- بقلم: دنيا عبد القادر
«أنا ذاهب إلى نهاية الطريق، ولكن مُطمئن وواثق بأنني أولا فلسطيني وأنا أفتخر، تاركًا خلفي شعبًا عظيمًا لن ينسى قضيتي وقضية الأسرى» كانت هذه جزءًا من آخر رسالة للأسير «ناصر أبو حميد» قبل استشهاده اليوم الثلاثاء، 20 ديسمبر/كانون الأول 2022 في مستشفى الاحتلال «أساف هروفيه»، حيث نقله الاحتلال ظهر أمس الإثنين من سجن «الرملة» الذي كان يقبع فيه إلى المستشفى بعد دخوله في غيبوبة قبل أن تنتهي حياته هناك وتعيش قصته حيَّة بيننا.
جاءت رسالة الشهيد وكأنها تحمل وصيته للشعب الفلسطيني قبل مماته، إذ وصى أبناء أمته بألا ينسوا قضيته وقضية الأسرى، كتب الشهيد رسالته الأخيرة وهو واثق من أن شعب أمته لم ولن ينساه هو وأسرى سجون الاحتلال. لم يكن «أبو حميد» شهيد الأسرى الأول -وبكل أسف- لن يكون الأخير، وبعد استشهاده وصل عدد شهداء الحركة الأسيرة، إلى 233 شهيدًا منذ عام 1967، منهم 74 أسيرًا استشهدوا جراء الإهمال الطبي المتعمد للاحتلال. ويبلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال اليوم حوالي 4700، من بينهم قرابة 150 طفلًا، و33 أسيرة.
الإهمال الطبي... سياسة الاحتلال للقتل البطيء
قتل الاحتلال 74 أسيرًا حتى الآن بسلاح الإهمال الطبي المتعمد؛ وهو واحد من الأسلحة التي تفتك بجسد الأسير ببطء. من المعروف عن إدارة سجون الاحتلال مماطلتها المتعمدة في تقديم العلاج اللازم للأسرى المرضى المصابين ومماطلتها أيضًا في إجراء العمليات الجراحية اللازمة لهم، فالاحتلال يتجاهل حالة الأسير المريض مهما كانت حالته متأخرة وخطرة، كما حدث مع الأسيرة الشهيدة «سعدية فرج الله» حينما تجاهل الاحتلال الأمراض المزمنة التي كانت تعاني منها وقتلوها ببطء إلى أن ارتقت في سجن «دامون» يوليو/تموز 2022.
وفي بعض الحالات حينما يقرر الاحتلال تزويد الأسرى بعلاجهم لتبيض ماء وجهه القبيح، يكون هذا القرار قد جاء بعدما تكون قد وصلت حالة الأسير إلى مرحلة ميؤوس منها مثلما حدث مع «ناصر أبو حميد» الذي اعتُقل خمس مرات طوال حياته وطوال تلك الفترة كان يتعرض لإصابات بالغة برصاص الاحتلال إلى أن ثبتت إصابته بورم في الرئة في شهر أغسطس/آب 2021، وخلال إجراء عملية جراحية له تمت إزالة الورم وحوالي 10 سم من محيط هذا الورم.
وبعد إتمام العملية نُقل إلى سجن «عسقلان» ومن هنا وصلت حالته الصحية إلى مرحلة خطيرة وعلى الرغم من إقرار الأطباء بحاجة «أبو حميد» الماسة إلى أخذ العلاج الكيميائي ماطل الاحتلال كعادته في تقديم العلاج متسببًا بمماطلته المتعمدة في وصول الأسير إلى حالة حرجة ولم يمد الاحتلال الأسير بالعلاج اللازم إلا في الآونة الأخيرة بعد انتشار المرض في جسده. ورغم مناشدات عائلة الأسير للاحتلال بالإفراج المبكر عنه رفض الاحتلال حتى نجح في قتل الشهيد البطل.
محطات بارزة في حياة البطل
وُلد «ناصر محمد يوسف أبو حميد»، في عام 1972، في مخيم «النصيرات»، أحد المخيمات الكبرى في قطاع غزة، لأسرة لاجئة من قرية «السوافير» الشمالية في غزة، ثم انتقل مع عائلته للعيش في مخيم «الأمعري» بالقرب من رام الله بالضفة الغربية. كان الشهيد مناضلًا منذ الصغر، فقد انضم في بداية حياته إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» وكان أحد أبز قادتها، وفي عامه الحادية عشرة اعتُقل بعد إلقائه زجاجة مولوتوف على دورية لجيش الاحتلال، ومضى حينها في السجن 4 أشهر.
وبعد خروجه من السجن قرر «أبو حميد» أن يقضي حياته مناضلًا ومقاومًا ضد الاحتلال إلى أن اندلعت انتفاضة الحجارة عام 1987، والتي أفسحت له الطريق للنضال، ولم يمض وقت كثير حتى أصبح المطلوب رقم واحد لجيش الاحتلال، وأُعيد اعتقاله مرة ثانية وحُكم عليه بالسجن عامان ونصف، وبعد الإفراج عنه أُعيد اعتقاله ثالثًا عام 1990، وحُكم عليه بالسّجن المؤبد 9 مؤبدات على خلفية قتل متعاونين مع الاحتلال، إلا أنه قضى من تلك المدة 4 أعوام فقط، ثم أُفرج عنه في إطار تنفيذ اتفاقية «أوسلو» عام 1995، ولكن وبعد أقل من عام أعيد اعتقاله وحُكم عليه بالسجن 3 سنوات.
بعد عام من الإفراج عنه، اندلعت الانتفاضة الثانية في عام 2000، وبطبيعة الحال كان «أبو حميد» من أبرز المنضمين لها وبعد مرور أربعة أيام على اندلاع الانتفاضة أسس الشهيد بالتنسيق مع كل قيادات الحركة في الضفة والقطاع «كتائب شهداء الأقصى». وقام في هذه الأثناء بتنفيذ وتخطيط سلسلة من العمليات الاستشهادية داخل دولة الاحتلال، وبذلك وُضع «أبو حميد» على قائمة المطاردين مجددًا، وتعرض خلال تلك الفترة لمحاولات اغتيال، ليصبح بذلك أول مطلوب يتعرض لمحاولة اغتيال من خلال تفجير مركبة كان من المقرر أن يستقلها.
وفي عام 2002 اعتُقل الشهيد البطل للمرة الخامسة والأخيرة، بعد محاصرة منزله في كفر عقب شمال مدينة القدس المحتلة، وحُكم عليه بالسجن المؤبد 7 مرات و50 عامًا، وكان الاحتلال يعتبره أخطر المعتقلين. عانى الأسير طوال سنوات اعتقاله من عقوبات كان أبرزها حرمانه من زيارة عائلته والالتقاء بأشقائه، الذين اعتُقل 6 منهم، خلال بعض السنوات، فضلًا عن تعرض منزل عائلته للهدم خمس مرات وكان آخرها في عام 2019. والرغم مما كان يعانيه الأسير من آلام جسدية ونفسية بالغة في سجون الاحتلال إلا أنه رفض حينها اقتراح محاميه الذي كان ينص على طلب عفو من رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، للإفراج عنه؛ تمسكًا منه بحق الاستمرار في مقاومة الاحتلال، واحترامًا منه لمسيرة الشهداء ورفاقه الأسرى.
«أنا لست حزينًا من نهاية الطريق لأنه في نهاية الطريق أنا أودع شعبًا بطلًا عظيمًا» هكذا اختتم الشهيد «أبا حميد» صاحب الخمسين عامًا، رسالته الأخيرة ليختم بها حياة لم يعش فيها طفولته أو شبابه، قضى منها 34 عامًا سجينًا و5 أعوام مُطارد وبذلك لم يكن عجيبًا أن يكون من أهم المطلوبين لدى الاحتلال. فقد كان بطل من طراز فريد سدد ضربات موجعة ضد الاحتلال ورغم إنهاء الاحتلال حياته إلا أنه لم ولن يستطيع إنهاء قصته. ولن تعجز أمهات فلسطين عن أن تنجب مثل المناضل الشهيد «ناصر أبو حميد».
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت