- فاضل المناصفة
انتهت الانتخابات التركية بدون مفاجئة وكان انتصار أردوغان فيها محسوما قبل بداية جولة الإعادة بينه وبين أوغلوا لاعتبارات عديدة نذكر منها الحصار الإعلامي الذي مارسته السلطة على كل من يغرد خارج السرب منذ أن بدأ عهد ما بعد الانقلاب في تركيا، وعاد النظام التركي الى استعمال أساليب الأنظمة الديكتاتورية في الحفاظ على الحكم من خلال فرض حصار على المشهد الإعلامي وعلى أي مؤسسة إعلامية في تركيا لا تسبح بحمد سلطة أردوغان، لتطوع بذلك دور السلطة الرابعة وتضعف فرص المعارضين في الاستقطاب من خلال الأداة الكلاسيكية الأكثر تأثيرا في معارك الانتخابات، يكفي فقط أن نذكر بأن تركيا تحتل المرتبة 149 من أصل 180 في تصنيف حرية الصحافة لنفهم بأن أوغلوا خسر الحرب بخسارته معركة الاعلام التي كانت توحي من البداية بأن الكفة كانت في صالح رجب قبل ساعة الحسم بأيام .
انتخابات 2023 التي حسمت في الجولة الثانية لصالح أردوغان بفارق 4.2 % عن منافسه أوغلوا تؤكد بأن النجاح فيها لم يكن بالأمر السهل تماما كما كان في انتخابات 2018 عندما حسمت من الجولة الأولى بفارق واسع وكسب 52% من الأصوات مقابل 30 % التي حصل عليها منافسه الرئيسي محرم إينجه، ربما يكون العامل الاقتصادي سببا مباشرا في تعذر حسم الانتخابات في دورها الأول هذه المرة ولكن حصول أوغلوا على نسبة معتبرة من الأصوات في الدور الثاني لا يمكن ان يجعلنا نتجاهل بأن ثمة هنالك رغبة في التغيير عبرت عنها شريحة معتبرة من المجتمع التركي قريبة جدا من عدد الأصوات التي قادت أردوغان الى الفوز .
أردوغان الذي سيدخل العقد السابع من العمر في فبراير القادم سيجد نفسه أمام تحديات اقتصادية كبيرة أبرزها مكافحة التضخم الذي حاولت الحكومة أن تضع على معدلاته مساحيق التجميل تمهيدا لانتخابات الرئاسة، ولكن في الواقع لن تصمد السياسات الحكومية قصيرة الأمد في ظل الحالة الاقتصادية العالمية وديناميكيات سوق النفط الناتجة عن التوترات الجيوسياسية وهو كلام تؤكده وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني التي وصفت السياسات التي نفّذتها الدولة لتحقيق مستويات عالية من النمو الاقتصادي والتوظيف قبل الانتخابات ليست مناسبة للتعافي الدائم". ، ومع استمرار انخفاض أسعار الفائدة وقيمة الليرة كنتيجة حتمية للسياسات النقدية التي لا مناص منها، فان زيادة الأجور التي كانت ضمن جملة من الوعود الانتخابية لن يكون لها أثر بالغ على القدرة الشرائية للأتراك، هذه التحديات الاقتصادية ستكون في نفس الوقت معركة سياسية مع المعارضة التي لم تستسلم بعد .
تحديات أخرى على الصعيد الخارجي تنتظر أردوغان الذي سيجد نفسه مضطرا الى ترك سياسة مسك العصا من المنتصف واللعب على الحبلين، أمام إصرار الغرب على حسم موضوع انضمام السويد الى الناتو، خاصة بعد تصريح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب مايكل ماكول، الذي أعلن فيه أن الولايات المتحدة تحصلت على تعهدات تركية بقبول عضوية السويد في الناتو بعد الانتخابات، سيكون أردوغان أمام معضلة حقيقية، فالاستمالة لمعسكر الغرب مقابل تمرير صفقة طائرات اف 16 تعني ضرب العلاقات الحيوية مع روسيا وخسارة امدادات النفط الروسي التي تتدفق بسخاء مقابل استمرار تعطيل عضوية السويد في الناتو، وهنا سيحتاج أردوغان ذو الشخصية البرغماتية أن يضحي بأحد الطرفين حسب ما تقتضيه مصالحه أو أن يحاول الهروب الى الأمام ريثما تتمخض انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية بمشهد جديد وبقيادة جديدة تبدي استعدادا لقبول تسوية سياسية مع روسيا في أوكرانيا من ضمنها تجميد مقترح حصول السويد على عضوية الناتو .
ينتظر أن تكون قضية اللاجئين السوريين على رأس الملفات الإقليمية التي سيشرع أردوغان ولايته الانتخابية بها، فبعد الحصول على توافق تركي روسي إيراني سوري حول مسألة العودة الطوعية والآمنة لهم يتضح أن المياه الراكدة بين النظام السوري وأنقرة ستتحرك في اتجاه يفتح الباب لعلاقات جديدة بين الدولتين الجارتين: صحيح أن وصول قليجدار أوغلوا الى السلطة كان بالإمكان أن يخدم النظام السوري أكثر بكثير من وصول أردوغان الى السلطة، ولكن النظام السوري يلتقي مع أردوغان في موقفه وحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" ولا يمانع في ان يكون تطبيع العلاقات مع تركيا فرصة لتطويق أحد أقوى التنظيمات المسلحة شريطة أن يكون التدخل العسكري التركي مشتركا مع الجيش النظامي و في خدمة انهاء خروج الأراضي السورية عن السيطرة وليس العكس، ومن باب أن أردوغان يعي بأن تخفيف عبأ اللاجئين سيكون له أثر إيجابي على الصعيد الداخلي، وان الملف السوري يفتح الباب لتقاطع المصالح مع السعودية خاصة وان هذه الأخيرة هي من قادت الاجماع العربي نحو انهاء عزلة النظام السوري الديبلوماسية على الصعيد العربي، لا نستبعد ان تكون الرياض هي الراعي لترتيبات للقاء رسمي بين بشار وأردوغان، ولا يجد هذا الأخير حرجا في تغيير موقفه من النظام السوري تماما كما غير مواقفه من النقيض الى النقيض في مرات عديدة حسب ما تقتضيه كل مرحلة مع روسيا وأرمينيا و السعودية والامارات و إسرائيل و مصر وتونس .
وبما أن الدستور التركي المعدل في 2017 يمنع ترشح الشخص لمنصب الرئاسة أكثر من دورتين كما ان عمر أردوغان وحالته الصحية التي يكتنفها الغموض لن تسمح له بتعديل جديد يفتح له الباب للمنافسة مجددا، فان هذه الولاية الثقيلة بثقل التحديات الاقتصادية لا شك أنها ستكون الأخيرة لأردوغان أو ربما ستكون تمهيدا للخلافة التي ستفتح الباب توريث السلطة في تركيا، ومن يدري ربما ستعمر الأردوغانية طويلا مع أحمد براق أو نجم الدين بلال في الانتخابات الرئاسية القادمة ...فإلى ذلك الحين نتمنى للشعب التركي الخير وللمعارضة التعلم من أخطاءها لكي لا تفوت فرصة التغيير مجددا على الراغبين فيه من الأتراك .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت