- فتحي كليب / عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
كان العجز المالي في موازنة الاونروا، وما زال، سمة رئيسية طبعت عمل الوكالة طيلة العقود الماضية، لكنه لم يتحول الى مشكلة تهدد وجود الاونروا كما هو عليه الامر الآن، وكان هناك امكانية لمعالجتة بطرق مختلفة لم يشعر اللاجئون يوما انها مست حقوقهم، رغم التدابير التقشفية العديدة التي اتخذت، لكن العجز ظل مشكلة تجرجر نفسها من عام لآخر بسبب طبيعة التمويل الطوعي، الذي عادة ما يتأثر بالاوضاع السياسية اولا وبمزاجية بعض الدول المانحة ثانيا، والتي تستخدم التمويل في احيان كثيرة كأداة ضغط سياسي على الشعب الفلسطيني ومرجعياته لتحقيق اهداف سياسية تخدم العدو الاسرائيلي.
وان كانت المزاجية والسياسة الخارجية للدول المانحة في توزيع اولويات الدعم الخارجي احدى الاسباب الرئيسية للعجز المالي، الا ان عملية التسوية مثلت سببا كافيا للمشكلة المالية التي تشهدها وكالة الغوث اليوم. فمنذ انطلاق عملية المفاوضات العربية الاسرائيلية في تسعينيات القرن الماضي، والتوصل لاحقا الى اتفاقيات سياسية مع اسرائيل، زجت وكالة الغوث في تفاصيل تلك العملية، واوكل اليها تطبيق الجانب الاقتصادي من الاتفاقيات، فجرى اقرار عدد من البرامج والاستراتيجيات المواكبة للتقدم الحاصل في المفاوضات كان اهمها "برنامج تطبيق السلام عام 1994(P.I.P) بموازنة افتتاحية بلغت نحو 350 مليون دولار، في الوقت الذي كانت فيه موازنة الصندوق العام للاونروا تشهد عجزا بلغ 35 مليون دولار آنذاك، اضافة الى السعي لاحداث شقاق وخلاف بين تجمعات اللاجئين من خلال اعطاء الاولوية في مشاريع البرنامج للضفة الغربية وقطاع غزه واهمال مخيمات الشتات، وهذا ما دفع بمجلس جامعة الدول العربية في آذار 1997 الى انتقاد هذه السياسة ودعوته الى "مراعاة عدالة التوزيع بالنسبة للأموال والمشروعات المتخصصة لبرنامج تطبيق السلام PIP بين مناطق عمليات الوكالة الخمس".
مع بدء تعثر عملية التسوية، بدأت الدول المانحة بتخفيض تمويلها للبرنامج الذي بات يعاني من عجز سنوي واضح، في الوقت الذي حققت فيه موازنة البرنامج العام وفرا ماليا، ما دفع الاونروا حينها لسد العجز في موازنة برنامج تطبيق السلام من الوفر المحقق في موازنة البرنامج العام. واستمر الامر على هذا الحال لسنوات، وبدأ العجز يصبح روتينيا، إذ قليلة هي الموازنات التي لم تشهد عجزا سنويا بعد ذلك.. ليتأكد وبالملموس ان العجز، وان كان ظاهره ماليا، الا ان اسبابه المباشرة هي سياسة الدول المانحة التي ما زالت تستخدم التمويل كأداة ابتزاز سياسي وسيفا مسلطا فوق رقاب اللاجئين..
وفي قراءة المعطيات التي قدمتها الاونروا لمسار التمويل فقد تكررت ظاهرة التداخل بين ابواب الموازنة. وعلى سبيل المثال لا الحصر: بلغت الموازنة الاجمالية للعام 2022 حوالي 1.6 مليار دولار، منها 806 مليون دولار للموازنة العادية، 406 مليون دولار للمساعدات الطارئة المقدمة للاجئين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة و 365 مليون دولار كمساعدات طارئة للاجئين في مناطق العمليات المتبقية. وفي شهر تموز اعلنت الاونروا انه وحتى شهر حزيران لم تكن قد تلقت سوى 20 بالمائة فقط من الموازنة المخصصة للاستجابة الإنسانية في سوريا ولبنان والأردن.. وبالامكان الاستنتاج ان الاونروا قد تلجأ الى سد العجز في موازنة الطوارئ من ابواب اخرى من الموازنة، حتى ولو كانت تعاني عجزا سنويا ايضا. وبتجربة السنوات الماضية، فمن المتوقع ان برنامج الطوارئ يعاني من عجز كبير، نظرا لعدم اهتمام الدول المانحة به وتركيز تمويلها على موازنة الصندوق العام وبقاء الولايات المتحدة المانح الاساسي والاهم لبرنامج الطوارئ..
الملاحظ خلال العام الحالي 2022 ان العجز المالي في ميزانية الاونروا بقي ثابتا عند مبلغ مائة مليون دولار، رغم تحرك التمويل صعودا وهبوطا، الامر الذي يحير الكثير من اللاجئين عن اسباب هذا الثبات. وربما ان هذا الامر يعود الى ظاهرة تنفرد فيها وكالة الغوث بالمقارنة مع منظمات دولية اخرى. وبالعودة الى بعض تصريحات الاونروا الرسمية ومواقف مسؤوليها، نجد ان مبلغ مائة (100) مليون دولار امر تكرر منذ بداية شهر آب عام 2021.
ففي بداية شهر آب 2021 قال الناطق باسم الوكالة "أن هناك عجزاً مالياً بحوالي 100 مليون دولار في ميزانية الوكالة" وكانت الموازنة الاجمالية تقدر بنحو 1.4 مليار دولار امريكي. وبعد شهر (3 تشرين اول 2021) استمر العجز وبلغ وفقا لـ عدنان أبو حسنة 100 مليون دولار، وفي 28 تشرين اول 2021 قال المتحدث باسم الاونروا سامي مشعشع "إن الوكالة تعاني من عجز مالي مركب يتخطى 100 مليون دولار"، وفي نهاية العام (1 كانون الاول 2021) جدد ابو حسنة قوله "إن الأونروا لديها عجز يصل 100 مليون دولار بالنسبة لبرامج الوكالة".
ورغم ارتفاع الموازنة في العام 2022 لنحو (1.6 مليار دولار) الا ان رقم العجز السنوي ظل ثابتا عند مائة مليون دولار. إذ اشار المستشار الإعلامي للوكالة في25 ايار 2022 "ان الاونروا لديها عجز مالي يقدر بـ 100 مليون دولار وان العجز مرشح للتصاعد خلال الفترة القادمة بسبب الأزمة الأوكرانية وارتفاع اسعار الوقود والمواد الغذائية"، وبعد اقل من شهر (6 حزيران) قال مسؤول شؤون الموظفين في الوكالة بن ماجيكو ديومني "إن الحالة المالية للوكالة "لا تزال حرجة للغاية، بعد ان وصل إجمالي العجز المالي الى حوالي (100) مليون دولار، وفي 25 حزيران، قال الناطق باسم الاونروا عدنان أبو حسنة "إن الأونروا تتوقع عجزاً مادياً يزيد عن 100 مليون دولار في ميزانيتها الأساسية"، وفي 14 آب كرر أبو حسنة "أن الميزانية العامة للأونروا تعاني من نقص قيمته 100 مليون دولار".
امام هذه االوحة، لماذا ثبات رقم العجز عند عتبة المائة مليون دولار رغم ان الاونروا اعلنت خلال الفترة الماضية ان عددا واسعا من الدول قدمت تبرعات جديدة منها على سبيل المثال: 5 ملايين دولار - اليابان (تموز)، 2.5 مليون دولار – الهند (تموز)، 160 مليون دولار من قبل مؤتمر المانحين الذي عقد في في نيويورك (تموز)، 8.5 مليون دولار – ايطاليا (تموز)، اكثر من 300 مليون دولار من قبل الاتحاد الأوروبي تقدم على مدى السنوات الثلاث المقبلة (آب)، 47 مليون دولار من قبل المانيا مخصصة لدعم المساعدات الغذائية الطارئة في قطاع غزة ولميزانية البرامج ولبرنامج المساعدات النقدية للاجئيين الفلسطينيين في سوريا (آب) و 2.1 مليون دولار - كوريا (آب 2022).
وفي تفسير ظاهرة ثبات الرقم عند المائة لن نطرح الامر بسوء نية، بل سنقوم باستعراض طريقة اعداد الموازنة وكيفية تمويلها من قبل الدول المانحة. فوكالة الغوث تضع موازنتها الاجمالية الافتراضية في نهاية العام وتعرضها على المانحين حتى الربع الاول من العام الجديد، وهي تستند في اعدادها، افتراضيا، الى الحد الادنى من احتياجات اللاجئين الفلسطينيين، ثم تطرحها على المانحين والاطر المعنية بذلك، وتبدأ بتلقي التعهدات من الاطراف المانحة على شكل وعود، سواء بشكل مباشر عبر اتفاقات ثنائية او من خلال مؤتمرات تعقد خصيصا لهذه الغاية. وبالاستناد الى هذه التعهدات والوعود، تبدأ الاونروا باحتساب قيمة العجز الذي يبدأ كبيرا، وقد يساوي قيمة الموازنة الاجمالية في اسابيعها الاولى لكنه يبدأ بالانخفاض مع كل مبلغ تتسلمه الاونروا والذي قد يمتد طيلة العام، وفقا لاعتبارات المانحين.
وطالما ان بعض الدول المانحة لم تغط ما سبق وتعهدت به، فان العجز يبقى مرتفعا الى ان يتم تسديد كامل التعهدات التي ربما تكون دون سقف الموازنة فيتسبب ذلك بعجز يكون الفارق بين الموازنة الافتراضية، الاسمية، وما تلقته الاونروا بالفعل نقدا او عينا. لكن ربما تحقق الموازنة وفرا يزيد عن الموازنة المفترضة اذا توفرت موارد مالية لم تكن متوقعة، او اذا ما تم الغاء برامج لأسباب او اخرى او لجأت الى تدابير تقشفية، او تخفيض في الخدمات، وغير ذلك من اسباب تجعل الاقاليم تحقق وفرا ماليا كما حصل في اكثر من مرة. وحين يستمر العجز ثابتا على رقم معين ولفترة طويلة، فهذا يعني ان ما توقعته الاونروا قد حدث، وان الفترة التي تلت اعلان الموازنة لم تشهد دخول موارد جديدة، لذلك بقي رقم المائة مليون دولار يتكرر منذ الشهر الرابع من السنة الحالية.. وقد يرتفع العجز اكثر من ذلك بكثير في نهاية العام وبعد ان يتم استنفاذ الوقت لدخول موارد جديدة لموازنة الاونروا، خاصة وان مسؤولي وكالة الغوث يتحدثون منذ الآن عن تداعيات الازمة الروسية الاوكرانية لجهة تخفيض بعض الدول لمساهماتها المالية اوان بعضها ابلغ بالفعل انه غير قادر على سداد ما تعهد به سابقا..
وقد تصيب الاونروا ويكون العجز المتوقع هو نفسه العجز المحقق، وقد تتخلف بعض الدول وتعجز عن سداد ما تعهدت به، فيكون العجز اكثر من المتوقع.. اما على مستوى التمويل، وقد يحدث ان يتكرر اسم دولة بأنها قدمت تمويلا للاونروا اكثر من مرة خلال العام، فمرة يذكر اسمها عندما تعلن عن القيمة الاجمالية للتمويل (اي التعهد بتقديم كذا وكذا)، ومرة اخرى تذكر هذه الدولة عندما تسلم جزء من تعهداتها سواء مرة واحدة او بتوزيع المبالغ المالية المتعهد بها على فترات متباعدة من العام الى الاونروا..
كل هذه الامور قد تبدو واضحة ومعلومة للمتابعين وللعاملين في بعض الاطر المتخصصة بقضايا الوكالة والتمويل، لكنها قد تحدث نوعا من الارباك لدى اللاجئين. لذلك يصبح مطلوبا من وكالة الغوث والناطقين باسمها تقديم المعطيات الرقمية بشكل اكثر تفصيلا وكيفية توزيع التمويل والعجز على ابواب الموازنة. فحين يذكر العجز مثلا بالموازنة الاجمالية، فمن المفيد بل من واجب الاونروا ولاحداث المزيد من الشفافية ذكر في اي باب من ابواب الموازنة قد حصل العجز. وهذا من شأنه ان يساهم في تعزيز العلاقة بين وكالة الغوث واللاجئين بهدف التعرف على مكامن الخلل الرئيسية سواء على مستوى التمويل او الخدمات والبرامج ويساعد ايضا داعمي الوكالة والحريصين عليها وعلى ديمومة خدماتها في تركيز جهودهم باتجاهات معينة قد تكون اكثر اولوية بهدف مساعدة مسؤولي الاونروا المكلفين بالتواصل مع دول مانحة تقليدية ومستجدة من اجل تأمين التمويل في الوقت المحدد..
6 تشرين الاول 2022
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت