- بقلم: هداية شمعون (*)
لا اله الا الله
مش قادرة رجلي حتنقطع..! والله رجلي.. مش قادرة الله يرضى عليكو
آه .. ماما وين ماما وين ماما.!!
هذه كلمات الطفلة "منة الله بركة " (14) عاما والتي صورت من حيث لا تدري مقطع فيديو لها وهي تحت الردم بعد تدمير بيتهم والبيوت المجاورة بفعل صواريخ الاحتلال الإسرائيلي المتفجرة في حي الشعوت بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، إذ كانت وأفراد أسرتها يتجمعون في غرفة واحدة، وكانت تمسك بالهاتف المحمول لحظة حدوث القصف، حاولت والأحجار تحيط بها من كل جانب والركام يحيط بها بينما يدها في وضع لا يسمح بالحركة أن تضغط للاتصال بأي رقم لجلب المساعدة فضغطت على تشغيل الكاميرا بدلا من الاتصال لتصور لحظات قاسية عاشتها، فظهرت لثواني معدودة كأنما قبر ينفتح ليبتلعها هي وعائلتها..! فقد ظهر الجزء العلوي من جسد منة الله فوق الردم بينما باقي جسدها قد علق داخل كومة الدمار من حجارة متساقطة وسقف البيت وحيطانه...!!
كانت "منة" تصرخ فزعا من هول ما عاشته، في لحظة واحدة تحولت جلستها مع العائلة إلى كابوس، صوت الانفجارات تبعها انهيار البيت والبيوت المجاورة، وانقطاع الكهرباء، العتمة تحيط بها من كل جانب، لا تدرك هل هذا كابوس؟! كيف لها أن تستيقظ منه، لحظات الصمت كانت كأنها دهرا، هل هذا كل شيء...!!
هل انتهت حياتنا بهذه البساطة مدفونين بين ركام بيت طالما احتضن ضحكاتنا وأحلامنا ...!! لحظات صمت جعلت قلب "منة" خارجا عن المنطق ما الذي يحدث.. صرخت باسم اخوتها واحدا تلو الآخر.. منال.. ماريا.. معتصم.. ماما سمعت صوتا ينقذها من الصمت القاتل والغبار الذي ملأ المكان، وصوت الحطام غير المستقر، لحظات أخرى وصرخاتها تشق حجارة البيت التي طالما سمعت مشاجراتها الطفولية مع أشقائها.!! الخوف كان سيدا لهذه اللحظات، بل الرعب من أن أحدا لا يعرف أنهم لازالوا أحياء وعلى قيد الحياة/الموت...!
كيف يقسو الموت/الحياة على قلوب أطفال إلى هذا الحد الذي يذيقهم بعضا منها، هل الموت رحيم حتى يغادرهم بعدما حام حولهم؟! "منة" لم تكن أول طفلة فلسطينية يختبرها الموت لكنها أول طفلة تلتقط صوت أنفاسها وصراخها ولوعتها وقهرها وموتها/حياتها وتنجو من الموت ...!!
العتمة تحيط بكل شيء. وفجأة بعد صمت يأتيها صوت الجيران الذين هرعوا للنجدة، شيب وشباب الكل يصرخ بعد أن عثروا على أختها منال التي أشارت لاهثة أن هنالك أحياء تحت الردم، "منة" سمعت صوت أختها فبكت وصرخت، تنادي على أخوتها من جديد.. هلعت من كثرة الأيدي الممتدة كي تنقذها من بين الردم لكن آلامها كانت كبيرة، جسدها وقدميها عالقتين بين حيطان البيت المسجية على جسدها الصغير، تصرخ بألم شديد تشعر بحاجتها لأمها بينما الصرخات تتعالى حولها واضاءة الكشافات الضوئية تزيد من عجزها.. تصرخ تنادي أمها، تشعر بوحشة القبر/البيت المتهاوي، قواها بدأت تخور من هول المشهد.!!
عشرات الأيدي العارية تسحب الحجارة المتكسرة من حولها، الألم يزداد مع رفع الحجارة عن جسدها، يعفو عنها الموت ويغادر رأته يذهب مسرعا، لتجد نفسها محمولة بين عشرات الأيدي تكبيرات.. الله أكبر.. تصم أذنيها.. وجهها وشعرها الحريري القصير يغرق في الأتربة، عينيها تمتلئ بالغبار الأبيض شاحبة تتلقفها الأيدي من قلب الأرض إلى أعلاها، ثم تتلقفها أيدي أخرى نزولا وصعودا بحثا عن مخرج من مقبرة البيوت لإنقاذها...!!! إنها الناجية من الموت/الحياة..
إنهم الناجون من الموت، بعد أن لمس أصابعهم.!! بالكاد نفخ في وجوههم وأذاقهم بعضا مرارته، ثم تركهم مغادرا لآخرين قد حانت لحظتهم الأخيرة...!
"منة" ترقد في سيارة الإسعاف تختبرها الحياة هذه المرة من ظل على قيد الحياة...!! أين هي عائلتي، السؤال الأكبر في قلبها وروحها ماذا حدث لأخوتي وأخواتي؟؟ أين أمي؟! هنالك من سبقها إلى المستشفى للعلاج، وهنالك من لازالت جهود الأيدي العارية تحاول انقاذهم.!! إنه وقت الفزع حيث تبدو وحيدا رغم هذه الحشود بعدما تحول بيتك إلى قبر والبيوت المجاورة المنهارة على بعضها البعض جعلت المكان يبدو كمقبرة جماعية في دقائق معدودة بعد أن قضمت صواريخ الاحتلال الإسرائيلي أيديها وأرجلها وجزت عنقها.!!!إنه اختبار الموت وحالة هستيرية عايشتها طفلة الرابعة عشر عاما وحدها؟؟!!
لقد نجونا لكن أرواحنا لم تنجو لقد حققت منة الله وعائلتها مقولة: "رأينا الموت بأعيننا...!! لا بل مضغنا بعضا منه؟!! علقت حياتنا بمرارته وبشاعته؟؟!! هل لازال أحدهم يسأل لماذا أطفال غزة مختلفين عن أطفال العالم؟؟! هل لازال من يستغرب من طفولة عاشت الموت لحظة بلحظة والآن جاء دور اختبار الحياة بمشاهد ستبقى عالقة في الروح إلى الأبد...!! من يمكنه أن يأخذ رائحة الموت من أنوف أطفالنا؟ ومن يمكنه أن يعيد كتبهم ودفاترهم وخربشات أقلامهم على حيطان بيت عاصر ولادتهم كبروا فيه يوما بيوم.. حلموا فيه وذهبوا إلى مدارسهم وعادوا إلى أحضان أمهم...!!
" بيكفي حروب نفسيتنا تدمرت...!! "
بصوت حالم لازال يغفو على صدر الموت/الحياة قالت "منة"
خرجنا من تحت الأرض لنرى ونعيش الخراب نراه في سقوط بيوت جيراننا، الحي بأكمله قد تم تدميره، وجوه الناس تتألم، كل واحد عنده قصة حياة/موت متى سنسرد الحكاية ومتى سننجو فعلا من الموت/الحياة..
نجت "منة الله" وعائلتها بينما لم ينجو في ذات الفاجعة 7 شهداء منهم طفل وسيدتين من جيرانهم، وبلغ عدد الجرحى 39 إصابة منهم 18 طفل و13 سيدة من منطقة حي الشعوت في محافظة رفح جنوبي قطاع غزة
إنها رواية الناجون من الموت، ذلك الموت القاهر يذيقهم بعضا منه ثم يرحل؟! "منة الله" تتألق بقصائد الشعر الآن تكتبها وتلقيها بكل تأنق ورونق طفلة فلسطينية لم يثنيها هول ما رأت عن أن تواصل حياتها رغم تجربة الموت القاسية التي عاشتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية تقطن في قطاع غزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت