المصالحة في الصين – فلسطين الرابح الأكبر

بقلم: السيد بركة

سيد بركة.jpg
  •     الشيخ / السيد بركة

حينما يُراد الحديث عن السياسة بمعناها الحقيقي باعتبارها – أي السياسة – هي التي تُشكّل واقع المجتمعات وترسم المسار والمصير معًا ، يُستحضر فورًا مصطلح ( لعبة الأمم )

ولعل المصطلح بدايةً يحمل في طياته – و إن مُضْمرًا – أن ميدان لعبة الأمم هو ميدان الكبار أو العمالقة أو على الأقل ميدان الناجحين أصحاب الرؤى الكبيرة والمشاريع الحقيقية التي تحمل وعدًا للبشرية بحاضرٍ وغدٍ أفضل مما هي عليه.

والصين لاعب عملاق قديمًا و حديثًا لا يحتاج إلى تزكية من أحد، فالعلم والحكمة في أمثال الشعوب تُطلب في الصين، وحينما يتم استحضار العقائد والأيديولوجيات المُلهمة في العالم يُستحضر الإسلام و الكونفوشوسية الصينية من ضمن أهم تلك الأيديولوجيات ذات الطابع العالمي أو الإنساني

إذن الصين لاعب كبير – لا بل عملاق – حضاري تاريخي وفي نفس الوقت أكبر المزاحمين اليوم على القيادة والريادة في عالم يقترب -لا محالة- متعدد الأقطاب على أنقاض " محاولة القطب الواحد " التفرد بإدارة العالم بعد سقوط مرحلة القطبين التي تلت الحرب العالمية الثانية وانتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي في عهد غورباتشوف آخر الزعماء السوفييت

أما الجمهورية الإسلامية الإيرانية فهي بالتأكيد تنتمي إلى حضارة  إمبراطورية حكمت وتركت بصماتها تاريخيًا على العالم لدرجة أنها ذكرت مضمرة في سورة الروم بالقرآن الكريم حينما صرَّحت الآية: " غلبت الروم في أدنى الأرض " والمضمر هنا هو أن الروم غلبوا على يد الامبراطورية الفارسية.

و إلى جانب هذا الإرث التاريخي الحضاري تنطلق إيران من رؤية و أيديولوجية إنسانية عالمية خصوصًا من خلال اجتهاد و رؤية الإمام الخميني التي صنعت ثورة كانت أهم حدث في الثلث الأخير من القرن العشرين والتي وضعت " نمط النمو الغربي " في قفص الاتهام كما صرَّح حين انتصارها الفيلسوف الفرنسي الراحل " روجيه غارودي "

و لأن إيران تستمد عظمتها من التاريخ الحضاري من جهة ومن الإسلام – خصوصًا- الثوري الحضاري من جهة أخرى ، كان لا بد من التقاط الفرصة بذكاء وبحكمة صينية مشهود لها، من خلال وجود السعودية باعتبارها الشريك – الوريث- الأهم في العصر الحاضر للرمزية المكثَّفة التي تُخْتزل في نظام " خادم الحرمين الشريفين " و بما لهما من مكانة مقدسة لدى العالم الإسلامي كافة.

إذن إتمام جهود المصالحة التي وُلدت بالعراق و احتُضِنت بعُمان ثم أُعلن  عنها و أبصرت النور السياسي في الصين، هذه المصالحة بتوقيتها النادر جاءت و كأنها صاروخ سياسي باتجاه عالم الفضاء السياسي متعدد الأقطاب الذي يقترب من كوكبنا الأرض أسرع من أي وقت مضى.

عودٌ على بدء ، إذا كانت صفة اللاعبين الكبار محسومة للصيني والإيراني، فإن النصيحة التي أثمرت هذا الموقف السعودي التاريخي وضعت السعودية على درب الحرير الطويل – درب الكبار – وبقي على القيادة السعودية أن تتحلّى بالشجاعة وبالقدرة على الاستشراف و أن تثبُت كشريك مع إيران في تمثيل الإسلام باعتباره رؤية عالمية إنسانية مُجرَّبة في إنقاذ البشرية ، وأنه آن الأوان للإسلام الحضاري الثوري أن يُدلي بدلوه من خلال عودة الأمة الإسلامية بما تُمثل من ديمغرافيا عالمية و إرث علمي وثقافي وحضاري، وثروات متنوعة ومواقع جيو استراتيجية حاسمة التأثير في مجرى المصالح الدولية والعالمية اليوم.

 

وعليها – أي السعودية – أن تتسلح باليقين بحتمية وقرب زوال نظام الهيمنة والعربدة والاستكبار الغربي الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني أرقى تمثيل.

وبالتالي تكون حجزت لها موقعًا مبكرًا على مسرح الكبار ولاعبًا مهمًا و أساسيًا في لعبة الأمم.

ولعل السعودية تكون فاتحة الطريق للعرب نحو اعتماد استراتيجية جديدة في التعامل مع الكبار وعلى مسرح لعبة الأمم لأن العرب أضاعوا عقودًا من الزمن دون أن يستفيدوا من نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران، كنموذج للدولة المستقلة التي تحترم تاريخها وهويتها وثقافتها، وبالتالي تؤمن بشعبها و بدورها بكل اقتدار، و أن كل المطلوب للسير في الاتجاه الصحيح نحو الاستقلال والازدهار هو امتلاك الإرادة السياسية الواعية والحاسمة التي تحسن استثمار نقاط القوة المتوفرة بين يديها، و أن تخرج من العقلية البسيطة في السياسة التي لا ترى إلا الأبيض و الأسود ( الغرب أو الشرق ) و أن تتسلح بالعقلية المُركَّبة التي تقود إلى صراع الارادات وحرب الأدمغة التي ينتصر فيها حتمًا الحقيقي على الزائف، وينتصر فيها الأصيل على الطارئ والحق على الباطل، وينتصر فيها -بالصبر الاستراتيجي  والكفاح العنيد- الحكمة والرشد على العربدة والقرصنة والخداع الذي هو جوهر السياسات التي ينتجها النظام العالمي الحالي المتهالك.

ولعل اللحظة العالمية الاستثنائية التي نعيشها تشكل فرصة للدول العربية الحقيقية وعلى رأسها مصر أن تقرر العودة إلى استئناف دورها الرِّيادي على مستوى المنطقة والعالم ولعل المدخل الوحيد لذلك هو أن تقرر رسم استراتيجية جديدة في التعامل مع فلسطين وشعب فلسطين باعتبار فلسطين وبركتها هي الرافعة الأهم لمن يريد الرفعة والمكانة والنفوذ إقليمياً ودولياً ولهم في إيران وحزب الله وكل مكونات المحور –محور القدس والأمة- المثال والقدوة الناجحة.

وفي الختام مسك الختام، خلاصة منطقية بسيطة وعميقة وحاسمة حول هذه المصالحة وهي ( طالما أن الخاسر الأكبر والأوضح هو الكيان الصهيوني العنصري من وراء المصالحة السعودية الإيرانية في الصين، فإن فلسطين هي الرابح الأكبر بإذن الله كنتيجة على المدى المتوسط وليس البعيد من هذه المصالحة التاريخية الواعدة).

 

    الشيخ / السيد بركة

   رئيس منتدى الأمة في فلسطين

  بيروت  -  15/03/2023

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت