وَمَضَات مِنْ سِيسِيولْوجِيا مُونْدِيَالِ قَطَرَ 2022

بقلم: مؤيد عفانة

Moayad Afanah.jpg
  • بقلم: مؤيد عفانة
  • باحث في القضايا الاجتماعية والثقافية

انسدلت ستائر مونديال قطر 2022، ولم تنسدل ارتدادات المونديال الاجتماعية، وساهمت في تأجيجها عوامل عدّة، منها أن تنظيم المونديال تم لأول مرة في دولة عربية، ودولة "جدلية" وهي قطر، إضافة الى الصراع الثقافي الحضاري القيمي بين الأمم، الذي واكب افتتاح ومجريات واختام المونديال، وكل ذلك تضاعف أثره بفعل سطوة وتمكّن وسائط التواصل الاجتماعي من المجتمعات ككل، وسهولة انشار وتداول الخبر والصورة والمشهد، مهما كان بسيطا أو هامشيا.

وعلى الرغم من عدم شغفي الكبير بالمباريات وكرة القدم، إلا أن للمونديال سحر خاص، وقوى جاذبةٌ للمتابعة، وان كان جلّ مقالي سيتناول بعض القضايا الاجتماعية المواكبة له، وليس الأداء الفني للمنتخبات المشاركة، وقد بدأ المونديال بقضية اجتماعية هامة، ليست بالجديدة بالمطلق، وانما امتازت بالريادية، وهي افتتاح المونديال من خلال شخص من ذوي الإعاقة، والإعاقة الشديدة، (المُلهم غانم المفتاح) في رسالة بالغة الأثر حول القدرة على شمول الإعاقة في الحياة العامة، بل وفي أحداث عالمية مميزة، والمشاركة لم تكن "ديكورية" أو شرفية، بل مشاركة حقيقية، ولم يكن أداء (المفتاح) أقل جودة او أثرا من أي شخص آخر، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل كانت هناك مواءمة متكاملة لشمول ذوي الإعاقة في فعاليات المونديال، الحدث الأكبر عالميا، وهذه دلالة على أن الشمول ممكن، ان توفرت الإرادة لذلك، وربما تلك المشاركة هي حلم كل شخص من ذوي الإعاقة، لكن لم يكتمل بسبب المجتمع المعيق، وعدم وجود إرادة لصناع القرار لاحتضان وشمول ذوي الإعاقة، وتراكب القضيتين شكّل معيقا أشد من الإعاقة ذاتها، وربما لم تكن مصادفة أن يكون شريكه في حفل الافتتاح من أصحاب البشرة السوداء، والذي عانوا الأمريّن من سياسات التمييز العنصري، التي كانت وما زالت تبعا للون البشرة في انحدار سحيق للقيم الانسانية، ودفعوا ثمنا بملايين الضحايا في عهود العبودية والرِّق من قبل "السيد الأبيض"، وربما تلك المشاركة جزء من "حلم" مارتن لوثر كنغ الشهير، والذي لم يكتمل بسبب رصاصات العنصرية البغيضة.

ومن خلال أحداث المونديال كان الغائب عن ميدان الكرة، والحاضر بكل ميادين المونديال "فلسطين"، بعَلَمِها، بكوفيتها، بهتافات المشجعين، بالملاعب، بالمدرجات، بالشوارع، حتى أن العديد من المنتخبات واللاعبين، وعلى رأسها المنتخبات العربية المشاركة رفعت علم فلسطين في نصرها، كما أعلام دولها، وتزينت أحداث المونديال بالنهكة الفلسطينية، في رسالة عميقة، مفادها أن الشعوب حيّة، والقضية الفلسطينية ما زالت أيقونة للأمم، كرمز مُلهم للنضال والتحرر في وجه الظلم والغطرسة والاحتلال.

وتشاء صيرورة الأحداث أن تحمل في طياتها رسائل بالغة التعبير على أن المونديال أتاح فرصة للتعويض عن النمطية الدولية السائدة في التصنيف العنصري للدول والشعوب، المنافي لمبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، تبعا لموازين القوى الدوليّة، وما تنتجه تلك النمطية من ممارسات عنصريّة، وهيمنة على الشعوب الفقيرة، والدول المهمشة، ففي فضاء المونديال تلاشت التصنيفات المُنمّطة، والتقسيمات التراتبيّة الهرمية، فلا تفاضل لدول العالم الأول، أو لعرقٍ، أو لونٍ، أو هوية، أو جنس، فالهرم الاجتماعي النمطي، المدعم بموازين القوى، والفكر الرأسمالي، وأدوات العولمة، انهار تحت ركلات أقدام اللاعبين، فتألق العرب، والأفارقة، ولاعبي أمريكيا اللاتينية، وأثبتوا عُلُوَّ كَعْبِهِمْ، وحجزوا وجودهم في فضاء المونديال الثقافي والاجتماعي كما في المربع الذهبي للكأس، وبالبنط العريض، ونشروا الفرح لدى الشعوب المظلومة والمضطهدة، والمسلوبة الموارد من الدول الرأسمالية، كما سُلبت حريتهم لسنوات طويلة، ولم تستطع قوى العولمة منع الشعوب المقهورة من إعادة  إنتاج هويّتها القوميّة، واستحضار رموزها الثقافية والحضارية، وأنتجت وعي جمعي، خلق ولاءات تعاضديّة، والدعم العربي والافريقي لمنتخب المغرب مثال ساطع.

 وربما كانت المباراة الختامية انموذج على قلب الهرم النمطي لموازين القوى، وتنميط البطولة من منظور هوليودي، فكانت القمة بين فريق معظمه من الأفارقة، رغم انه يلعب ضمن المنتخب الفرنسي، وفريق من أمريكا اللاتينية، يعاني شعبه من الفقر والتهميش، وأبت كأس العالم الّا أن تنتصر للشعوب المقهورة والفقيرة، بفعل جد واجتهاد لاعبيها وأبطالها، ورسمت الفرحة لشعب الارجنتين، ومحبيهم ومشجعيهم على مستوى العالم.

وختاما، ربما نختلف أو نتفق مع قطر، وسياساتها الخارجية والداخلية، ولكنها استطاعت – رغم محدودية الجغرافيا والسكان- أَنْ تَخْلُقَ لَهَا مَكَانٌ مُمَيَّزٌ بَيْنَ اَلْأُمَمِ، واستطاعت فرض ثقافتها، وقيمها، على جموع الوافدين والزائرين من العالم بأسره، بل وكانت متقدمة بخطوات في الكثير من الأحداث الجوهرية، والتي رسمت قطر من خلالها حضورها وثقافتها وأرثها، لسنوات طويلة قادمة، فصنعت لها حضور وذكرى ستمتد مع ذاكرة أكبر حدث جماهيري عالمي، وستُرهق قطر الدول المنظمة لكأس العالم من بعدها تبعا لمستوى التنظيم المميز. وصحيح أن قطر تمتلك موارد طبيعية كبيرة، ومن أبرز الدول في احتياطي الغاز في العالم، وتُصنّف الدولة ذات أعلى دخل للفرد في العالم، الا انها استثمرت مواردها في التغلب على محدودية الجغرافيا والتاريخ والموارد البشرية، ورسمت لها حضور وازن بين الأمم، وهذا مؤشر على ديناميكية التحوّلات الاجتماعية والسياسية، وبروز دول وسقوط أخرى، حال توفرت الإرادة والرؤية والتخطيط المُمَنهج والاستثمار في الموارد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت