المَوْج العالي في غرب آسيا وسيناريوهات الحَرب والهدوء

بقلم: فراس ياغي

  • بقلم: فراس ياغي

تَزداد بشكل ملحوظ التصريحات من جانب الرسميين الإسرائيليين تجاه جبهة الشمال والتي تحمل طابع التهديد العسكري وتحت عناوين مفهوم الردع أو التحضير الحقيقي للقيام بمغامرات عسكرية تحت يافطة الأمن القومي لدول الكيان الصهيوني، ولكن الملاحظ أنّ مُجمل هذه التهديدات تَعكس نفسها بقوة أيضا على الداخل الإسرائيلي من حيث حجم الدمار الذي قد يتعرض له هذا الداخل وبما يُشير إلى أن الحروب السابقة التي عَهدتها وقامت بها هذه الدولة إنتهت إلى غير رجعة، ولكن ما يميز هذه التصريحات أنها تأتي في سياقات متعددة تَعصِّف بكل الإقليم وبالداخل الصهيوني وتشكل في مجموعها عكس ما تَشتهيه وتعمل عليه دَولة اليمين المُتطرف، وأقصد هنا المُتغيرات التي فاجأت أقطاب الدولة الصهيونية وأدت إلى كل هذه التهديدات إن كانت من جانب رئيس الوزراء "نتنياهو" أو وزير دفاعه "غالانت" أو رئيس هيئة الأركان "هيرتسي هاليفي" او حتى من جانب المعارضة "غانتس".

وفي قراءة للواقع الذي يَتشكل نرى عدة أمور آخذةٌ في التشكل على مختلفِ الأصعدة، فالعالم وبإعتراف "مارك ميلي" رئيس هيئة الآركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية أصبح فيه ثلاث قوى عظمى تتنافس وهي "أمريكا والصين وروسيا" بما يعني ذلك إنتهاء للقطبية الأمريكية الواحدة الداعمة لدولة الكيان الصهيوني بلا حدود وبلا أخلاق وبتجاوز واضح للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وعلى رأسها قرارات مجلس الأمن بما يتعلق بالإستيطان والقدس والضفة الغربية، ولكن التراجع الأمريكي ليس على مستوى العالم فقط بل يتجلى ذلك بوضوح في منطقة "غرب آسيا" وبما يؤثر بشكل مباشر على دولة الإحتلال، حيث نرى التقارب بين دول المنطقة العربية والإسلامية وبشكل دراماتيكي وبتدخل "صيني" مباشر بما يوحي بوضوح أنّ أقطاب هذه المنطقة وضعوا مصالح دُولهم وشعوبهم في التنمية الإقتصادية والبشرية كخيار إستراتيجي ولما يؤسس لمرحلة تَشبيك وليس مرحلة عداء وهذا ليس في صالح دولة الكيان الصهيوني التي حاولت بكل جهدها بدعم أمريكي تقسيم منطقة "غرب آسيا" إلى تحالفين، تحالف معتدلين برئاستها ضد "إيران"، والتحالف الذي يقف مع "إيران"، فجاءت العلاقات "السعودية الإيرانية" لتقلب كل هذه التوجهات وتضع خيارات جديدة أهمها أن دخول دولة الإحتلال لعملية "التشبيك" المستقبلية للمنطقة تتطلب منها أن تنهي إحتلالها بما يؤسس لدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، بإعتبار أن لا أحد يريد الحرب ولا العداوة التي فاضت بها منطقة "غرب آسيا" إلى درجة الدمار الكلي في بعض دولها، ولكن متطلبات إنهاء ذلك تستدعي من دولة الكيان الصهيوني أن تنهي إحتلالها وتفتح صفحة جديدة من المفاوضات مع القيادة الفلسطينية وفق جدول زمني محدد أساسه تطبيق المبادرة العربية للسلام.

الدولة الصهيونية بدل أن تتعاطى مع التبريد الذي يلف المنطقة ككل كبداية نحو تسخين ملف "التشبيك" بما يشمل العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية وحل الخلافات بالحوار، صَعّدت من جانبها عبر مناورات عسكرية وتصريحات فوق العادة لأنها لا زالت تعتقد أن كل ما يجري ليس سوى فترة "مُعترضة" ستتجاوزها إذا ما قامت بإزالة التخوفات لدى بعض الدول المؤثرة في منطقة "غرب آسيا" بسبب التراجع الأمريكي منها، وبما يستدعي ذلك من مغامرات عسكرية مجنونة وغير محسوبة النتائج رغم كل الخطط المرسومة والتي ترى أنها قادرة على تحقيقها بما أسمته في مناورتها الأخيرة "اللكمة القاضية"، وبالطبع قد تكون هذه "اللكمة" قاضية على من يفكر فيها ويريد أن يطبقها على الواقع المتخيل وليس على واقع الواقع، خاصة أن تعدد الجبهات والساحات التي ستتوحد كأمر حتمي قد تؤدي بالضرورة لتوريط الأمريكي غير المستعد لذلك، بل يعمل بكل قوة على أن لا يحصل لأنه منشغل في "شرق آسيا" وفي حرب "الناتو" في أوروبا ضد "روسيا" ويبحث عن أي إتفاق جديد نووي مع "إيران" حتى ولو كان إتفاق مُجزأ غير شامل لكل شيء، لذا نراه مثلا يدعم عودة العلاقات السعودية الإيرانية حتى ولو جاءت عبر تدخل صيني وبعيدا عنه، أيضا يحاول أن يرمم علاقاته في المنطقة بعض رفض دولها المنطق الأمريكي في التعامل مع الصين وروسيا ورفض تخفيض إنتاج النفط وإنسحاب دولة "الأمارات" من القوة البحرية الحامية للخليج ورفض الفيتو الأمريكي في الموضوع السوري وعودة "سوريا" للجامعة العربية وفتح السفارات بينها وبين "السعودية" ودول الخليج (ما عدا دولة أمريكا في الخليج "قطر")، إذا واقع الحال يُشير ان دولة الإحتلال تُعاني بشكل كبير ليس على المستوى الداخلي ولا على المستوى الفلسطيني وإنما أيضا على مستوى الإقليم ككل برفض التماهي مع مخططاتها بل على العكس من ذلك، دول الإقليم وضعت مخططات جديدة أثقلت المُخططات الصهيونية وأدت لِعبء جديد غير محسوب وغير متوقع.

عندما قلنا سابقا أن تعيين "هيرتسي هاليفي" رئيس هيئة الأركان في دولة الإحتلال والذي يعتبر من أكثر المُختصين في مفهوم "الهجوم الإستراتيجي" وأنه قادم للقيام بمغامرة عسكرية قد تصل حدودها إلى "طهران"، لم نكن نعرف ماذا سيحدث في المنطقة من حيث عودة علاقات "إيران" مع الدول العربية المركزية، ولم يكن شعار "وحدة الساحات والجبهات" قد وضع على طاولة محور "المقاومة"، وأيضا لم تكن الأزمة الداخلية في دولة الكيان الصهيوني قد وصلت إلى ما وصلت إليه، لذلك كل المعطيات التي حدثت تُرجح أننا أقرب إلى مهمة "هاليفي" الذي تم تعينه بسببها، من هنا نرى من وجهة نظرنا أن المنطقة أقرب إلى التصعيد منها إلى الهدوء إعتمادا على الأسباب التالية:

أولا- لا حلول في الأفق للأزمة الداخلية في دولة الكيان الصهيوني بما يعرف ب "الإصلاحات القضائية" لذلك خلق أزمة أمنية كبرى تُهدد الدولة ككل ستؤدي لوحدة المجتمع الإسرائيلي، وهذا ما يجري حاليا بإطراد.

ثانيا- مفهوم وحدة الساحات والجبهات يَستدعي تحرك من جانب دولة الإحتلال لتأكيد القدرة والقوة بما يعزز إعاد الثقة ليس على المستوى الداخلي بقدر ما هو في الإقليم ككل، فقيادة المنطقة وفرض الهيمنة تحتاج لسطوة وفائض من القوة، وهذا يعني المبادرة بمغامرة عسكرية لتحقيق ذلك.

ثالثا- الملف النووي الإيراني وجبهة الشمال "لبنان" مترابطتان ولا إنفصال بينهما، ومن يريد مواجهة نووي إيران عليه أولا أن يتعامل إستراتيجيا مع قوات "الرضوان" في الجنوب اللبناني، وكما يبدو تصريحات "نتنياهو" و"غالانت" و"هاليفي" وغيرهما تحاكي تلك الإستراتيجية.

رابعا- لا خيارات أمام دولة الإحتلال في ظل الواقع المُتشكّل إلا القيام بخطوات عنيفة تؤدي لخلط الأوراق من جديد في محاولة لإعادة ترتيبها بما يخدم الفضاء الصهيوني الإستراتيجي في المنطقة من حيث النفوذ والسيطرة عبر القوة ومزيدا من القوة.

خامسا- وأخيرا، حسم ملف الضفة الغربية والقدس (تقسيم الأقصى مكانيا والخطة تم وضعها من قبل عضو الكنيست الليكودي "عاميت هاليفي") بشكل نهائي وتربع اليمين ويمين اليمين الصهيو-ديني العنصري المتطرف على رأس دولة الكيان الصهيوني إلى عقود يتطلب القيام بمغامرة عسكرية كبرى يتم فيها تحييد أي قوة قادرة على التنغيص على ذلك بالحد الأدنى.

 

أعتقد أن كل ما يحدث في المنطقة من تصريحات ومناورات ولقاءات في القاهرة مع فصاءل المقاومة في غزة، والتحركات الأمريكية التي تحاول وقف التدهور القادم خوفا من أن تتورط في حرب لا تريدها، تعكس بقوة سيناريو الحرب التي يخطط لها "نتنياهو" ومعه عتاولة قيادات الجيش والأمن في دولة الكيان الصهيوني، لذلك من المرجح أن تكون السيناريوهات كالتالي:

السيناريو الأول- مغامرة صهيونية ضد "حزب الله" تتدحرج لتشمل المنطقة ككل وتؤدي لتوجيه ضربة لِ "إيران" وقد تؤدي لتورط الجانب الأمريكي كأمر واقع إعتماداً على مجريات المعركة.

السيناريو الثاني- لا مغامرات ولا حروب في المنطقة من خلال كبح جماح ذلك امريكيا، وسقوط مدوي لحكومة "نتنياهو" لاحقا وبما يؤسس مستقبلا لفترة هدوء على مختلف الجبهات تستفيد منه "غزة" أولا و"سوريا" ثانيا وتنتهي عقدة الرئاسة "اللبنانية" وتبدأ مفاوضات جديدة "فلسطينية – إسرائيلية" بحدود دنيا لا تؤدي لإنهاء الصراع بل تكون غطاء لمزيد من التطبيع مع بعض الدول العربية.

السيناريو الثالث- لا حروب على الجبهة الشمالية، وبقاء حكومة نتنياهو اليمينية العنصرية والتركيز على حسم الصراع في الضفة الغربية والقدس وبما يؤدي لاستمرار الحالة بين التصعيد والهدوء، مع القضم التدريجي للضفة وتقسيم الأقصى مكانيا تحت ضغط اليمين الصهيو ديني، وإستمرار الأزمة في الكيان دون حسم ملفات الإصلاح القضائي.

 

اعتقد شخصيا أن السيناريو الأول حظوظه كبيرة لوجود جنون حقيقي يَعتري عقول حكومة "الرّب" في دولة الكيان، وهذا الجنون يَتماهى مع قيادة جيش يتعطش لإعادة مكانته كقوة لا تقهر في المنطقة، في حين السيناريو الثاني فهو بلا أفق، أم الثالث فهو ممكن وواقعي.

هناك موج عالي ورياح عاصفة سَتعصف بكل المنطقة لأن المخاض العالمي يعكس نفسه بقوة ويفرض إصطفافات جديدة بدأت تتشكل ولو ببطء، لكنها واعدة ومواجهة للنظام العالمي القديم الذي تربعت عليه أمريكا بطريقة أو بأخرى منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنطقة "غرب آسيا" تعتبر المركز "الجيو إقتصادي سياسي" الذي سيحدد طبيعة العالم القادم، فهذه المنطقة هي مركز العالم ومركز الحضارات والديانات ويكفي أنها مركز الطاقة وحلقة الوصل بين الشرق والغرب بريا وبحريا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت