلمُك، وبدمِكَ رسمتَ حدودَ الوطن، ورفعتَ شعارَ كلِّ الحقيقةِ للجماهير، لتثبتَ بأنَّ الفكرةَ النبيلةَ والثوريّةَ كالرصاصةِ والبارودة. فقد أرسيتَ بأدبِكَ وأفكارِكَ ومعتقداتِكَ ودراساتِكَ أدبَ المقاومة، فأنتَ من نفختَ في شعبِنا الروحَ بعد سنواتِ النكبةِ والهزيمةِ والتشرّدِ واللجوء، فعبرتَ صحراءَ الرمالِ الحارقة إلى حدائقِ العزّةِ والكرامة، فأطلقتَ العنانَ لميلادِ الثورةِ الفلسطينيّة، وكنتَ بالفعلِ حارسَ القلعةِ الأمين على الذاكرة والهُويّة الوطنيّة، والناقد السياسيّ الملهم لكلّ الثوريّين والفدائيّين، فقد نقلت لنا صورةَ البندقيّة إلى مرتبةِ الشرف، واصفًا الرجال الذين يحملونها والذين يزحفون تحت العتمةِ بأنّهم بناةُ شرفٍ نظيفٍ غيرِ ملطّخٍ بالوحل، فقد راهنت على هذهِ البندقيّةِ والمقاتلِ في مواجهةِ آثارِ النكبةِ والنكسةِ الكارثيّة... ولم تمت قبل أن تكون ندًّا.
رفيقي أبا فايز:
فلسطينُ بغيابِكَ الجسديّ مثقلةٌ بالآلامِ والأحزانِ والانقسام، فما زالت أرضُ البرتقالِ الحزينِ تئنُّ من جرائمِ الاحتلالِ ومن الاستيطان والتهويد والتطبيع، ولكنّها ما زالت تقاتلُ وتقاومُ بلحمِها وعظامِها وأسنانِها، وقد حوّلتَ أفكارَكَ إلى وصايا وقنابلَ تتفجّرُ في قلب الاحتلال. نعم رفيقي، إنّ تحقيقَ النصر بحاجةٍ إلى البندقيّة. فقد صدقتْ نبوءةُ أم سعد "ما فيش حد بينام ويصحى يلاقي وطن بستناه..". نعم رفيقنا، فالحياةُ لا قيمةَ لها قطُّ إن لم تكن دائمًا واقفةً قُبالةَ الموت... فنحن نستمدُّ من أدبِكَ وأفكارِكَ يا رفيق غسّان قيمَ المبادئ والثبات على الموقف، في الوقت الذي يشهدُ الواقع العربيّ انقلابًا في المفاهيم، حتّى أصبحَ العدوُّ الصهيونيُّ في نظر الكثير من الأنظمة العربيّة أصدقاء، والصديق أصبح عدوًّا. والأخطرُ يا غسّان أنّهم ودون خجلٍ أو حياءٍ بصددِ تشكيلِ "ناتو عربيٍّ صهيونيّ" في إطار التصدّي لمعسكر قوى المقاومة... ولكن رفيقي تبقى كلمةُ السرِّ في مواجهةِ هذا الخطر الجديد في كلماتك وإرثك وثقافة المقاومة.
رفيقي غسان:
إنْ قتلوك جسدًا فهم لم يقتلوا كلماتِكَ وأفكارَكَ فهي ستظلُّ حاضرةً بيننا، وملهمةً لنا لمواصلةِ حملِ طريقِ التحريرِ والعودة. وستظلُّ أفكارُكَ الرافضةُ للاستسلام والباحثةُ عن الحريّة والعدالة والخلاص ماثلةً دائمًا في أذهاننا. فكلماتُكُ عَبَرَت الحدودَ والجغرافيا، لتؤكّدَ بأنّ قضيّةَ فلسطين ليست قضيّتنا فقط، بل هي قضيّةُ كلّ ثوريٍّ أينما كان. وأن قضيّةَ الموتِ ليست على الإطلاق قضيّة الميت، إنّها قضيّةُ الباقين. واليوم رفيقي، بعد خمسين عامًا على استشهادِكَ، قضيّةُ فلسطين أصبحت أكثرَ انتشارًا واتّساعًا، وجموع المتضامنين والمساندين لقضيّتنا التي علّقت صورك وكلماتك أوسمةً على صدورها تصدحُ بكلماتِكَ في العواصم والميادين، وتهتفُ لفلسطين... كلّ فلسطين من نهرها إلى بحرها.
في ذكرى استشهادِكَ ستظلُّ الملهمَّ والمعلمَّ لجيلٍ قاومَ الاحتلالَ بالفكرِ والسياسةِ والعمل. وفي ذكراك المتجدّدة جئنا لأمّ سعد التي حفر القهر والفقر خارطةَ الوطن الحزين على تجاعيد وجهها... فهي كما هي.
في ذكراك المتجدّدة، نعاهدُكَ رفيقي بأمانةِ الشهداءِ والمبادئِ التي لن نحيدَ عنها... أمانةِ الوعدِ الصادق، رأسًا برأسٍ ودمًا بدم.. بأنّنا سنظلُّ نناضلُ لاسترجاعِ الوطن، فالعهدُ والقسمُ أن نبقى سائرين حتّى العودة إلى أرض البرتقال الحزين... إلى حيفا... ولن نفرّطَ بذرّةِ تُرابٍ من نهرِها إلى بحرها، فبرقوقُ نيسان وبرتقال يافا وبحر غزة وجبال جرزيم والخليل والجليل يشتاقُ لطلائع العائدين، وستبقى رفيقنا غسان باقيًا وخالدًا فينا قائدًا هُمامًا...