- سليمان سعد أبو ستة
- كاتب ومحلل سياسي
يتصور الاحتلال أن المقاومة الفلسطينية إبداعا نخبويا يمكن القضاء عليه بالقضاء على تلك النخبة التي تتبناه، ولذا يفشل مرة بعد مرة، سواءً عندما اغتال كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار من قيادات حركة فتح عام 1973، أو عندما اغتال وديع حداد عام 1978م، وأبو علي مصطفى عام 2001 من قيادات الجبهة الشعبية، أو عند اغتياله مؤسس الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي 1995، أو عماد عقل عام 1993 أو يحيى عياش عام 1996 من قيادات حماس، أو خلال أكبر موجة اغتيالات مكثفة أثناء انتفاضة الأقصى، وطالت عددا كبيرا من القيادات السياسية والعسكرية للمقاومة، وعلى رأسهم أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي.
وأنا لا أقصد من سردي لهذه السلسلة الممتدة من القيادات المبدعة، والتي شكّل كل منها إضافة نوعية غير مسبوقة في لحظة كانت بأمسّ الحاجة إليه، لا أقصد الإشارة إلى أن الشعب الفلسطيني لا يتأثر باغتيال قياداته، وأن مسيرته المقاومة مستمرة دون توقف، ذلك أنني أؤمن بالدور الفاعل للقادة (الحقيقيين)، والذي لا يمكن الاستغناء عنه أو النجاح بدونه، حيث يمثلون ثروة هائلة ينبغي الحفاظ عليها، لما حباهم به الله من قدرات يجب أن توظف في خدمة مجتمعاتهم، وكما أنه لا يمكن أن نتخيل نجاح شعب في تقديم مخترعات نوعية دون الحفاظ على أصحاب القدرة على الاختراع، وحمايتهم، وتوفير البيئة الحاضنة لهم، فلا يمكن تخيل شعب ناجح دون أن يضع على رأس مشاريعه الوطنية قادة مبدعين.
نعم، لم أقصد من سردي لتلك الأسماء ذلك، وإنما أردت الإشارة إلى شيء مهم لا يضعه العدو ضمن حساباته، وهو أن المقاومة ليست إبداعا نخبويا، نبعت من صميم أفكار أولئك القادة المبدعين، وبالتالي يمكن القضاء عليها بالقضاء على عرين الأسود أو كتيبة جنين أو غيرها من الكتائب الفاعلة في الضفة، بل إن هذه الكتائب وأبطالها مجرد تعبير عن شيء أعمق بكثير، وهو متأصل في الروح الفلسطينية إلى أبعد مدى يمكن تخيله، باختصار يمكن اعتبار تلك التشكيلات الرائدة السلوك العملي التلقائي النابع من قيمة راسخة في أعماق النفس.
ذلك لأن المقاومة بالنسبة للفلسطينيين حاجة أساسية مثل حاجتهم للطعام والشراب والدواء، وهم يحتاجون المقاومين كما يحتاجون الأطباء والمعلمين والمزارعين، ويحتاجون الجماعات المقاومة كحاجتهم للمدارس والمستشفيات والجامعات، وكما أنه لا يمكن تخيل شعب قادر على الاستغناء عن تلك الحاجات، لا يمكن تخيل قدرة الفلسطينيين على الاستغناء عن المقاومة، وكما أن مبدعي كل شعب يندفعون بفطرتهم التلقائية نحو تلبية تلك الاحتياجات إن فقدتها شعوبهم؛ تندفع النخبة الفلسطينية الحيوية.
ولأن الحاجة أم الاختراع سرعان ما يجد الفلسطينيون أدوات قادرة على الاستجابة لتلك الحاجة، وتوفيرها، وهم يستشعرون بشكل حساس، وكأنهم يمتلكون ترمومتر دقيق، مدى افتقادهم لتلك الحاجة.
فمنذ عام 1948 والمقاومة تنتقل من مكان إلى مكان، ومن أسلوب إلى آخر، ومن أداة إلى أخرى، لكن اللافت أنها لا تكاد تتوقف، فتحت الحكم المصري لقطاع غزة انطلقت عقب النكبة مباشرة مقاومة فلسطينية مهمة برعاية ضباط مصريين وطنيين، مثل مصطفى حافظ الذي اغتالته دولة الاحتلال عام 1956.
وعندما تقلصت فعالية تلك المقاومة سرعان ما تم تأسيس مجموعة من الفصائل الفلسطينية المؤثرة آنذاك، كانت أكثرها تأثيرا حركة فتح التي انطلقت عام 1965 لتقود منظمة التحرير عقب نجاحها في مواجهة الاحتلال في معركة الكرامة بعد ثلاث سنوات من انطلاقها، وعندما خرجت المقاومة من الأردن عقب أيلول الأسود 1970 سرعان ما عادت لمواجهة الاحتلال انطلاقا من لبنان.
وعقب هزيمة 1982 وخروج المنظمة من لبنان، استشعر الفلسطينيون الحاجة للمقاومة، فانطلقت الانتفاضة الأولى بوجوه جديدة، وتنظيمات جديدة، وأسلوب جديد، فكانت حركتا الجهاد الإسلامي ثم حماس التي تطورت سريعا لتتربع على عرش الفعل الفلسطيني المقاوم، ناقلة الصراع من خارج فلسطين إلى داخله بشكل رئيسي، وعندما تعرضت الانتفاضة لضربة كبيرة باتفاق أوسلو، وبلغت السلطة أوج عدوانها على المقاومة جسدا وروحا في قطاع غزة، كانت في الضفة عمليات نوعية مثل عمليات الثأر المقدس التي انطلقت ثائرة للشهيد يحيى عياش.
وعندما اختنقت المقاومة تماما في الضفة وغزة بيد التنسيق الأمني انفجرت انتفاضة الأقصى التي لم تنته إلا وقد أحدثت تغييرات نوعية في طبيعة الصراع، حيث اندحر الاحتلال من قطاع غزة، وكثّف سيطرته على قطاع غزة، وبينما تصاعدت قوة المقاومة في القطاع بشكل كبير، عانت الضفة من آلام شديدة، عبّر عنها الاحتلال بما أسماه سياسة قص العشب، التي تتمثل في ضربات يومية للعمل المقاوم، ولأنصاره الفعليين أو المحتملين.
وبينما خاضت غزة أربعة حروب متتالية، كانت المقاومة في الضفة تتصاعد رويدا رويدا، وكان لها فعلها النوعي عام 2014 بخطف المستوطنين الثلاثة، ثم هبة القدس التي أشعلت ثورة الدهس والطعن، وصولا إلى الحالة الراهنة، حيث عرين الأسود وكتيبة جنين، التي سرعان ما انتقل تأثيرها من شمال الضفة إلى جنوبها حيث الخليل.
نلحظ فيما سبق الشعلة الدائبة التي لم تنطفئ، وتنوع الأماكن من غزة إلى الجوار العربي، إلى غزة والضفة مجددا، إلى شمال الضفة إلى جنوبها، وتنوع الأدوات من الأسلحة التقليدية، وعمليات خطف الطائرات والهجوم بالطائرات الشراعية إلى الأحزمة الناسفة إلى الدهس والطعن بالسكاكين إلى البلالين الحارقة إلى صناعة الصواريخ محليا وتطويرها، كما نلحظ تنوع الأفكار الإيديولوجية الحاملة للمقاومة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن الفكر الوطني إلى القومي إلى الإسلامي، وكل ذلك لم يكن مقصودا لذاته، كله كان تعبيرا عن حاجة أكثر عمقا.
وهذا هو السر فيما سبق من إصرار راسخ على فكرة محددة رغم ما أحاط بها من تنوع، لم يكن السر في نخبة يمكن تخويفها بالتهديد أو تحييدها بالاغتيال أو شراؤها بالإغراءات المالية أو كراسي الحكم والنفوذ، السر في روح راسخة تجدها عند أصغر الأطفال، يتعلم حقه في فلسطين كما يتعلم النطق والتعبير عن نفسه، ويرى في الاحتلال عدوا واضحا بيّنا، كما يرى الليل والنهار.
ولذا فشلت كل مشاريع تذويب الفلسطينيين، سواءً عبر إغراقهم في العمل في الداخل المحتل بأجور خيالية، (اندلعت الانتفاضة الأولى والفلسطينيون داخل فلسطين في أفضل حالاتهم الاقتصادية مقارنة بالفترتين السابقة واللاحقة) أو إغراقهم في سلطة وهمية، ومشروع خبيث للتنسيق الأمني، وظل الفلسطيني قادرا على إعادة الأمور إلى نصابها في كل مرة، شعب محتل يقاتل دون استسلام.
وذلك لأنه يدافع عن وجوده المادي والمعنوي، أمام احتلال لم يكتفِ يوما بما حققه من سرقة، وإنما يسعى دائما لإنهاء الوجود الفلسطيني، عاجزا أو غير راغب في تقديم أي حلول سياسية لهذا الصراع، وتتصاعد عنجهيته وتطرفه واستعلاؤه يوما بعد يوم، ولم يتراجع مرة أو يخضع طوال فترة وجوده على هذه الأرض إلا أمام ضربات المقاومة الفاعلة، ولذا فالمعركة حياة أو موت، معركة شعب بغالبيته العظمى، وليست معركة نخبة تحمل أفكاراً مثالية تحلم بتطبيقها، كما هو حال كثير من الحركات النضالية في العالم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت