- إعداد وتقرير المحامي علي ابوحبله
لماذا وافق لبنان على التفاوض؟؟؟؟ مائة علامة استفهام وراء هذا التساؤل ، فقد استغلت إسرائيل والولايات المتحدة أوضاع لبنان السياسية والاقتصادية الصعبة لدفعه إلى الموافقة على الدخول في مسار تفاوضي بشأن ترسيم حدوده البحرية ومنطقته الاقتصادية الخالصة من دون أي مرجعية أو إطار زمني أو ضمانات للوصول إلى حقوقه التي يكفلها القانون الدولي (قانون البحار في هذه الحالة)، وبعد أن ظل يرفض ذلك لأكثر من 10 سنوات. فلبنان الذي تعرّض خلال الشهور الأخيرة لسلسة أزمات كبرى، بدأت بسقوط حكومة سعد الحريري بعد احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وصولًا إلى سقوط حكومة حسان دياب بعد الانفجار الذي هز مرفأ بيروت في آب/ أغسطس الماضي، يعاني ديونًا خارجية تصل إلى نحو 100 مليار دولار، دفعته إلى إعلان عجزه عن تسديد فوائدها. كما تواجه قطاعاته المصرفية والخدماتية خطر الانهيار الكامل، في ظل العجز عن تشكيل حكومة جديدة. من الواضح أن لبنان يدفع بهذا القرار فاتورة الصراع المحتدم بين زعماء طوائفه وطبقته السياسية الفاشلة، وانهيارها المعنوي والأخلاقي .
وإذا ما أخذنا بالبعد السياسي لإنجاز اتفاقية ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل نجد أن المقدمات التي سبقت وصول عملية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة إلى مآلاتها النهائية تعود الى تسعينات القرن الماضي ، وكانت أولى عمليات الترسيم بين لبنان وفلسطين قبل احتلالها، كانت عام ١٩٢٣، يوم اعتمد رأس النافورة نقطة الانطلاق لتحديد الإحداثيات التي تثبّت على أساسها الحدود. وقد تمت الإشارة إلى رأس النافورة في اتفاق" بوله - نيوكومب "الذي رسّم الحدود بين لبنان وفلسطين عام ١٩٢٣ ويوم كانت الدولتان تحت الانتداب البريطاني والفرنسي. وقد ثبّت هذا الخط في شباط ١٩٢٤. وفي المادة الخامسة من اتفاقية الهدنة في فقرتها الأولى، تأكيد بأن خط الهدنة هو نفسه خط الحدود الدولية (٢٣ آذار ١٩٤٩). وقد أعيد الاعتبار لخط (بوله - نيوكومب) بعد اتفاقية الهدنة بتسعة أشهر تقريباً وتحديداً في شهر كانون الأول ١٩٤٩، وتم بالاستناد إلى ذلك وضع نقاط ثانوية إضافة إلى النقاط الأساسية التي كانت موضوعة، وقد وقع الكيان الصهيوني على الوثيقة التي تعتبر رأس النافورة هو نقطة الحدود على البحر المتوسط، كذلك وقع لبنان بشخص المقدم اسكندر غانم الذي رأس يوم ذاك الوفد العسكري للمفاوضات حول تحديد إحداثيات خط الحدود.
إن قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة بدأت في العام ٢٠٠٣، يوم بدأ الحديث عن وجود غاز ونفط في شرق المتوسط، وخاصة في الحوض المائي الواقع بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة وقبرص. وهو العام الذي بدأ فيه البحث الجدي باستثمار غاز ونفط شرق المتوسط، العام الذي تعرض فيه العراق للغزو المتعدد الجنسية بقيادة أميركا وأدى إلى احتلاله وإسقاط ألدوله العراقية .
إن أميركا التي قادت الحربين على العراق سواء تلك التي شنت عليه سنة ١٩٩١، أو تلك التي شنت في سنة ٢٠٠٣، سعت لتوظف نتائجهما في سياق تنفيذ مشروع إعادة تشكيل نظام إقليمي جديد عرف باسم الشرق الأوسط الجديد ويتم من خلاله تسييد الكيان الصهيوني وإيران وتركيا. وما ان وضعت الحرب على العراق في بداية التسعينات أوزارها حتى كانت التحضيرات تجري على قدم وساق لعقد مؤتمر مدريد لحل ما يسمى بأزمة " الشرق الأوسط " وهي التسمية الدولية للصراع العربي الصهيوني.
الحرب الثانية على العراق كانت بداية لخطة استراتجيه تقود إلى تقسيم الوطن العربي فكانت الحرب على سوريا واليمن ولبنان وإسقاط ليبيا لفرض تسوية بالشروط الأميركية وتستند بالدرجة الأولى ركيزتين أساسيتين من ركائز هذه الإستراتيجية وهما تأمين امن النفط وامن "إسرائيل". ضمن مسعى أمريكا لانخراط إسرائيل في منظومة أمن الشرق الأوسط
تغير التحالفات الاقليميه والدولية والحرب الروسية الاوكرانيه ساهمت في أن تضع أمريكا ثقلها في التوصل لحل ترسيم الحدود وفرضه على لبنان ، إن أميركا أعلنت بعد احتلال العراق ان المنطقة ستدخل عصراً سياسيا جديداً، كما أعلنت أيضا بأن حرب ٢٠٠٦ ستسرع في ولادة النظام الإقليمي الجديد " الشرق الأوسط الجديد " . ورؤية أميركا للنظام الإقليمي الجديد أن إسرائيل أحد مكوناته الرئيسية ، إضافة إلى إيران وتركيا ومعهم اثيوبيا من بوابة الامن المائي. وهذا ما يتطلب تسهيل العبور الصهيوني والإيراني والتركي إلى العمق العربي، وتمكين هذه الأطراف من الجلوس على طاولة الترتيبات السياسية للازمات المتفجرة في المنطقة او تلك التي يدور صراع عليها.
على هذا الأساس مهدت أميركا لإيران الدخول إلى العراق وممارسة احتلالاً له من الباطن، ومن ثم التغول في العمق القومي العربي ، كما عملت على تمكين الكيان الصهيوني من اختراق العمق القومي العربي من بوابة التطبيع مع بعض الانظمة العربية، ووفرت تغطية للدور التركي ليلعب دور الرافعة السياسية لحركة الإخوان المسلمين
بعد احتلال أمريكا للعراق فرضت إيران هيمنتها على مفاصل ألدوله في العراق وفرضت إيران تواجدها في العديد من الأقطار العربية وتوظف القضية الفلسطينية في سياق مشروعها الخاص وعبر تقديم نفسها أحد اللاعبين الإقليميين الأساسيين في ترتيبات الحلول في المنطقة. وكانت أولى نتائج هذا التوظيف هو الاتفاق على الملف النووي العام ٢٠١٥ والذي تجري المفاوضات حالياً لإعادة إحيائه بعدما الغاه الرئيس الأميركي السابق رونالد ترامب من جانب واحد.
أمريكا التي تسعى لتشكيل النظام الإقليمي الجديد ، تدرك جيداً ان تنفيذه يتطلب تطبيعاً "رسمياً عربياً - صهيونياً ", وتطبيعاً ايرانياً - صهيونياً، وإعادة الوصل للعلاقات التركية الصهيونية. وهذه المسارات الثلاث يبرز مشترك واحد فيها هو الكيان الصهيوني.
وإذا كانت أميركا وإيران في اشتباك سياسي ظاهري في العراق لخلاف على حجم الدور والحصص، وهو ما كان وراء الانسداد السياسي لعملية انتقال سلطة جديدة بعد مرور سنة على انتخابات نيابية شهدت مقاطعة شعبية واسعة، فإن الحالة ذاتها تستحضر في إدارة الملفات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتعلقة بالواقع المحيط بالساحة اللبنانية، وملف ترسيم الحدود البحرية واحد منها، باعتبار أن إيران لم تغب لحظة عن كواليس هذا الملف عبر الدور الذي لعبه حزب الله في التحكم بمسار المفاوضات بشكل غير مباشر.
وعليه فإن دور إيران في مفاوضات الترسيم كان في النتائج التي تمخضت عنها نتائج المفاوضات وفي التوقيع على الاتفاق . ولم تكن مصادفة وفق التحليلات للمحللين السياسيين والخبراء ان يعلن عن اتفاقية الترسيم في نفس الوقت التي حلت فيه مشاكل العراق السياسية فمقابل التنازلات التي قدمها الجانب اللبناني وبموافقة حزب الله، تمكنّ الكيان الصهيوني من الحصول على ضمانات امنية وتوسيع مساحة التنقيب العائدة له، وحصلت إيران على مبتغاها في العراق من خلال تمكين القوى المرتبطة بمركز التوجيه والتحكم الإيراني من الإمساك بالقرار السياسي بكل ما يتعلق بإدارة العملية السياسية في العراق . كما ان إيران منحت "بونس مالي "، بالإفراج عن سبعة مليارات دولار اميركي من الاموال المحتجزة في البنوك الغربية.
إن أميركا التي أدارت ملف المفاوضات بدت متحمسة للوصول به إلى مآلاته النهائية وهي التي لم تكن متسرعة في السابق، وانما بسبب ضرورات الحرب في الشرق الاوربي، والسعي لتأمين بديل للغاز والنفط الروسيين لأوروبا، مارست ضغطاً على الاطراف المفاوضة، ونظمت مقايضة لتنازلات متقابلة في ساحة كل طرف يعتبر انها تحتل اولوية له. من هنا حصلت اميركا على ايجاد بيئة آمنة لاستخراج النفط والغاز من شرق المتوسط خدمة لهدف استراتيجي متعلق بالحرب الروسية - الاوكرانية والذي على ضوء نتائجه سترتسم معالم نظام جديد على مستوى العلاقات الدولية، كما رعت عملية تطبيع ولوغير مباشرة بين ايران والكيان الصهيوني من خلال صفقة التنازلات المتقابلة، هذا إلى ان ثمة تطبيع اقتصادي ولو كان غير مباشر أيضا سيصبح امراً واقعاً بين لبنان والكيان الصهيوني، ولبنان الذي يعاني من اختناق اقتصادي وانسداد سياسي وتدهور مريع في مستوى المعيشة فتحت امامه نافذة أمل باستخراج النفط والغاز من المنطقة التي خرجت من حصته وهي دون حصته التي كانت ستعود اليه لو لم يقدم تنازلات بينية التي تثبها الوقائع الدامغة. ويمكن القول أن إسرائيل حققت هدفها في مشروعها للشرق الأوسط الجديد بعد نجاحها في تطبيع علاقاتها مع العديد من الدول العربية
يعتقد الجانب الإسرائيلي أنَّ المكاسب الحقيقية من وراء اتفاق ترسيم الحدود لا تتعلق بالجانب الاقتصادي فحسب، فبالنسبة إليه هذا الجانب ثانوي ويمكن تقديم تنازلات مهمة فيه، وخصوصاً مع وفرة حقول الغاز الإسرائيلية في المياه الإقليمية والاقتصادية، وسماح الاتفاق له باستخراج الغاز من حقل "كاريش"، لكن التركيز الإسرائيلي ينصب على إمكانية تحقيق المكاسب في الجانبين الأمني والسياسي ، وترى "إسرائيل" في الجانب السياسي:
أولاً، أنَّ اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان يمكنه أن يمنحها اعترافاً دولياً بخطّ العوامات كخط حدود دولية بينها وبين لبنان، معترف به من قبل القانون والمجتمع الدوليين، الأمر الَّذي تعتقد الحكومة الإسرائيلية أنَّه سيمثل إنجازاً تاريخياً لـ"إسرائيل"، وأن ذلك اعتراف بحدودها البحرية التي وضعتها بعد انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، والتي لم يعترف بها لبنان ولا المجتمع الدولي.
ثانياً، يمكن أن يمثل الاتفاق بوابة جيدة لمزيد من الاتفاقات مع الدولة اللبنانية تجاه ترسيم الحدود البرية مثلاً أو أي مشاريع تعاونية إقليمية في المستقبل، ما يفسح الطريق لاتفاق "سلام" تطبيعي بين لبنان و"دولة" الاحتلال، وإنهاء حالة الصراع بين الطرفين، وخصوصاً أن بعض القوى اللبنانية لا ترى "إسرائيل" عدواً لها.
ثالثاً، موافقة الحكومة الإسرائيليّة على الاتفاق، بما فيه من تنازلات إسرائيلية، يرسل رسالة إلى كلّ من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا، وخصوصاً فرنسا، أنَّ "إسرائيل" تراعي مصالح داعميها، وتعزز اصطفافها مع الحلف الأميركي الأوروبي ضد روسيا، لما يحمله الاتفاق من تأثيرات إيجابية في مشاريع نقل الغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا، واستقرار سوق الطاقة. وبالتأكيد، ستطلب "إسرائيل" في مقابل ذلك دفع المزيد من الأثمان السياسية والعسكرية، وحتى الاقتصادية، المستقبلية لها.وهي في محصلتها على حساب القضية الفلسطينية والحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني وحق تقرير المصير وحقوقه في موارده الطبيعية التي تستغلها حكومة الاحتلال الصهيوني بوجه غير محق
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت