- بقلم: فراس ياغي
تترسخ قواعد جديدة وسريعة في "غرب آسيا" من خلال طبيعة التطورات "الجيوسياسية" التي تحدث كنتيجة لطبيعة الصراع الدولي القائم وبدء تبلور أقطاب جديدة فرضتها على الأجندة روسيا "بوتين" في ردها الحازم على "الناتو" الأمريكي وقيامها بعملية خاصة ولا تزال مستمرة في "أوكرانيا" من جهة، ومن الجانب الأخر تحرك الرئيس "شي جي بينغ" لوضع خطوط حمراء بما يخص فضائها "تايوان" وتحركها العالمي بخطة "حزام واحد وطريق واحد" والذي سيؤدي لبناء بنية تحتية من الطرق والممرات التجارية تطور أكثر من "150" دولة، وما يرافق ذلك من تحولات إقتصادية تتعلق بالتبادل التجاري مع الكثير من الدول بالعملات المحلية بعيداً عن الدولار، كنتيجة لسياسة الإفراط في العقوبات الإقتصادية التي قامت بها "الولايات المتحدة الأمريكية" خاصة العقوبات على روسيا مما أدى لتخوف الكثير من الدول، فسلاح العقوبات ينعكس دائما على من يتخذه في حالة كونه قرار خارج عن أروقة "الأمم المتحدة ومجلس الأمن".
الإرهاصات التي تحدث على المستوى الدولي عكست نفسها بقوة على منطقة "غرب أسيا"، والمسألة الأولى التي تمت وبسرعة وبشكل بارز في هذا السياق هي الوساطة "الصينية" بين "إيران" و"المملكة العربية السعودية" والتي أدت إلى تبريد الكثير من الملفات في المنطقة وبالذات في "اليمن" و "العراق" و "سوريا" حيث بدأت الأمور تنحى نحو التقارب لا التباعد، ونحو التعاون لا التناقض، وتم ملاحظة ذلك في مفاوضات السلام بين "أنصار الله" و "المملكة العربية السعودية" وبين مجمل الدول العربية و "سوريا" وفي نفس الوقت وقف للتحريض الطائفي في "العراق"، وقد تم تتويج ذلك بزيارة مهمة وإستراتيجية للرئيس الإيراني الشيخ "إبراهيم رئيسي" إلى "سوريا" كتأكيد على تطور العلاقات من أمنية وسياسية إلى قضايا إقتصادية إستراتيجية ضمن سياق الخطة "الصينية" التي تعتبر "سوريا" اساساً فيها كونها ليس فقط غنية من حيث النفط والغاز والمعادن والزراعة ومن حيث الموقع الجغرافي فهي الطريق نحو البحر المتوسط الذي منه ستنقل البضائع "الصينية" إلى أوروبا، إنها "طريق الحرير".
أما المسألة الثانية التي ظهرت بقوة فهي الحديث عن تعدد وتوحد الجبهات وتفعيلها في مواجهة "إسرائيل"، وهنا نتحدث عن عن المحور "الإيراني" والمعروف بإسم "محور المقاومة" حيث ظهر ذلك في الرد على ما جرى في الأماكن المقدسة في "القدس" وفي شهر رمضان عندما تم الإعتداء على المعتكفين في المسجد "الأقصى"، والتخوف "الإسرائيلي" بشكل يمنعها من الإستفراد ب "جبهة" دون أخرى، هذا التكتيك الذي كما يبدو سيصبح قرار إستراتيجي لدى "محور المقاومة" أدى إلى حدوث تغييرات كبيرة في العقلية الهجومية "الإسرائيلية" مما أدى لتآكل في قوة ردع الجيش والذي بدأ يتحدث عن مواجهة في عدة جبهات ومعضلة ذلك بالنسبة لدولة صغيرة بعمق وحيز جغرافي مكشوف جبهته الداخلية ضعيفة أمام قوة نيران "المقاومة" ودقة صواريخها خاصة بما يتعلق بجبهة الشمال...هذا المعطى جاء في وقت تعاني منه دولة "إسرائيل" من أزمة داخلية حادة عكست نفسها على كل المستويات، لأن الإنقسام الداخلي فرض أجندة جديدة أمام صناع القرار في الدولة وأضعفها إقليميا بحيث أن كل الحديث الأمريكي عن "منتدى النقب" والسلام "الإبراهيمي" وخطة دمج "إسرائيل" في الإقليم صداها لا يؤثر ولا يوازي تصريح غاضب من وزير الأمن القومي "بن غفير"، مما يوحي بأن الإستراتيجية الأمريكية في واد، وحكومة اليمين القومي الديني الفاشي في واد آخر، وبالضرورة فالإقليم لن ينتظر "إسرائيل" لكي تستقر وتنهي أزمتها الداخلية غير المعروف نهايتها.
لذلك نرى الكثير من الباحثين الأمنيين الإسرائيلين والمفكرين الإستراتيجين يقرأون ما يحدث في المنطقة على أنه إعصار يأتي في واقع "إسرائيلي" داخلي منقسم عموديا وأفقيا شعبيا وبين النخب مما أدى إلى تخوف كبير من أن يؤدي ذلك لإضعاف الجيش الذي يُعتبر الركيزة الأساسية للدولة وهذا ما حدث فعليا في دراما مطالبة وزير الدفاع "غالانت" بتأجيل الإصلاحات القضائية والتي دفعت لإقالته علنا من قبل رئيس الوزراء "نتنياهو" "تم التراجع عنها" مما أدى لتجميدها تحت عنوان الحوار بين الحكومة والمعارضة دون التوصل لأي نتائج توافقية حتى الآن، ولكنها أدت لتخفيض حدة القلق بما يتعلق بإنعكاسات الإنقسام على "الجيش"، إضافة إلى تضرر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بسبب من مواقف الحكومة اليمينية والتي إتهم وزير عدلها "ياريف ليفين" أمريكا بتمويل الإحتجاجات ضد مشروعه للإصلاح القضائي هو و "سيمحا روتمان" رئيس لجنة القانون والدستور في الكنيست.
في سياق الصراع الداخلي الإسرائيلي حدثت التغييرات السريعة على منطقة "غرب آسيا" مما وضع كل المخططات الأمريكية في مهب الريح، وجعل من دولة "إسرائيل" دولة لا يُعتمد عليها لتزعُّم محور مقابل للمحور "الإيراني"، بل إن الممارسات الإسرائيلية في "الضفة الغربية" و "القدس" وسياسة حكومة الثلاثي "نتنياهو" "بن غفير" "سموتريطش" صعّبت بشكل كبير أي إمكانية لتسويقها كحليف وأدت إلى تحويل تصريحات رئيس وزرائها إلى أوهام غير ممكنة خاصة بما يتعلق بالتطبيع مع "المملكة العربية السعودية"، مما دفع الحليف الأمريكي للتدخل ومحاولة ممارسة الضغط لتطبيع العلاقات بين "السعودية" و "إسرائيل" وهذا ما صرّح به مستشار الأمن القومي الأمريكي "جاك سوليفان" الذي سيقوم بزيارة للسعودية خلال أيام، حيث وضع مسألة التطبيع كأولوية قصوى في محاولة منه لإنقاذ "إسرائيل" من أزمتها الداخلية ولتوسيع ما أسماه الحلف "الإبراهيمي" في مواجهة "إيران".
من الواضح أن التاريخ لا يعود للماضي وفقاً للرغائب لا الأمريكية ولا الإسرائيلية، لكنه قد يعود وفقا للمعطيات الجديدة التي ستؤدي حتما ليكون على شكل فيها من السخرية والأوهام أكثر من كونها واقعية، فمسألة إعادة توصيف "إيران" عدو غير واقعية بعد أن رأينا ما يحدث في المنطقة من إعادة لصياغة المصالح وتحت عناوين حدها الأدنى خلق بيئة من الجيرة الحسنة فكيف إذا ما أدت لتعاون إقتصادي بين الجيران وبما يخدم مصالح الجميع وفقاً للخطة "الصينية" التي ترى أن البيئة السليمة في العلاقات تكمن في التعاون الإقتصادي وعدم التدخل في شؤون الدول إستناداً للقانون الدولي، لذلك نرى تعبيرات الصحفيين الإسرائيليين أكثر واقعية من سياسييها، حيث يُعدد الصحفي "باروخ يديد" في مقالة له بعنوان "إسرائيل تخسر المنافسة على الورقة السعودية" أهم النقاط التي التي خسرتها إسرائيل " عودة العلاقات السورية والسعودية والعربية بغير رغبة أمريكا، عودة التواصل السعودي مع حماس، وزير خارجية إيران في لبنان على الحدود الإسرائيلية، إحتمالية عودة العلاقات بين الأردن وإيران، حوار ممكن بين السعودية وحزب الله، وزيارة الرئيس الإيراني لسوريا" وهذا يشير للمعضلة الحقيقية التي تواجه إسرائيل في المنطقة، لدرجة أن الهاجس الكبير عبر عنه الباحث الصهيوني "إفرايم عنبار" في "ورقة موقف" بقوله "في غياب تحرك إسرائيلي حازم وناجح فإن حلفاءنا الذين يتخوّفون من إنسحاب أمريكا من المنطقة ويخشون عداء إيران سيعتقدون أن "إسرائيل" هي دعامة من قصب لا يمكن الإعتماد عليها، وحينها سيتقرّبون من إيران"، ونرى على المقلب الآخر كيف صرّح الرئيس الإيراني الشيخ "إبراهيم رئيسي" في ختام زيارته إلى "سوريا" بقوله " شعوب المنطقة مؤمنة بأن إيران عمود صلب يمكن الوثوق به والإعتماد عليه".
وبين الصلب والقصب كداعامات، تعيش المنطقة على صفيح من لهب سيتقرر مصير أي منها في الواقع الميداني حينما تستطيع دولة "إسرائيل" إنهاء أزمتها الداخلية وتقرر إعادة قوة ردع جيشها ليس في "الضفة الغربية" وحسب، بل على مستوى كلّ الجبهات، فهل ستعيد "إسرائيل" عجلة التاريخ إلى الوراء؟!!!، واقع الأمر أن ما جرى قد جرى، وما بعد التبريد العربي الإيراني ومركزه "المملكة العربية السعودية" هناك إستحالة، فالمخاض الدولي والإقليمي يُفرز عناوين وعلاقات وقرارات جديدة ستؤدي حتماً لإعادة التفكير الأمريكي في سياستها المتمثلة بالإنسحاب التدريجي من المنطقة عبر الدخول على الخط بقوة لإستعادة ما لا يمكن إستعادته، وهذا ما صرحت به "إيران" عندما حملت المسئولية "للولايات المتحدة الأمريكية" عن أي هجوم على منشآتها النووية، وحتى مع التدخل الأمريكي المباشر إن تم، فالمنطقة ذاهبة أكثر نحو تنويع العلاقات الإقليمية والدولية، لأن المجتمع الدولي ذاهب وبقوة نحو التعددية القطبية والتي عبرها عنها الرئيس الصيني "شي جي بينغ بقوله لنظيره الروسي "بوتين" عند لقاءه في موسكو مؤخراً "هناك تغييرات كبرى لم نشهد مثلها خلال قرن من الزمن"، وهي تعبير دقيق وواقعي عن أن القرن الأمريكي إلى أفوول، الصلب والقصب ستكون حتما نتائج المنازلات الكبرى المقبلة عليها المنطقة، وكما كانت "سوريا" هي العنوان فيبدو أنها ستبقى هي العنوان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت