طمئنه أمريكية وارتباك إسرائيلي تزامناً مع محادثات الاتفاق النووي؟

بقلم: علي ابوحبله

علي ابوحبله.webp
  • المحامي علي ابوحبله

سلسله من ضربات جوية أمريكية وإسرائيليه في الأراضي السورية  ضد ما أسمته لقواعد وقوات مدعومة من إيران  تحت ادعاء    رداً على هجومٍ بالطائرات المسيّرة ضربت القاعدة الأمريكية في التنف مؤخراً، والهجمات الصاروخية على قاعدتين أخريين في شمال شرق سوريا.

ونشر التحالف الدولي مقاطع مصورة، الخميس، 25 أغسطس/آب 2022، قال إنها للمواقع التي تم استهدافها بمدينة الميادين السورية في دير الزور الخاضعة لسيطرة النظام، فيما تنفي طهران علاقتها بالمواقع المستهدفة. وتتمتع الجماعات المسلحة الإيرانية بوجود قوي في البلدة، ولطالما استهدفت حقل العمر النفطي القريب على الضفة الشرقية للنهر، حيث توجد أكبر قاعدة للتحالف الأمريكي في سوريا.

يقول تقرير لصحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية، إن هذا الحدث يعد مهماً لأنه يسلط الضوء على استعداد الولايات المتحدة للتعامل مع إيران وشركائها في سوريا، رغم أنه يأتي وسط احتمالية أن تُعيد واشنطن وطهران إحياء الاتفاق النووي الإيراني. فماذا وراء الاشتباكات الأمريكية الإيرانية في سوريا؟

ويبدو أن التسريبات والقلق في  إسرائيل في الأيام الأخيرة –رغم المماطلة الأمريكية- لا يؤديان إلا إلى تعزيز التقدير بأن الاتفاق قريب، رغم أنهم في واشنطن يريدون تهدئة الأجواء. في الوقت الذي يشيع التفاؤل في طهران منذ بداية آب / أغسطس حيث ارتفع الريال أمام الدولار بنسبة 15٪، من سعر صرف 330 ألف ريال للدولار إلى 280 ألف ريال.

ويدرك قادة  الكيان الإسرائيلي  كما تدرك الإدارة الأمريكية أنه بدون اتفاق، سيتعين على الولايات المتحدة أن تقرر بين قرارين سيئين: هل تسمح ل إيران بأن تصبح دولة على أعتاب  النادي النووي وتتخلى في الواقع عن وعد الرؤساء الثلاثة السابقين بعدم السماح بذلك؟ أم أنها تضع تهديدًا عسكريًا فعليًا على الطاولة لردع طهران عن إنجاز القنبلة وإجبارها على التراجع عن الخطة. ومن الواضح أن جو بايدن لا يمكن أن يتخذ أيًا من هذه القرارات.

من جهة إيران، بدون اتفاق سيكون عليها أن تقرر ما إذا كانت ستستمر في المشروع النووي وفي الواقع - حتى لو لم تعلن ذلك علنًا – قد تصبح على أعتاب صنع القنبلة النووية مع كل التداعيات من حيث العقوبات والتعرض للعمل العسكري. وبالتالي يبدو الاتفاق هو الحل المناسب لطهران وواشنطن، لذلك هناك فرصة كبيرة للتوقيع عليه في النهاية.

في معرض شرحه للأسباب التي تَدفعه إلى الاعتقاد بأن عودة الولايات المتحدة إلى الالتزام بالاتفاق النووي ستكون بمثابة " الكارثة الإستراتيجية" ، يرى رئيس " الموساد"، دافيد برنياع، أن من بين تلك الأسباب خطر نظر بعض دول المنطقة إلى إيران باعتبارها " نموذجاً" . ما يخشاه برنياع ليس تحوُّل النظام السياسي الإيراني إلى نموذج بالنسبة لأنظمة المنطقة الأخرى، نتيجة لاختلاف طبيعتها عنه أصلاً، بل تَوجُّهه الاستقلالي في مواجهة مشاريع الهيمنة الأميركية والإسرائيلية. سبق لإيران أن كانت مصدر إلهام لحركات التحرُّر الوطني في العالم العربي وبقيّة بلدان الجنوب، في مطلع خمسينيات القرن الماضي، عندما قرّرت حكومة محمد مصدق تأميم النفط الإيراني،  لتفتح عهد استعادة شعوب الجنوب سيطرتها على مواردها الطبيعية، لتوظيفها في تنمية بلادها.

لعب هذا القرار مثلاً دوراً هامّاً في تشجيع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على تأميم قناة السويس، وفقاً لما أورده المفكّر الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه الصادر بالإنكليزية " قطع ذيل الأسد " عام 1986، والمُخصَّص لمعركة السويس.

كشف القرار الإيراني آنذاك، من منظور شعوب الجنوب وأنظمتها وقواها الوطنية، التغيُّر في موازين القوى لغيْر صالح أطراف الاستعمار القديم، وفي المقدّمة منهم بريطانيا وفرنسا.

الظروف الدولية الراهنة، على رغم اختلافها في نواحٍ عدة عن تلك السائدة في الحقبة المذكورة، تتضمّن أوجه تشابه بارزة معها، أهمّها تداعيات الحرب الروسية الاوكرانيه  في ظل  تراجُع  الهيمنة القطبية الاحاديه ، أي الولايات المتحدة، وعدم قدرتها  على التحكم و السيطرة ، واحتدام الصراع بينها وبين قوى صاعدة، أي الصين وروسيا، واتّساع هامش الاستقلالية المُتاح أمام بلدان الجنوب، وهو ما اتّضح مثلاً في مواقفها من الحرب الأوكرانية، ورفضها الإملاءات الأميركية بفرض عقوبات على روسيا.

 

تحذير مسئول  الشباك  لدول الغرب من  خشية إتباع دول في المنطقة  في أن تحذوا حذو  " النموذج الإيراني"  هو بكلّ تأكيد لا يقصد دولة كسوريا مثلاً، هي جزء لا يتجزّأ من محور المقاومة. مَن يشير إليها برنياع، من دون تسميتها، هي تلك الدول المصنَّفة " حليفة" للغرب، كمصر وتركيا وربّما بعض دول الخليج. هو يحاول أن يُذكّر قادة الغرب بالوظيفة الأصلية للكيان الصهيوني باعتباره قاعدته المتقدّمة في المنطقة، ومحطّة إنذاره المبكر حيال المخاطر التي تهدّد مصالحه. إسرائيل لم تَعُد اليوم مجرّد قاعدة عسكرية غربية، بل تحوّلت والحركة الصهيونية إلى جزء عضوي من منظومة الهيمنة الغربية.

الخلاف حول عودة واشنطن إلى الالتزام بالاتفاق النووي مع طهران، هو خلاف داخلي بين قوى هذه المنظومة ومكوّناتها، حيث يحاول جناحها المعارض أن يقنع ذلك المؤيّد بأن مِثل هذه العودة ستشجّع دول المنطقة الأخرى على المزيد من التمرّد على إرادة الولايات المتحدة، في سياقٍ تخوض فيه الأخيرة مواجهتَين إستراتيجيتين مصيريتَين مع روسيا والصين.

لقد أظهر رفض هذه الدول الانصياع للطلبات الأميركية الخاصة بفرض عقوبات على روسيا، أو بزيادة معدّلات إنتاجها للنفط لتخفيض أسعاره والإضرار بالاقتصاد الروسي، وكذلك النموّ المطّرد لعلاقاتها مع موسكو وبكين، ميلاً متزايداً نحو الاستقلالية، يثير قلقاً متعاظماً في واشنطن، وفي " إسرائيل " فقد  أصبح من الواضح أيضاً، بعد قمّة جدة الأخيرة،  وفشل مشروع  دمج إسرائيل في منظومة حلف ناتوا عربي برعاية أميركيه ضدّ إيران، هو مشروع لن يجد طريقه إلى التنفيذ.

 تداعيات الحرب الروسية الاوكرانيه ، في ظل تراجع هيمنة أميركا أتاح لإيران أن تنتزع تنازلات جدّية من واشنطن، وقد يحفّز بقيّة دول الإقليم على تصلُّب أكبر في مواجهة الإملاءات الأميركية التي لا تخدم مصالحها.  وهذا ما يحاول رئيس " الموساد "  قوله للتحريض ضدّ العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.

مبدأ " فرّق تَسُد"  سياسة قديمه جديدة  تعتمدها القوى الاستعمارية الغربية لتثبيت سيطرتها في داخل مستعمراتها وبقي  هذا المبدأ ساري المفعول في سياساتها على صعيد عالمي بعد حصول البلدان المستعمَرة وشبه المستعمَرة على استقلالها لمنعها من التفاهم في ما بينها، والتصدّي لمختلف أشكال الهيمنة.

 ارتكزت هذه السياسات على تناقضات موضوعية في المصالح بين أنظمة ما بعد الاستقلال، وعملت على تأجيجها لتتحوّل إلى تناقضات وصراعات . كان من الممكن للأنظمة المستهدَفة أن تجد آليات سلمية لحلّ تلك التناقضات، والتوصّل إلى توافق وتفاهمات تسمح بقدْر من التعاون في ما بينها على قاعدة مصالحها المشتركة. غير أن التوجّهات الأميركية كانت دوماً العقبة الأساسية أمام مثل هذا الاحتمال. مقال جنان غانيش، وهو محرّر مشارك وكاتب عمود في " فايننشال تايمز" ، صحيفة عالم الأعمال " العريقة والرصينة" ، وعنوانه " معسكر الاستبداد سينقسم قبْل المعسكر الغربي" ، يشكّل إقراراً نادر الصراحة بالحقيقة المُشار إليها، ودعوة للعودة إلى " المكر"  للحفاظ على موقع الغرب في رأس هرم النظام الدولي.

يعتقد غانيش أن كراهية مَن يصفهم بـ" الأوتوقراطيين"  للغرب، ويشمل بهذا التوصيف الأنظمة السياسية المتنوّعة في موسكو وبكين وطهران والرياض والقاهرة، "لا تفضي إلى تلاحم وثيق في ما بينهم. فما أنقذ القضية الليبرالية في القرن الـ20، إضافة إلى القوّة الأميركية، هو الضعف البنيوي للجبهة المعادية لها. على الغرب أن يسعى لضمان تكرار الأمر عينه في القرن الـ21. قد يتطلّب ذلك تعزيزاً للعلاقات مع أنظمة مارقة في بعض الأحيان، وتسعيراً للتوتّرات في صفوفهم. الأوتوقراطيات ليست أقلّ استعداداً للتنازع في ما بينها ممّا كانت عليه منذ 50 عاماً، عندما صافح نيكسون شو إن لاي، في أوْج الخلاف بين موسكو وبكين. السؤال اليوم هو ما إذا كان الغرب لا يزال لديه الدراية والمكر لاستغلال مثل هذه التناقضات".

" المرونة التكتيكية" هي التي ميّزت سياسة واشنطن خلال عصرها الذهبي الإمبراطوري، وفقاً لغانيش: " وكالة استخباراتها المركزية لم تتردّد في شراء نتائج انتخابات أو في تنظيم انقلابات عسكرية. إذا كانت الولايات المتحدة، في زمن أوْج قوتها، جاهزة للتكيّف أخلاقياً مع هذه الأساليب، فإلى أي مدى هي مستعدّة للذهاب اليوم؟ " . ستجهد الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، لمحاولة الحؤول دون تفاهمات إقليمية تُوفّر لبلدان المنطقة بمجملها التوصّل إلى تفاهمات في ما بينها تصبّ في مصلحتها جميعاً، والاستمرار في استغلال بعضها ضدّ بعضها الآخر. ربّما يكون استلهام النموذج الإيراني مجدّداً مفيداً لإفشال " المكر"  وسياساته، والتعاون وفقاً لما يقتضيه أمن واستقرار وازدهار شعوب الإقليم.

 لقد صمدت إيران منذ انتصار ثورتها، وفي ظروف بالغة الصعوبة، في مقابل سياسات حرب أميركية متعدّدة الأشكال ضدّها، وهي على وشْك تسجيل انتصار بالنسبة لبرنامجها النووي والعقوبات المتّخذة بحقها ارتباطاً به، في سياق دولي تستعر فيه التناقضات بين القوى الكبرى. قد تنجح دول الإقليم في انتزاع مكاسب إستراتيجية كبرى، سياسية واقتصادية، إنْ هي أحسنت الإفادة منه، وأوجدت في ما بينها صيغاً للتشاور والتعاون على قاعدة مصالحها المشتركة، وهي وازنة، وحالت دون المساعي الغربية والإسرائيلية لإثارة الانقسامات بينها، وهي الأداة التقليدية لإدامة الهيمنة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت