د. سنية الحسيني
هي ليست الجولة القتالية الأولى، ولن تكون الأخيرة، بين جيش الاحتلال، الذي يمتلك قدرة نووية ويصنف بالقوة الأولى في الشرق الأوسط والرابعة عالمياً، وبين حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة. سبع عشرة حملة عدوانية شنها الاحتلال على قطاع غزة، جاءت بعد استيلاء حركة حماس على الحكم فيه، أسقطت آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى، ودمرت البنية التحتية للقطاع أكثر من مرة، الذي يرزح تحت حصار خانق ويخضع لرقابة جوية وبحرية عالية التركيز منذ ذلك الوقت. ركزت الصحف الاسرائيلية خلال الأيام القليلة الماضية على مجريات وتطورات ونتائج تلك الجولة القتالية، وتغنت الكثير من مقالاتها بالقدرات الهجومية والدفاعية والاستخبارية الاسرائيلية المميزة، وهي واضحة دون شك، الا أن العديد من تلك المقالات شكك بادعاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حول تغيير معادلة الردع مع غزة، والتي أكد عليها، بعد أن وضعت تلك الجولة الأخيرة أوزارها. ستركز هذه المقالة على جوانب القوة والضعف في معادلة الردع التي يسعى الفلسطينيون ومحتلهم لترسيخها كل في مواجهة الآخر، من خلال تحليل بعض التفاصيل في جولة القتال الاخيرة في غزة.
ولا تعني قوة الردع في إطار معادلات الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال امتلاك قوة مادية فقط، وهي قوة الردع الأساسية بشكل عام، بل هناك قوة معنوية من الضروري وضعها بعين الاعتبار في اطار ترسيخ معادلات الردع تلك. وتعني القوة المعنوية القدرة على الصبر والتحمل والصمود في وجه استخدام القوة المادية الأولى. فيعد امتلاك القوتين المادية والمعنوية كعنصرين رئيسيين متكاملين في معادلات الردع أمراً ضرورياً في الحالة الفلسطينية مع الاحتلال، وبالعكس. ويعتقد نتنياهو بأنه عندما قام باغتيال قيادات أساسية في حركة الجهاد الاسلامي في غزة رداً على الصواريخ التي أطلقتها الحركة بعد استشهاد الأسير خضر عدنان باتجاه أراضي الـ ٤٨، يردع الحركة عن ربط الأحداث ما بين الشطرين الفلسطينيين المنقسمين، الضفة الغربية وقطاع غزة، باختصار، أي تدخل من غزة لنصرة الضفة يعني استحضار سياسة الاغتيالات، التي يجيدها الاحتلال ويكرسها. ويسعى الاحتلال منذ انفصال غزة عن الضفة على ترسيخ سياسة الفصل المادي بين الشطرين، لتحقيق أهداف سياسية.
في المقابل، تعمل حركات المقاومة في غزة على ترسيخ معادلة ردع معقدة مع الاحتلال، تقوم على المهاجمة واطلاق الصواريخ باتجاه أراضي الـ ٤٨، عندما يرتكب الاحتلال جرائمه بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية. معادلة شهدناها بوضوح في أحداث الأقصى عام ٢٠٢١، عندما توحدت الساحات لردع الاحتلال عن ممارساته واعتداءاته على المسجد الأقصى والمقدسيين، وظهرت بعد ذلك بتهديدات المقاومة من غزة على المجازر التي يرتكبها الاحتلال في الضفة خصوصاً في مدينة جنين، وكذلك في تدخل حركات المقاومة من غزة لدعم النشاط المقاوم الحالي في الضفة الغربية، وظهرت مؤخراً في الرد على استشهاد الأسير خضر عدنان في سجون الاحتلال، الذي مهد لجولة القتال قبل أيام. يدعي الاحتلال بأنه رسخ معادلة ردع مع حزب الله في لبنان بعد حرب عام ٢٠٠٦، والحقيقة أن معدلة الردع ترسخت بالفعل مع لبنان ليس بفعل الحرب وقوتها المدمرة، بل بسبب انسحاب العدو المحتل من الأراضي اللبنانية في ذلك الوقت، الأمر الذي سمح بتوازن تلك المعادلة.
حققت حكومة نتنياهو العديد من المكاسب في هذه الجولة، لعل أهمها استهداف قيادات عسكرية من الصف الأول لحركة الجهاد، مستعرضة القدرات الاستخبارية والهجومية العالية، وهي ليست بالأمر الجديد والغريب، على دولة الاحتلال، التي تتبناها الولايات المتحدة عسكرياً، وتتعهد بحصر تفوقها عن دول المنطقة. وسقط في هذه الجولة ٣٣ شهيداً وحوالي ٢٠٠ جريح فلسطيني، معظمهم من الأبرياء، في ظل تغاضٍ أميركي وغربي عن جرائم الاحتلال، في سياسة معهودة. كما نجح جيش الاحتلال باستخدام منظومته العسكرية الدفاعية بفاعلية "القبة الحديدية، وفي اختبار منظومة "مقلاع داود"، والتي تدعم الولايات المتحدة تطويرها بملايين الدولارات من خزينتها. وتطور دولة الاحتلال هذه المنظومات الدفاعية من خلال شركة عسكرية حكومية، وتستخدم جولاتها القتالية مع غزة لاختبار فعالية التطورات التي تحدثها على منظوماتها، وللترويج لقدراتها كمنتجات متاحة للبيع، حيث تعد إسرائيل ثامن دولة في العالم مصدرة للسلاح. في هذه الجولة أراد نتنياهو أيضاً أن يتخلص من مشاكله الداخلية المتشعبة، على حساب دماء الفلسطينيين.
الا أن تلك المكاسب لم ترسخ معادلة جديدة للردع مع غزة، فسياسة الاغتيالات التي يمارسها الاحتلال منذ سنوات طويلة، لم توقف يوماً المقاومة الفلسطينية، التي لا تتوقف عن الابتكار والتكيف وفق الظروف المختلفة. وليس أدل على ذلك مساعي الاحتلال في القدس اليوم لضبط أمني لشوراع المدينة، وتحييد أبنائها بشن عملية اعتقال واسعة في صفوف المقدسيين، لتجنب أي اصطدام غداً بين المستوطنين والمقدسيين خلال "مسيرة الأعلام"، وإثارة جبهة غزة. كما أن قوة الردع المعنوي لم يستطع نتنياهو تحقيقها خلال هذه الجولة، لأن منظومة بلاده الدفاعية لم تمنع انطلاق صافرات الانذار وسقوط الصواريخ وفتح الملاجئ، وترحيل الآلاف، وسقوط قتيل وجرحى، واستياء عارم من قبل الإسرائيليين في غلاف غزة، مثل كل جولة قتال سابقة، رغم المساعي الحثيثة لتطوير المنظومة العسكرية الدفاعية لتجنب ذلك الضغط المعنوي.
ورغم خسارة حركة الجهاد الإسلامي في جولة القتال الاخيرة لثلة من قادتها وجنودها، الا أنه ثمن رضيت المقاومة الفلسطينية فصائلَ وأفراداً بتكبّده، منذ أن تعهدت بالمضي قدماً في طريق مقاومة الاحتلال. كما يقف معظم الشعب الفلسطيني اليوم داعماً لمقاومته، كما تؤكد استطلاعات الرأي المختلفة، ويتحمل معها نتائجها بصبر لإيمانهم بحقهم في العيش أحراراً في وطنهم. وهناك مجموعة من الحقائق تكشفت خلال هذه الجولة من القتال ولا بد من توضيحها، فسياسة الاغتيالات التي ينتهجها الاحتلال سياسة مستمرة لم تتوقف، رغم وعوده والتزاماته، وهناك بنك للأهداف معد وينتظر الفرصة المناسبة للاستهداف. واستهدف الموساد قبل شهرين علي الأسود أو كما يطلقون عليه "العالم الصغير" لصغر سنه وهو كيميائي وخبير في تكنولوجيا المسيّرات، وقائد من سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد، وتم استهدافه في سورية، في ظل سياسة اغتيالات مستمرة لم تتوقف يوماً ضد الفلسطينيين، لإحباط تقدمها في جميع الظروف.
وركزت العملية العسكرية الأخيرة التي جاءت للرد على صواريخ "الجهاد" لاغتيال ثلاثة من قيادة الحركة مسؤولين عن متابعة ملفات للمقاومة في الضفة الغربية، أي أن الهدف الرئيس لهذا الاغتيال يركز على تحقيق سياسة الفصل بين الضفة وغزة، وتحييد أي تدخل لحركة الجهاد او حماس فيها. لا يمكن انكار التطور الواضح في آليات العمل ومستوى قدرة صواريخ "الجهاد" وتقنيات الإطلاق ومحاولات مناورة صواريخ القبة الحديدية، فمعظم تطور الصواريخ حدث ذاتياً، في ظل حجز سكان القطاع بأكمله وعلى مدار السنوات الماضية في سجن كبير. واستمر إطلاق الصواريخ رغم اغتيال هذا العدد الكبير من القيادات، وبشكل فعال في ظل نظام عمل ميداني مضبوط ومنظم. كما استخدم "الجهاد" تكتيك الإرهاق النفسي لجبهة العدو سواء عندما امتنع عن الرد في المرحلة الأولى، تاركاً جبهة العدو بحالة إرباك، أو بإطلاق مكثف للصواريخ صباحاً ومساءً والتنقيط وسط النهار.
كما أنه لا يمكن انكار آلية قصف الصواريخ الناجحة التي سعت لتقويض أداء القبة الحديدية سواء من خلال التنويع في مدى الصواريخ بين تلك قصيرة المدى والأخرى التي كانت تضرب العمق، والأشكال التي كانت تطلق بها الصواريخ، والاتجاهات المتعددة التي تنطلق فيها، والتي مكنت المقاومة من الاستمرار في اطلاق الصواريخ، رغم الغطاء الجوي الكثيف لطائرات استطلاع الاحتلال. ورغم توجه الاحتلال بشكل عام للتغطية على خسائره خصوصاً البشرية، لحماية جبهة القوة المعنوية لديه، كثيراً ما كانت تتسرب مشاهد لإصابات صواريخ المقاومة في الداخل، الأمر الذي يؤكد على مدى التواصل الفلسطيني على طرفي الحدود المصطنعة التي تفصل غزة عن أراضي الـ ٤٨. والنقطة الاخيرة، والتي تتعلق بما اشيع حول تحييد حركة حماس من المشاركة في جولة القتال الأخيرة، ورغم أنها لم تشارك عملياً في القتال، الا أن الحركتين نجحتا وعن وعي في تجنب حدوث أي انقسام، في موقف يحسب لحنكة ووعي حركة الجهاد الإسلامي.
يحاول الاحتلال احتواء حركة حماس، في ظل امتلاكها لمقاليد السلطة في غزة، الأمر الذي يجعلها تقف بين مطرقة واجبها كسلطة حاكمة وسنديان إلزامها بكونها حركة مقاومة، وهو ما يفسر الكثير من الاختلافات بينها وبين حركة الجهاد، التي بقيت منذ نشأتها مصرة على تبني الجانب المقاوم دون أي انخراط في السلطة مقيد لواجبها المقاوم، وهو الأمر الذي يمنحها ميزة خاصة عن غيرها من الفصائل. ورغم اختلاف مستوى القوة المادية بين جيش الاحتلال وحركات المقاومة الفلسطينية بجميع أشكالها، الا أن القوة المعنوية في ميزان الردع تبقى لصالح الفلسطينيين دون شك، في ظل حالة احتلال واضحة، يؤمن بفعلها الشعب الفلسطيني بحاجته للتحرر، واستعداده للتضحية في سبيلها. فمن سينتصر في النهاية، شعب ثائر أم احتلال ظالم؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت