المُتَيَّم؛ قَصيدتُه سَرقتْ قلبي.

بقلم: المتوكل طه

المتوكل طه.jpg
  • المتوكل طه

***

يبدو أن الشاعر محمد المتيّم قد فتح لنا غير باب من خلال مجموعته الشعرية "إفتحي الباب يا فاطمة"، وأخذنا إلى رحلةٍ تعجّ بالضيق والارهاق والهمومِ والفاجعةِ، في مدينةٍ ساقطةٍ عمياء، هي أرضُ الهزائم والألم والغياب والانحطاط الحضاري. وهو صوتٌ شديد الحساسية، يتفلّت من السائد والصندوق الخانق والنمط، ويتغيّا الخروج من هذه الدستوبيا وهذا التعب، ليكون أخَ الشمس في الرضاع.ونراه راسخاً ثابتاً ،يجأر بصوته الصوفيّ العارف الواضح، بحسمٍ وجسارةٍ ،لعلّه يقدّمُ لنا فضاءً أكثر عافية وإنسانية يتجاوز الواقع الكآبي والمُرهق.

وللمتيم خيالٌ مصريٌ بامتياز، يتجلّى في تلك القدرة على تصوير الواقع في علاقات جديدة. واستطاع أن ينفذ ،رغم العتمة، إلى ذلك الطفل المولود من الوحشية ،وإلى الأحلام، لأن شجاعة السائر تكمن في الظلام.

ومع أن الشاعر قد يبدو ممزّقاً مثل ورقة،وسط عشيرته القتلى والبائسين، ويفتح قلبه لزهرة الألم، لكنه يقدم لنا رشفة معطّرة من رحيق دمِ الشِعر الخالص، الذي استطاع أن يحمي قلبه من الغبار وعواء الذئاب. واستطاع الشاعر أن يزرع في روح المتلقّي أغصاناً رغم العاصفة ،كما ظهر جلياً بأنه شاعرٌ استطاع أن يحرّر الحبّ والأمل من النار والأحزان.

وثمة قوّة محرّرة ورغبة حارقة لدى الشاعر لاستحداث أنماط وتجارب جمالية غير معهودة. ومن الممتع لدى المتيم أنه لم يكن فناناً فحسب بل كان "فيلسوفاً"-وصل إلى الحِكمة المُقطّرة- وجعل الكتابة صورة له ولما حوله.. فكانت.

والكتابة عنده حرية وعصيان وتحطيم لكلّ القيود، ما ترك أثراً عميقاً وشعوراً مختلفاً لديّ. ولعل ما لفتني أنه مارس النقد اتجاه كل ما هو غرائزيّ وفاشيّ وانتهازيّ، ذلك أنه،هنا،يتفرّد بشجاعة باهرة، وهو يتصدّى لكل الفظاعات والتقاطبات والمُهلكات الاجتماعية السائدة. وشجاعته هي التي تهمّنا لأنها تنقلنا من حال إلى آخر ،كما تقول ميجنون ماكلولين.والشجاعة على رأي أفلاطون هي نوع من الخلاص، كما أنها أعلى الدرجات إذا استطعت أن تجرؤ على الظهور على حقيقتك.. واعتقد أن المتيّم فعل ذلك بوعي مسبق ، لأن مصدر الشجاعة هو التفكير كما قال نابليون. وبهذا فإن الجانب العبقري والجسور في نصّ المتيّم يتجلّى في إصابة هدف ، قليلون من صوّبوا سهامهم نحوه، لغير سبب .. في اللحظة التي وظّف فيها كلماته بشكل خلّاق ،وهو منجذب دائماً لسحر الخيال وحريته. ولعلي رأيت سماء مصر صفحةً للشاعر وأرضها قصيدته، كأن طير الشِعر قد دلّ الشاعر على تلك المكوّنات والظواهر الجارحة الملفوفة بسحائب الدمع والخيبة، ومع هذا فالمتيم استطاع أن يوقف الوقت ويحاسبه ، ويجعل لحلمه شكلاً آخر، كأنه حقق مبتغاه.

والمتيّم أكثر من شاعر!فهو المفعم بالبراءة والأصالة ،ونوره مشعٌ من كوكب قلبه، وتبقى صوره ريّانة بدقّتها وحسّها الشعري، ولعل أجملها تلك المساطب الدافئة ، والطرقات المزدحمة التي تفيض بعَرق المهمّشين والأوجاع.

والجليّ أن المتيّم قد هضم معرفة متنوعة متعددة، إلى أن أصبح،بحقّ، وريثاً شرعياً لأمل دنقل وعفيفي مطر وغيرهما من الفحول، وهو يمتلك صوته الخاص الدّال عليه ، ودون أن يسقط في مزاج غيره من الشعراء.

واستطاع الشاعر أن يذوّب بلاغة الصوفية الخصبة، لغةً وبهاءً ورموزاً وتمثيلاً، وجعلها تتماهى في قمصان نصوصه ،فتجلّلت بالعمق، وفاضت بالضوء، وتكثّف المعنى حتى احتلّ الوجدان. حتى أن شِعر المتيّم حقّق الذائقة الصوفية، ضمن "علم الأحوال" - یقصد بالحال ما یحلّ بالقلوب، أو تحل القلوب به من صفاء نفسي، واطمئنان قلبي، وراحة ذھنیة، سببھا التقرّب إلى الله تعالى-،دون أن يحجب المراد-والمراد ، أيضاً، مَن يسبق كشفُه اجتهادَه ، وجذبُه سلوكَه ، فالمراد واصل بمحض الاجتباء والإصطفاء-، على الرغم من ذهاب قصيدته إلى "المخاطبة"،لكنّ لغته ظلّت تسعى لأن تبلغ المعراج الصوفيّ، على حدّ تعبير دريدا.- النصّ ينطوي دومًا على إمكان انفصاله عن مرجعه أو مدلوله بنيويًّا. إنّ كثرة المعاني في النصّ الواحد خاصية مشتركة في التّأويل الصّوفي والتّفكيكي، وهي خاصية إيجابية يتقاسمها كل من ابن عربي ودريدا-.

وعندما يقول المتيم يفهمه الجميع على الفور، لأنه يذهب إلى الحقيقة، كما ينبغي للشِعر والأدب ، وصورته ينتقيها بمبضع جرّاح بهدف تحقيق الصدمة والإثارة. وأحسب أن المتيم قد انتصر في كل معاركه.. إلا معركة الحبّ فقد استسلم فيها البطل.وأفضل طريقة لمقاوَمة الجَمال .. الاستسلام أمامه!

واللسان الذي لا عظام فيه يستطيع أن يهشّم كلّ شيء معيق وناتئ، وأحسبه هنا لسان الشاعر الذي استطاع أن يقطّر الحزن عطراً يخرُّ  في عروق الفلاحين اللامعة بالغضب، وبرداً وسلاماً يطفئ النيران التي تملأ أعين النساء، رغم أن الجمر يمتزج مع أنفاسه الشعرية. وأرى أن الألم لم يغادر الشاعر مع أنه انتهى من تعليمه ..لهذا استطاع المتيم أن يمطرني بالذَّهَب الشِعري، ولهذا أيضاً استطاعت قصيدته أن تسرق قلبي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت