- حسن العاصي
- كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك
مرة أخرى أعود للحديث عن الأطفال الفلسطينيين الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، في ظل استمرار سياسة الاعتقال بحق الأطفال الفلسطينيين، حيث بلغ عدد الفلسطينيين الذين تعرضوا للاعتقال منذ عام 1967 وحتى نهاية حزيران 2022 نحو مليون فلسطيني، أكثر من خمسين ألف حالة اعتقال سجلت في صفوف الأطفال الفلسطينيين (ما دون سن الـ 18 وفقاً للقوانين الدولية)، ولعدم وجود أية نية حقيقة أو توجه إيجابي من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي لإنهاء هذا الملف.
من هو أحمد المناصرة
أحمد المناصرة فتى فلسطيني ولد بتاريخ 22 يناير/ كانون الثاني عام 2002 في بيت حنينا بالقدس المحتلة، تم اعتقاله من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 12 أكتوبر/ تشرين أول بتاريخ 2015، وكان بعمر ثلاثة عشر عاماً في تلك الفترة، بتهمة محاولة طعن جنود إسرائيليين في القدس المحتلة. حكمت عليه المحكمة العسكرية الإسرائيلية بالسجن لمدة اثنا عشر عاماً، فيما استشهد ابن عمه حسن مناصرة في العملية ذاتها.
لكن الحقيقية أن الطفل أحمد المناصرة قد تعرض في سن الثالثة عشر، رفقة ابن عمه حسن المناصرة ذي الخمسة عشر عاماً، لعملية دعس وضرب وإطلاق نار من قبل عناصر جيش الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين أول عام 2015. مما أدى إلى استشهاد حسن واعتقال أحمد وذلك بدعوى محاولة طعن أحد الجنود الإسرائيليين في مدينة القدس المحتلة.
كان أحمد المناصرة وصديقه وابن عمه حسن يتجولون في المدينة مثل أي فتيان بعمرهما، عندما فاجأهم جنود الاحتلال بالرصاص ومحاولة الدعس، ومن ثم الاعتداء عليهما بالضرب المبرح، والإهانات من قبل قطعان المستوطنين، الأمر الذي أدى إلى مفارقة حسن للحياة على الفور، وتعرض أحمد لإصابات بليغة نقل على أثرها إلى المستشفى مكبل اليدين بعد أن اعتقدت عائلته بأنه استشهد أيضاً، لكن تبين فيما بعد أنه على قيد الحياة.
أصدرت المحكمة الإسرائيلية المركزية بتاريخ 7 نوفمبر/ تشرين ثاني عام 2016، حكماً بالسجن على أحمد مناصرة لمدة اثنا عشر عاماً، بزعم طعن أحد المستوطنين، ودفع غرامتين ماليتين تقدران بحوالي مئة وثمانين ألف شيكل، حيث أكد القاضي أثناء جلسة النطق بالحكم أن "سن الطفل الصغير لا يمنحه الحصانة من فرض العقوبة"، في مخالفة واضحة للقانون الدولي، والاتفاقيات ذات الصلة.
استخدم المحققين الإسرائيليين بشكل وقح التعذيب النفسي على الطفل مناصرة بالصراخ، وحرمانه من حقه في استشارة محام، وفي اصطحاب أسرته معه، لكن الطفل الفلسطيني تمكن من هزيمة المحققين، وظل يصرخ ويكرر "لا أتذكر، لا أعرف".
اغتيال ممنهج لأطفال فلسطين
إن حجم ما تعرّض له الطفل أحمد مناصرة على مدار قرابة أكثر من سبعة أعوام مضت منذ اعتقاله، يفوق قدرته وقدرة أي طفل على التحمل. الأمر الذي تسبب له بالكثير من الأمراض والصدمات النفسية التي تركت تأثيرات في صحته النفسية، فبات يعاني، باستمرار، اضطرابات نفسية خطِرة تحتاج إلى علاج واحتضان، وليس إلى زنزانة وحرمان.
لقد تعرض الطفل الأسير أحمد المناصرة لضرب مبرح أدى إلى كسر في الجمجمة وتسبب بورم دموي فيها، كما تعرّض لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والترهيب النفسي واستخدام أسلوب التحقيق الطويل من دون توقف، والحرمان من النوم والراحة. وتعرّض أيضاً لضغوط نفسية كبيرة. ونتيجة التعذيب الجسدي والتنكيل النفسي، عانى أحمد، وما زال يعاني جرّاء صداع شديد وآلام مزمنة وحادة في الرأس تلازمه حتى اللحظة، من دون تقديم العلاج المناسب الكفيل بتخفيف آلامه، الأمر الذي أدى إلى ظهور اضطرابات نفسية لديه تفاقمت مع استمرار عزله الانفرادي وعدم السماح له بالاختلاط بباقي الأسرى، ليبقى وحده يحاكي نفسه، ويعاني ويتألم ويصرخ من دون حاضنة اجتماعية.
استهتار إسرائيلي رسمي
تواصل إسرائيل انتهاكها المستمر للاتفاقيات والمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها، حين يتعلق الأمر بالموضوع الفلسطيني. وهو أمر خطير وتحد سافر لإرادة السلام الدولية وللشرعية الدولية وقراراتها، واستهتار علني بمواقف الدول وادانتها للاعتقالات التعسفية، خاصة اعتقال الأطفال، وهو ما يستدعي وقفة جادة من قبل المجتمع الدولي لإجبار دولة الاحتلال التراجع عن هذه السياسات، واحترام
تؤكد الفقرة الأولى من المادة رقم ستة عشر من اتفاقية حقوق الأطفال العالمية التي تنص على "لا يجوز أن يجري أي تعرض تعسفي أو غير قانوني للطفل في حياته الخاصة، أو أسرته، أو منزله، أو مراسلاته، ولا أي مساس غير قانوني بشرفه أو سمعته". كما تنص الفقرة الثانية من نفس المادة أنه "للطفل الحق في أن يحميه القانون من مثل هذا التعرض أو المساس".
إن استمرار اعتقال الأسرى الأطفال الفلسطينيين في زنازين السجون الإسرائيلية، يعتبر بمثابة جريمة حرب، تضاف الى سلسلة الجرائم العنصرية التي يقترفها جيش الاحتلال الاسرائيلي، ودليل على استهتار اسرائيل بالقانون الدولي، ومواصلة انتهاك للاتفاقيات والمواثيق الدولية.
تقع على كاهل المجتمع الدولي، وخاصة الإدارة الأمريكية، والدول الأوروبية، مسؤولية استمرار إسرائيل التنصل وعدم احترام قرارات الشرعية الدولية، واعتبار نفسها فوق القانون، المجتمع الدولي مطالب بتحمل مسؤولياته، تجاه ما يجري في فلسطين وعدم التعامل بازدواجية مع القضية الفلسطينية.
استهتار إسرائيل بالقوانين الدولية ليس جديدا، وهي ماضية في سياسة التهويد، والقتل، والاعتقال بحق الفلسطينيين، وماضية في إقامة المزيد من المستوطنات، دون أدنى اعتبار لما أجمعت عليه الأسرة الدولية لجهة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ومن المؤسف أنه في حين تتحرك الأمم المتحدة وهيئاتها ولجانها لحماية الشعب الفلسطيني، فإن العالم العربي يبدو متقاعسا أكثر من أي وقت مضى آخر عن بذل أدنى جهد لحماية الشعب الفلسطيني الأعزل.
وبطبيعة الحال، فإن مجلس الأمن يتحمل مسؤولية خاصة في فرض الشرعية والإجماع الدوليين، والدفع باتجاه حل على قاعدة الدولتين بما يتضمن إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967، وهذا يحتاج إلى عودة الإجماع العربي والضغط لتنفيذ القرارات الدولية، بعيدا عن كل تجاذب آخر لا معنى له في ظل التحديات الراهنة، وعودة القضية الفلسطينية باعتبارها أولى الأولويات.
ماذا بعد
أحمد مناصرة ليس الطفل الفلسطيني الأول الذي يتم تكبيل يديه واقتياده إلى الزنازين الصهيونية، فقد سبقه خمسون ألفاً من الأطفال الفلسطينيين. وهو ليس الطفل الفلسطيني الأخير الذي مرّ بتجربة الاعتقال وتعرّض للتعذيب على يد محققّي الاحتلال الإسرائيلي، فالإحصائيات الرسمية الفلسطينية تفيد بأن نحو تسعة آلاف طفل فلسطيني لحقوا به قسراً، إلى السجون الإسرائيلية، وتعرضوا جميعهم للتعذيب الجسدي والنفسي.
وعلى الرغم من تجريم اعتقال الأطفال وتعذيبهم ومحاكمتهم دولياً، فإن عمليات استهداف الأطفال الفلسطينيين واعتقالهم تبدو سياسة إسرائيلية ثابتة منذ بدايات الاحتلال الإسرائيلي، بهدف الانتقام منهم وتشويه واقعهم وتدمير مستقبلهم والتأثير في توجهاتهم المستقبلية بصورة سلبية، وكذلك ردع أبناء جيلهم ومَن يلحق بهم.
نطالب المجتمع الدولي بتحمُّل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، عبر الضغط على سلطات الاحتلال الإسرائيلي لوقف استهداف الأطفال الفلسطينيين، وإطلاق سراح المعتقلين منهم، واحترام حقوقهم، وتوفير الحماية الدولية لهم. والإفراج الفوري عن الأسير أحمد مناصرة، الطفل الذي كبلته أصفاد المحتل البغيض، وشبّ خلف قضبان المعتقل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت