أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ورقة علميَّة بعنوان "تأثير مراكِز الفكر والرأي ودورها في صناعة القرار في منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني"، وهي من إعداد الباحث الدكتور أشرف عثمان بدر، وتهدف إلى إجراء مسح وتحليل لتأثير مراكز الفكر والرأي على صناعة القرار في "إسرائيل"، وتسعى للإجابة على سؤال مركزي يتعلق بماهية تأثير مراكز الفكر والرأي الإسرائيلية، والذي يتفرع عنه عدة أسئلة تتعلق في كيفية تأطيرها نظرياً ومفاهيمياً، وإمكانية رصد تأثيرها المباشر وغير المباشر، وذلك بواسطة إجراء مسح للأدبيات المنشورة والرجوع إلى المصادر الأولية المتوفرة، ومن خلال تحليل مضمون المواقع الرسمية، لأبرز مراكز الفكر والرأي فيها.
وقد قُسِّمت الورقة إلى خمسة مباحث وخاتمة؛ بدأ المبحث الأول؛ بالتأطير النظري لفكرة إنشاء مراكز الفكر لتُزوِّد الحكام بمعرفة تمكّنهم من فنِّ الحكم الناجع وإدارة السكان (البيوسلطة)، وبالإطار المفاهيمي لتعريف مراكز الفكر والرأي، وبيان أنواعها، ومهامها، ووسائل تسويق أفكارها، وفي المبحث الثاني؛ انتقل الباحث إلى تناول آلية صنع القرار في "إسرائيل" وأوضح أن التحول من "النموذج الوظيفي" إلى نموذج "الشبكة الأمنية" أسهم في تعزيز دور مراكز الفكر في عملية صنع القرار، وأنّ دور هذه المراكز محكوم بعدة عوامل من بينها نوع المركز ومجال عمله، وفي المبحث الثالث؛ عرض الباحث لأنواع المراكز وأنماطها وتمويلها ومجال اهتمامها وعلمها ومدى تأثيرها وانتماءاتها، أما في المبحث الرابع؛ فقد بيّن الباحث اهتمام الحكومة الإسرائيلية بالإنفاق على البحث العلمي ورصد ميزانية خاصة له، فعلى سبيل المثال بلغ الإنفاق "الوطني" على البحث والتطوير المدني في سنة 2020 مبلغ 76.2 مليار شيكل (أي ما يقارب 23 مليار دولار) وذلك يعادل 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي تعدّ النسبة الأعلى بين دول العالم، وقد خصصت الحكومة الإسرائيلية جزءاً من ميزانية البحث والتطوير لتمويل الجامعات الإسرائيلية، والتي ذهب معظمها لتمويل أبحاث في مجال العلوم الطبيعية، فقد بلغ الإنفاق على الأبحاث الممولة بشكل خاص في الجامعات الإسرائيلية في سنة 2019 ما قيمته 2.58 مليار شيكل (نحو 724 مليون دولار). وفي المبحث الخامس؛ رصد الباحث التأثير المباشر وغير المباشر للمراكز الإسرائيلية، مع الأخذ بعين الاعتبار بوجود مراكز رأي تجمع ما بين التأثير المباشر وغير المباشر على صناعة القرار.
وتكمن أهمية الورقة في أنها تجادل بوجود تأثير مباشر وغير مباشر لمراكز الرأي على صناعة القرار الإسرائيلي على الرغم من تعقيد هذه العملية وتعدد اللاعبين والمؤثرين. حيث رصدت الدراسة ثمانية مجالات تؤثر فيها المراكز وهي: المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين والحل السياسي المرتبط بعملية "السلام"، وتعزيز ثقافة "التعايش" بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتمهيد الطريق لحياة مشتركة و"سلام" دائم بين جميع المواطنين عبر تغيير الصور النمطية الذهنية مقابل دعم الحوار الثقافي، والتطبيع مع الدول العربية واستضافة العديد من المطبِّعين العرب، وإشراكهم بمحاضرات وندوات عن أهمية التطبيع وبناء علاقات "سلام"، والرقابة الشرطية وذلك من خلال تتبع الإصدارات والنشاطات الأكاديمية للأساتذة الجامعيين، والتشهير بأي نشاط ينتقد ممارسات الاحتلال الصهيوني، وكما أسهمت بعض مراكز الأبحاث في بلورة "مشاريع قوانين" عرضت في الكنيست، وتحوَّل بعضها إلى قوانين معتمدة، والسياسات الاقتصادية فقد زادت تبني السياسات الاقتصادية الليبرالية والسوق الحر والتخلص من ميراث الفكر الاقتصادي الاشتراكي، وإحكام السيطرة على القدس إذ تلعب بعض المراكز دوراً في تزويد سلطة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي بأدوات تعزز من سيطرتها على القدس والتحكم بسكانها من الفلسطينيين؛ حيث تمّ اختيار معهد القدس لبحث السياسات من قبل حكومة "إسرائيل" للمشاركة في خطة اليوبيل الحكومية للـ"تنمية" الاقتصادية للقدس، من خلال توفير قاعدة بحثية لأبحاث التكوين والتقييم لتنفيذ الاقتراح، وهذه عملية مدتها خمسة أعوام بميزانية 850 مليون شيكل (نحو 238 مليون دولار)، وقد تمّ ذلك بعد تنفيذ مشروع بحثي قام به المركز يتعلق بالإمكانات الاقتصادية، والمزايا الحضرية، والأدوات الملموسة لتعزيز القدس كمدينة حكومية نشطة وناجحة، حيث تمّ تبني توصيات المركز من قبل سلطة تطوير القدس (JDA)، والسياسات والخطط فقد أسهمت بعض المراكز في وضع خطط وبلورة السياسات في عدة مجالات من بينها: الأمن، ومعاداة السامية، وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي أس). كما رصدت الدراسة خمسة مجالات تؤثر فيها المراكز بشكل غير مباشر، وهي: توفير رأسمال بشري وقيادات شابة مدربة على التحليل وتقدير المواقف والتفكير ببدائل سياساتية، والترويج الأيديولوجي بصبغ أي سياسة أو توجه بصبغة "علمية" يكسبها تأييد شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي، يضاف إلى ذلك استخدام التعليم والمناهج كأداة للترويج لهذه الأيديولوجيات، والبروباجندا والدعاية الموجهة للرواية الصهيونية، والاستشراق والغزو الفكري وخصوصاً للدول العربية، ومحاولة دراسة مكامن ضعفها وقوتها، وأخيراً توفير قاعدة معلومات لصنّاع القرار.
وخلصت الورقة إلى أن التحوّل في شكل النظام السياسي الإسرائيلي، والتحوّل العسكري من "النموذج الوظيفي" إلى نموذج "الشبكة الأمنية"، مع تبني صنّاع القرار العقل والعقلانية كمصدر أساسي من مصادر المعرفة، أسهم في زيادة اهتمام الكيان الصهيوني، بإنشاء مراكز الفكر والأبحاث والتي لعبت دوراً فاعلاً في استشراف المستقبل والتخطيط له، ووضع الحلول والمقترحات والسيناريوهات لمواجهة المعضلات أمام صانعي القرار؛ فكانت مصدراً من مصادر المعرفة الاستعمارية الهادفة لتعزيز منظومة التحكم والسيطرة الصهيونية.