- د.سعيد محمد الكحلوت
- كاتب وأديب فلسطيني
تمر المنطقة العربية بموجة جديدة من التغيير منذ عقد من الزمان، سبقها موجات عاتية شكلت السياق الحالي للأنظمة المجتمعية الموجودة حالياً.
دفعت الأجيال الماضية والحالية الحياة ثمنا لهذه التغييرات غير المتوقعة والدراماتيكية في كثير من الأحيان، فمن كان يتوقع يوماً أن يقف رئيسا عربيا لطلب العفو من جماهيره، وعلى بال من فينا خطر لوهلة أن نرى الرؤساء في قفص الاتهام يُرافعون عن نفسه من التهم المنسوبة إليهم.
الموت هو كلمة السر في هذه المعادلة الصعبة التي غيرت شكل المنطقة، وحين يتبادر للذهن العربي مصطلح الموت؛ فان المقبرة وجهة الميتين والأحياء على حد سواء، إذ أن العربي الحي لا يجد في بعض البلدان ملاذاً سوى الشوارع والقبور.
حمل الكاتب المتفرد يسرى الغول أو حافر القبور أدواته السردية وتسلح برغبة جامحة في تغيير مجرى الأحداث كما يحب هو أن تكون لا كما صارت اليه، مؤمناَ بقدرة الأديب في التأثير بالمشهد وصناعته إن لزم الأمر وليس مجرد ناقل للحدث أو الخبر.
ويسري هنا لم يكن بعيداً عن الأحداث، حيث أنه من شدة ولعه بلعبة الموت التي جاءت في مجموعاته القصصية السابقة كنساء الدانتيل والموت يبعثون في غزة وقبل الموت بعد الجنون وعلى موتها أغني، صار يسري جزءاً من النص وبات لاعباً أساس في مباراة المقهى المطل على الكوثر.
ما يدعوني هنا للفخر أنني كنت الشاهد الأول على جميع المحاكمات التي عقدها يسرى للموتى، فكانت قصص مجموعته الجديدة "جون كيندي يهذي أحيانا" تصلني قصة، قبل أن يجف حبرها على ورق الكاتب الملهم، متبوعة بسؤال ما رأيك يا يا دكتور سعيد ؟ سؤال يفتح معه أبوابا من النقاش العميق أدبياً مرة ونفسياً مرة أخرى واجتماعيا، كان يمتد في بعض الأحيان الى وجه الصباح نقلب فيه الاحداث لدرجة أنني لشدة التفكير في خيال هذا الكاتب المهم لا أنام، وتسألني زوجتي لنعيد فتح كوة المعرفة ونتحدث في كنز الغول الجديد.
كنت في كل مرة وبعد كل اتصال نتناول فيه الموتى، أجد نفسي أمام سؤال محير: كيف استطاع يسري أن يتسلل ليلا الى المقبرة وتجرأ على استنطاق الميتين، ثم جعلهم يقتنعون بما يريد يسري البطل ليوقعوا طواعية على الأحكام التي يصدرها بحقهم؟! كيف لهذا الخيال أن يصنع لنا عالماً جديداً لم يسبق وخاض في غماره أحد بهذا الشكل المبهر؟ فأجيبني بكل ثقة وأنا الرفيق الدائم ليسري: نحن أمام حالة متفردة ونوعية في الأدب الفلسطيني الحديث.
لعل يسرى يؤمن بما جاء به شاعرنا الكبير محمود درويش حين قال "لم يمت أحدٌ تماماً، تلك أرواح تغيَّر شَكلها ومُقامها". وما بين درويش ويسري تأتيني الأحلام بصوت الأول مستهينا بالموت "ويا موت استرح، ثم يطالبه الجلوس بجانبه يسأله:
ألديك وقتٌ لاختبار قصيدتي
لا.. ليس هذا الشأن شأنك
أنت مسؤول عن الطيني في البشري لا عن قوله أو فعله.
بل إن الموت عند درويش وعلى الرغم من سطوته إلا أن الأدب بوصفه حالة ابداع إنسانية يمكن أن تهزمه بتخليد ما يقدمه الأدباء والفنانون.
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنةِ
النقوشُ على حجارة معبدٍ
هزمتك وانتصرت
وأفلت من كمائنك الخلودُ
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد.
هكذا أراد يسرى للموت، فهو لا يريد للموت أن يكون نهاية القصة كما يريدها أصحابها، بل أن ينبش القصص والأحداث فيعيد تشكل الحكاية، ويجلس على منصة المحكمة كقاضي تارة وكمحامي دفاع مرة ومرة أخرى كشاهد لم يرض زوراً كاتب التاريخ فقرر أن يقتحم جلسة المحكمة ويلقي بشهادته أمام الحضور.
إذن يطل علينا يسرى الغول مرة أخرى في عمل إبداعي جديد قادما من المقبرة التي تحتفل بشيرين ويسهرون في حضرة منيف والبياتي والسياب أمام اللظى الذي يحرق وجه الطغاة.
بقي أن نذكر أن الروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول هو خريج برنامج تحالف الحضارات بالأمم المتحدة وشارك في مؤتمرات عالمية ساهمت إلى جانب القراءة الغزيرة بصقل كاتب محترف هو الألمع في جيله بالأراضي الفلسطينية، صدر له العديد من الأعمال الروائية والقصصية آخرها رواية مشانق العتمة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وترجمت أعماله إلى أكثر من سبع لغات، آخرها الهندية إلى جانب أهم الأدباء الفلسطينيين منذ النكبة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت