- بقلم : أحمد بدوي
قراءة في مسلسل "Better than Us" الروسي..
بالنِّسبة لشخص لا يعرف الكثير عن الرّوبوتات، فإنَّ أوَّل شيء يجب فهمه، هو أنَّ معظم الرّوبوتات التي نراها في مسلسلات وأفلام الخيال العلميّ، هي إلى حدّ كبير ليست أكثر من خيال؛ حتَّى ذلك الرّوبوت (Asimo) الذي أظهروه في فيلم "Robot & Frank" على أنَّه يشبه البشر في طريقة تعامله إلى حدّ كبير للغاية، أُعطِيَ قدراتٍ أكبر بكثير من حجمه الحقيقيّ.
هناك العديد من الرّوبوتات حاليًّا في مرحلة التَّطوير في المعامل الآليَّة في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك، هناك روبوتات تعمل في مراكز التَّسوُّق في اليابان وكوريا، كما يتمّ استخدام روبوتات في رياض الأطفال في كوريا، وفي العديد من البلدان المتقدّمة، تقوم الرّوبوتات بتنظيف المنازل بالمكنسة الكهربائيَّة، كما أنَّ هناك عددًا متزايدًا من الرّوبوتات التي تُستَخدَم في دور المسنّين في معظم أنحاء العالم المتقدّم، بل إنَّ هناك روبوتات تعمل في الفنادق اليابانيَّة.
الكثير من العوامل المختلفة، تزيد من الحاجة إلى الروبوتات، فالاتِّجاه الدّيموغرافي الحاليّ المتمثِّل في زيادة أعداد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فأكثر، يرفع الضَّغط على أنظمة الرِّعاية الصِّحيَّة، ومن هذا المنطلق، تمَّ اقتراح الرّوبوتات كطريقة للمساعدة في تلبية بعض احتياجات الرِّعاية الصحيَّة لكبار السِّنّ.
يمكن للرّوبوتات أيضًا تأدية العديد من المهام المختلفة التَّرفيهيَّة والصحيَّة، حيث يقلِّل من الشُّعور بالوحدة، ويزيد من التَّفاعلات الاجتماعيَّة، ويمكن أن يساهم في معالجة السُّلوكيَّات الإشكاليَّة الفرديَّة بين مرضى الطبّ النَّفسيّ، ويمكنه أيضًا أن يقلِّل من الانفعالات والاكتئاب لدى الأشخاص المصابين بالخرف وكلّ هذه الفوائد أو الاستخدامات وأكثر، جعلت البعض يتعامل معه على أنَّه إنسان يدرك ما يجري حوله ولديه مشاعر تجعله يستجيب للسَّجيَّة البشريَّة، كالشُّعور بالبرد، أو قرقرة البطن عند الجوع، وهناك آخرون بقوا ينظرون إليه على أنَّه روبوت مساعِد ليس أكثر.
إنَّ الوظائف التي تحدَّثت عنها سابقًا حول الرّوبوتات، لا تعدو كونها وظائف تكميليَّة، أو وظائف إعانة – إذا جاز التَّعبير –، وهذه الإعانة تبقى في حدود الأعمال الفيزيائيَّة الجسديَّة، أو الأعمال البسيطة البعيدة عمَّا يختلج الإنسان من مشاعر وأحاسيس؛ أي إنَّ علاقة الرّوبوتات بالإنسان لم تتعدَّ المساعدات السَّطحيَّة التي لا تتطلَّب عمليَّات دماغيَّة وعصبيَّة معقَّدة؛ كالعواطف وما يرافقها من مشاعر معتادة بين بني الإنسان، كالحبّ.
ولكن، إذا نظرنا إلى عنوان مسلسل (Better Than Us)، نجده يشير بشكل ضمنيّ إلى أنَّ الرّوبوتات يمكن أن تكون أفضل منَّا نحن بني البشر، وفي هذا العُنوان مجازفة نفسيَّة وتمهيد لما قد يضمّه المسلسل بحلقاته، والتي تدور أحداثها في المستقبل غير البعيد؛ وتحديدًا في عام 2029، أي بعد ستّ سنوات فقط من الآن. وعلى الرّغم من أنَّ المسلسل يوضح بشكل صارم – ظاهريًّا – إلى أنَّ البشر هم الذين ما زالوا يديرون العالم، إلَّا أنَّنا إذا نظرنا في العمق، وإلى الأنساق والسِّياقات المضمرة، نجد أنَّ المسلسل يقدِّم للرّوبوتات ميزة غاية في الأهمِّيَّة، إحدى الميِّزات التي يتَّسم الإنسان بها دون غيره من المخلوقات، وهي "الإرادة الحرَّة".
ملخَّص المسلسل أنَّ هناك شركة تُدعى "كرونوس"، وهي رائدة في مجال تصنيع الرّوبوتات، تقوم بإصدار نوع جديد من الرّوبوتات إلى العالم يُدعى (Arisa)، غير أنَّ لهذه الرّوبوتات ثلاثة قوانين لا يمكن أن تُختَرَق؛ أمَّا الأوَّل فهو عدم إلحاق الأذى بالبشر، أو التَّسبُّب في أيّ موقف يمكن أن يسبِّب ضررًا تحت أيّ ظرف من الظُّروف؛ وذلك في محاولة من الصَّانعين لمنع استخدام البشر للرّوبوتات بطريقة يؤذي فيها بعضهم بعضًا. أمَّا القانون الثَّاني، فينصّ على أنَّ الرّوبوت يجب أن يتبع جميع الأوامر الصَّادرة عن مالكه، مع استثناء وحيد، وهو عدم انتهاك القانون الأوَّل. أمَّا القانون الثَّالث، فهو أنَّ الروبوت يمكنه القتال للحفاظ على سلامته، ما لم يكن ذلك على حساب إيذاء الإنسان! هذه هي القوانين الثَّالثة التي تمَّت صناعة الرّوبوت وفقًا لها؛ وبمعنى آخر، لقد تمَّ جعل الرّوبوتات عبيدًا للبشر، بحيث يمكنهم استخدامها لأيّ غرض يريدونه باستثناء خرق القوانين الثَّلاث. وهكذا يُصاب النَّاس بخمول واضح، وكسل بارز، حين يكون هناك روبوتات مخصَّصة للعمل وتقوم بدور الإنسان، فضلًا عن لجوء البعض إلى استخدام الرُّوبوتات في العلاقات الحميميَّة، ممَّا خلق تعقيدًا فريدًا في المجتمع الحديث، ووضع لنا مجموعة من الأسئلة العميقة التي يصعب الإجابة عنها، مثل: عندما يمارس الرّجلُ الجنس مع إنسان آليّ، فهل هذا يعني أنَّه يخون زوجته أم لا؟ وهل هذه العلاقة تخترق القانون الأوَّل الذي كان ينصّ على أنَّ الرّوبوتات يجب ألَّا تسبب مآزقَ لبني الإنسان بين بعضهم البعض؟
في المسلسل، أقبل الجمهور على الرّوبوتات واتَّخذوهم شركاء لهم، وراحوا يعاملونهم كما لو أنَّهم بشر حقيقيُّون وليسوا روبوتات، بل إنَّهم وجدوا العلاقة مع الرّوبوت أفضل من العلاقة مع البشر؛ لأنَّ الروبوتات خاضعة تمامًا للإنسان، بل ستفعل كلّ ما يريده الإنسان؛ لأنَّ الهدف الأساسي الذي صُنِعَت الرّوبوتات من أجله هو إرضاء البشر.
وهناك استخدام آخر للرّوبوتات – بعد العلاقات الحميميّة – أظهره المسلسل، وهو استبدال شخص عزيز بالرّوبوت؛ أي أن يحلّ الرّوبوت محلّ إنسان آخر، وتمثَّل ذلك في طلب فيكتور من ماسلوفسكي أن يصمِّم روبوتًا يضاهي ابنه الذي تُوُفِّيَ؛ كي يرضي زوجته سفيتلانا، ويخفِّف من اكتئابها السَّريريّ الذي أصيبت به، وبالفعل، بعد مرور بعض الوقت، تشعر سفيتلانا أنَّ الرّوبوت حقيقيّ؛ وتقنع ذاتها أنَّ الروبوت هو ابنها، ما يقدِّم معضلة أخرى وأسئلة جوهريَّة تحتاج إلى كتب فلسفيَّة وأخلاقيَّة للإجابة عنها، مثل: هل يحلّ الرّوبوت محلّ البشر؟ وهل يفضِّل الإنسان أن يكون لديه شريك مثاليّ أم علاقة إنسانيَّة حقيقيَّة؟ وهل يرغب الإنسان في الحصول على بديل لمن توفِّيَ من أحبائهم؟
مع تقدُّم حبكة المسلسل، ندرك أنَّ أساس اختراع أريسا كان بسبب سياسة الطِّفل الواحد في الصِّين للسَّيطرة على الزّيادة الهائلة في عدد السُّكَّان، ولكنَّ هذه السِّياسة أدَّت إلى مشكلة كبيرة أيضًا، حيث كان الأهالي يفضِّلون إنجاب أبناء ذكور بدلًا من الإناث، وبعد تطبيق هذه السِّياسة بسنوات، انخفض عدد الفتيات بشكل كبير؛ وبناءً عليه، قام المبرمجون بصنع أريسا، وجعلها تشعر وتتعلَّم كما لو أنَّها بشر تماما، فنسف القوانين الثّلاثة، وقدَّم لها الإرادة الحرَّة من خلال تعليمهم وبرمجتهم على أن يكونوا الأشخاص الذين يرغبون؛ أي أن يكونوا وفقًا لأهوائهم، ووفقًا لما تطوَّروا و"تربّوا" عليه، فأصبح بإمكانهم الكذب، مع إدراكهم أنَّ الكذب ليس سيئًا في جميع الأحوال، وتطوَّر الأمر معها إلى خداع الجميع من حولها حين تشعر بالحبّ تجاه جورجي، فتخدع الجميع بأنَّ ذاكرتها مُسِحَت تمامًا، وأصبحت بعد ذلك تتبع فلسفة التَّقريب بين الأصدقاء والأعداء، ومراقبة تصرُّفات البشر عن كثب؛ حتَّى إذا لجأ أحدهم لإيذاء الآخر، توقفه.
هناك العديد من الإشكاليَّات التي يمكن مناقشتها في سياق المسلسل، ولكنَّني سأكتفي بأهمِّها، وهو احتماليَّة الرَّبط بين البشر والرّوبوت في المقام الأوَّل.
هل أصبح الإنسان ربًّا حين صنعَ روبوتًا يسير وفق أهوائِه؟ فالبداية الأولى لصنع الرّوبوتات كانت لجعلهم عبيدًا فقط يخدمون غاياتٍ حدَّدها الإنسان ليس أكثر، كما هي قصَّة الخليقة في الدِّيانات السَّماوية، حين خلق الله آدم وحوَّاء عبيدًا، ثمَّ لمَّا حدث الخطأ وفقًا للمرويَّات الدّينيَّة؛ من آدم أو حوَّاء على خلافٍ في التَّفسير، غضب اللهُ بسببهم وأرسلهم إلى أرض وأطلق لهم صفة الإرادة الحرَّة ليفعلوا كلّ ما يشاؤون مع وعد بالآخرة؛ وهذا يتشابه إلى حدّ كبير في العلاقة بين الإنسان والرّوبوت التي يوضِّحها المسلسل، ففي البداية كان الهدف من إنشاء الرّوبوتات أن يكونوا عبيدًا ليس أكثر، ولكن بعد حين، أُلقِيَت القوانين الثَّلاثة بعيدًا، ومُنِحَ الرّوبوت إرادةً حرَّةً يستطيع معَها فعلَ ما يريد، ولكن مع ذلك كلّه، يبقى الإنسانُ ربًّا على تلك الروبوتات، ويستطيع إطفاءها أو إعادة برمجتها ولو كان بصعوبة، فهل يلعب الإنسان دور الربّ؟ وهل وُهِبَ تلك القوَّة التي تجعله يتحكَّم في غيره إلى هذا الحدّ؟ وبخاصَّة أنَّه بعد أريسا، لم يعد هناك فرق واضح بين الإنسان والرّوبوت، حيث أصبح الرّوبوت يقوم بمهام الإنسان كلّها تقريبًا؛ حتَّى المعقَّدة منها كالشُّعور.
هل يوحي لنا المسلسل أنَّنا روبوتات ليس أكثر؟ وأنَّ هناك من يسيِّرنا أو من برمجنا لنصبح على ما نحن عليه؟ وهذه فكرة ليست بالبعيدة، فقد طرحها روجر بنروز الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2020، في كتابه "العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء".
تبقى أسئلة كثيرة عالقة في ذهن متابع المسلسل، وإجاباتها تعود وتُفَسَّر وفقَ فهم القارئ وموسوعيَّة ثقافته، وخلفيَّته الفلسفيَّة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت