- مصطفى عبد الفتاح
وقف ناصر وسط زنزانته، "كشواهد القبور المُنتصبة في وجه الأنواء" منذ عشرين شتاء، وهو يبحث عن زمانه ومكانه الطبيعي، فلا يجد غير صدى صوته يأتيه باردًا من خلال هذه الجدران الصمَّاء، ينظر إلى صمت جدرانها الكالحة، بعيون متعبة تبحث عن منفذ لاختراق مساماتها، فلا يجد غير خيال يخترق الجدران ويحلق عبر الاثير في سماء الوطن، كانت روحه تبحث عن جذوة النضال مشتعلة وعن أسباب البقاء في عتم الزنزانة الحزين، في نفس الوقت، كان جسده المنهك، يذوق طعم العلقم، يبكي المًا، ويضحك فرحًا، في نفس الوقت، كي يقهر عنف السجان، ويسلبه نشوة الانتصار. وفي حصار الصمت القابع وسط الظلام مات الزمان وتوقف عدُّ الأيام.
وسط صمته العاري حلَّق الخيال في سماء زنزانته الصمَّاء، عدَّ أصدقائه الذين سيتصل بهم، كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد، تذكر حسن عبادي القادم من زمن الاحرار، يأتيه كقبس من نور، يخرجه من زنزانة القهر الى عالمه المشتهى، يخبره ببسمة جذلى وبضحكة طفولية، أنَّ المكان ما زال هو المكان، والزمان ما كان كما كان، يفتح له دروب الشوق، ويغرس في طريقه اوتاد الصبر والعزيمة، فيعيده الى عالمه المفقود.
وسط الزنزانة المظلم، على كرسي متحرك، عالم يضج برائحة القهر، وهواء الظلم، وخيط رفيع من الامل، لم يبق امام ناصر الا ان يضغط على الأرقام التي حفظها عن ظهر قلب ليأتيه الرد.
دُهش ناصر عندما سمع صوت الرّيح تعلن عزمها تأكيد وجوده في سماء الوطن عبر سماعة الهاتف، فور ان فُتح حسن الخط على الجانب الاخر، كانت أنفاس حسن تعلو وتهبط بوتيرة عالية كأنَّها تُلاحق صوت الريح القادم عبر سماعة الهاتف.
وراح حسن المُنهمك بشيءٍ ما، يرحِّب بصديقه ناصر بسعادة لا تخفيها ذبذبات الصَّوت القادم مِن بعيد، ممَّا جعل ناصر يزداد دهشةً ويشُك أنَّ في الأمر سرًا ما، وبدهشة يسأله:
- ما الامر يا حسن، أشعر أنَّك مشغول؟
واراد حسن ان يشركه فرحه ولو لثواني معدودة عله يخفف عنه أجواء وحدته، تحدث اليه كعادته بفرح، وبأمل أراد ان يشعره انه معه بكل جوارحه:
- انا يا صديقي في رحلة برية الى أعالي قمة الكرمل، ومعي زوجتي سميرة وابنتاي ديمة وشادن. نقطف اشتال الزعتر البري.
توقفت انفاس ناصر فجأة، تحطمت جدران الزنزانة، انكشف نور الشمس ساطعا يبهر ناظريه، اختفت رائحة الرطوبة النتنة وحل مكانها رائحة الزعتر، وصوت هواء ناعم يدغدغ اذنيه بموسيقى عذبة... عذبة وقال:
- ارجوك أكمل يا حسن تفاصيل ما ترى بدقة
وراح حسن بروحه الوثابة نحو العطاء والخير يصف له المشهد الكرملي بكل تفاصيله الدقيقة والجميلة، يصف حيفا وبحرها سمائها وهوائها، خضرتها واشجارها أراد ان يشاركه ناصر تفاصيل رحلته ليروّح عنه وحدته.
اما ناصر ففي تلك اللحظات، توقّف الزمن عن الدوران، وعادت عجلات الزمن لتلغي من قاموسها عشرون شتاء، وفجأة اختفت جدران الزنزانة من امام عينيه المغرورقتين بالدموع، وصمت يخترق كل المسافات، لا شيء في الجو غير رائحة الزعتر الفلسطيني، تعبق في أجواء الغرفة، وصوت نسيم البحر القادم عبر سماعة الهاتف يملأ صدره ويداعب جسمه، كأمّ تحتضن وليدها، لقد تفجّر ديناميت الشوق والتوق عند ناصر لاستعادة زمانه ومكانه الطبيعي في أحضان الوطن. خمس دقائق غيّرت كيانه وهزّت وجدانه، خرج من قيوده، نهض من بُرشِه كالمارد، وقف الى جانب حسن، ركض معه نحو اشتال الزعتر، شاهد زوجته سميرة وابنتيه ديمة وشادن، يتقافزن على الصخور الكرملية، يقطفن الزعتر ويركضن خلف الفراشات، كانت السعادة تغمر الجميع. كان ناصر يضحك وهو يركض في البريّة يفتح ذراعيه للريح يحتضن كل فلسطين، ويعد السفن الراسية في الميناء، ويكتب في الهواء قصيدته الجديدة:
اسأله
هل ما زال الزعتر يا حسن فلسطينيا؟!
فيجيب بثقة واباء
ما زالت آثار خطى الأجداد على
سفح الكرمل ماثلة
والزعتر ... ما زال على خضرته الأولى
بري ...
يأبى ان يدخل أقفاص التدجين
بسجن دفيئات المحتل
وما زال يقاوم رائحة البارود
ورائحة الغرباء
يقرأ للثوار .... وللأجيال
وصايا نكبتنا السوداء.
ويعود ناصر الى ذاته والى واقعه وسط الزنزانة في بئر معتم يتحداه بكل عزيمة وقوة يرفض وجوده وتعود الأسئلة عن الواقع لتطغى على خمس دقائق يعيش فيها ذاته الابية فينشد:
تتدلى الأسئلة بحبل المقصلة
وتبدو ساذجة
هل يا حسن ستتسع
الزنزانة للفرحة
حين اعود الى بئري مزدحمًا
بروائح كرملنا الفيحاء... ؟!
خمس دقائق كانت كافية
لأعيد كتابة روحي ثانية
اصقلها مرآة لموانئ حيفا
أطلقها
مثل خراف جوعى فوق
مراعيها الخضراء.... !!
خمس دقائق
اخرج فيها من بئري صوتا
يشرب نخب الصورة
في بوح الشعراء ....
خمس دقائق كافية
لأزور مجازًا ذاتي
واعري نسب اللقطاء الى
كرملنا
بشهادة زعترنا البري
واعصر ليمون التاريخ العربي
على خبيزة جدتنا في
حيفا
فشهادة ميلادك او ميلادي
وشهادة ميلاد الأبناء
يكتبها عكوب الأرض
ولا يكتبها
الغرباء.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت