- *كتب: المحامي محمد احمد الروسان*
- *عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية*
... وتبدو حالة الدول العربية، مع الأمريكي اليوم، مثل عشيقة زعيم مافيا، ذات جمال أخّاذ، وقد ممشوق، وتفوح أنوثة قاتلة واغراء، تنعم بالحماية والرفاهية، ولكنها ليست حرة، في اختيار صداقاتها، بينما حال تركيا وإسرائيل، مع الأمريكي اليوم أيضاً، كحال الزوجة القادرة، على النكد والإزعاج، بل ويمكنها أن تكون زوجة ناشزة، فيما إذا ضغط عليها الزوج، الذي أخذت قوته، ومكانته، بالتراجع.... وسنشرّح ونشرح ذلك بالتفصيل، ونقول:-
الدولة الصينية، ومفاصلها وكارتيلات حكمها، أقرّت قانوناً جديداً، من شأنه: أن يحدد علاقات السياسة الخارجية الجديدة، ويدعم نصوص الكتاب الأبيض الصيني، الذي أقرته عام 2016 م، حيث يهدف القانون الجديد في العلاقات الخارجية، الى حماية سيادة الصين، وأمنها القومي، ومصالحها الإنمائية، مع وجود قرار صيني رفيع المستوى، ان لجهة العسكري، وان لجهة الأمني، وان لجهة الاقتصادي، لقيام جيشها، بمحاكات حرب شاملة، حيث أعلن الجيش الصيني، العمل على استراتيجية شاملة، تحاكي سيناريوهات الحرب الشاملة، وتوفير الموارد الاقتصادية لذلك، بشكل مستدام، ان حدثت المواجهة.
انّ مفاعيل ومرامي، هذا القانون الجديد، السابق ذكره، يؤكد تعددية الأقطاب، والتشاركية في كل شيء، مع الاخر الحليف والصديق، ويؤكد قناعة بكين، بإنهاء القطب الواحد، ومن شأنه، أن يوسع من موقف الرئيس شي القتالي، ويعني تعبئة الموارد والطاقات جميعها، لتحقيق النصر المستدام، وحسب منطوق الفلسفة الصينية للحكم.
الولايات المتحدة الامريكية، ترى أنّ حلفائها، يحاولون التفلّت من سطوتها، واتخاذ خيارات أخرى، حيث المنافسة بين واشنطن وبكين، ليست محصورة، في بحر الصين الجنوبي، ونطاقاته الحيوية، ومجاله الجيو- استراتيجي، وانما في التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي بشكل أساسي، ومع ذلك أمريكا لا تلعب ضمن قواعد المنافسة، ولا يمكننا القول: أنّ بكين، يمكن أن تملاْ الفراغ كلّ الفراغ لوحدها، لذا لا بد من قوّة صلبة تساندها، ولا شك هي الفدرالية الروسية، بجانب منظومة البريكس الاقتصادية، كمعادل اقتصادي للاتحاد الاوروبي، ومنظمة شنغهاي للتعاون الشامل، كمعادل عسكري للناتو، فروسيا وكما قلنا، قوّة صلبة، والصين قوّة ذكية وناعمة، عبر الاقتصاد، والذكاء الاصطناعي.
وهدفت وما زالت، السياسات الامريكية في أوكرانيا، الى ابعاد أوروبا عن الفدرالية الروسية والصين، ليصار الى شطبها الان ولاحقاً بشكل كامل، ولكن واشنطن فشلت في استراتيجية الفصل بين موسكو وبكين، وعلاقات أمريكا مع الصين الان، في مرحلة الصراع المتعدد الأوجه، والفارق عن الحرب الباردة، وجود احتكاك أمريكي صيني مباشر الان، وعبر تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وفي الصراع التكنولوجي وذروته الذكاء الاصطناعي، والأخير أخطر من الصراع النووي، والبيولوجي على البشرية، ويدفع في سيطرة الآلات على القوى البشرية، والاحلال محلها، حيث سيفقد الناس في العالم، وخلال خمس سنوات قادمة، أكثر من 35 مليون وظيفة.
انّ ميكانيزميات عديدة، وديناميات دولية متعددة، وشروط تظهر، وظروف متغيرة، ومعطيات تتجسّد، ووقائع كحقائق، كلّ ذلك قاد ويقود الى شكل جديد لأدوات الصراع بين الدول، تتغير بالفعل في المعمورة على هذا الكوكب، والذي صار ساخناً ويتصاعد بتفاقم، ويسير بثبات نحو، مشارف حرب نووية عالمية ثالثة، بفعل مفاعيل المواجهة الروسية الأطلسية، والتي تدار من الخلف، من قبل واشنطن دي سي وبريطانيا وفرنسا، وعميق مؤسساتها، عبر الجغرافيا الأوكرانية، أو ما تبقى من هذه الجغرافيا الزاخرة بالنازية والفاشية، والقوميون الأوكران المتطرفون، درجة التآمر على الذات، وقتل الذات لنفسها.
عالماً جديداً قيد التشكُّل والتشكيل، بعد فشل المؤسسة العسكرية البلدربيرغيّة، من تشكيل الجغرافيا السياسية في العالم، وان كان عالم فوكا، بفعل التداعيات والعقابيل، للصراع الأطلسي الناتوي مع روسيّا، عنوانه معسكرٌ صيني روسي إيراني، ومنظومة البريكس ومنظمة شنغهاي، وآخر أمريكي ناتوي، اتحاد أوروبي، وحلفاء له آخرون، صاروا يتفلّتون من سطوته، والأسباب عديدة ومتعددة، منها حلول العصر الإلكتروني، والذكاء الاصطناعي كذروة له وانعكاس، وأنّ الصراع فيه(العالم الجديد)، سيأخذ شكل مختلف، قد يكون من دون استخدام القوة العسكرية، لأنّ المعسكر الغربي، هو من شكّل عالم ما بعد الحرب العالمية، وهو لم يعد يريد حرباً كونية جديدة، لكن أمريكا تقوده اليها، كي تعمل على تأخير تفككها الى حد ما.
وقد يكون هذا الأمر، ما أدركه قادةُ أمريكا والمجمّع الصناعي العسكري الحربي، من أنّ الصراع الدولي، بات اقتصادياً بالدرجة الأولى، وأنّ مردودَ كلفةِ قواعدهم العسكرية في العالم، لا توازي مصاريفَها، وأنّ مشروعَ(الحِزامِ والطَّريق المسنود بالقوّة الصلبة الروسية)سيأخُذُ العالمَ نحو الصين وأسواقها، لهذا تعمل واشنطن على استراتيجيةٍ جديدة، كي لا تتهاوى مثل من سبقها من إمبراطورياتٍ، سادت ودالت ثم زالت.
فقد توقف العالم اليوم، عن النظر إلى أمريكا، كماركة أولى في العالم، بعدما بات لها منافسون في السوق متعددون وكثيرون، منافسون لا يفرضون نموذجهم السياسي والثقافي والفكري والحضاري، وإنما يتطلعون إلى العالم كسوق مفتوح، قد يشبه السوق المفتوح، على السوشال ميديا الى حد ما، وينظرون إلى دوله مجتمعةً ومنفردةً، كما ينظر التاجرُ إلى الزَّبون، حيث الشركات الصغرى والمتوسطة، والكبرى والمتعددة الجنسيات: ثكناتهم الاقتصادية، كالثكنات العسكرية، والأسواق لهم، ساحات معاركهم، والمال سلاحهم.
ومنطقتنا الشرق الأوسطية، كما كانت ساحة تنافس، بين الإمبراطوريات على مر التاريخ، فإنّها ستكون ساحة تنافس، بين المعسكر الأوراسي، والمعسكر الغربي، نظراً لموقعها ونفطها واستهلاكها، ففي القرن العشرين الماضي، سقطت إمبراطوريات عتيقة، وحلت مكانها إمبراطورياتٌ جديدة:
تفككت إمبراطورية أسرة تشينغ الصينية في العام 1912م، على يد القوى الأوروبية، بعد أربعة قرون من قيامها، كما تفككت الإمبراطورية التركية، بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى عام 1916م، وسقطت الإمبراطورية الروسية عام 1917م على يد الشيوعيين عبر الثورة البلشيفية، لتقوم إمبراطورية السوفيات على أنقاضها.
كما تفككت الإمبراطورية البريطانية، بعد حرب السويس عام 1957م، والفرنسية بعد استقلال الجزائر عام 1962م، لترثهما الإمبراطورية الأمريكية، ثم في أواخر ثمانينات القرن الماضي، تفككت الإمبراطورية السوفياتية، وتبعتها الإمبراطورية البرتغالية في العام 1999 م.
ويبدو أن الربع الثاني من هذا القرن، سوف يشهد تقلص وتحجيم الإمبراطورية الأمريكية، وتمدد الإمبراطورية الصينية، على الخريطة العالمية، وصعود روسي متعاظم بجانبها، وسيكون الشرقُ الأوسطُ، أحدَ مسارحِ التنافسِ بين القوتين، حيث سئمَ العرب من الاستغلال الأمريكي الفظ لهم، وتفضيل إسرائيل وتركيا عليهم، بينما توفر لهم الصين وروسيا بفعل نتائج المواجهة الروسية الأطلسية، فرصا لتقوية اقتصادهم وقوّتهم، من دون ابتزاز في المسألة والأمر، الذي يسهّل التغلغل الصيني والروسي فيها، برضى وتوافق الجميع.
ويظن الأمريكان اليانكيون، وان كان بعض الظن اثم، أنهم ورثة الإمبراطورية الرومانية، حتى أنهم بنوا واشنطن على طراز الهندسة المعمارية في روما القديمة، وهم يدرِّسُون في مناهجهم المدرسية والجامعية، أسباب سقوط روما، والتي تتلخص في غزو البرابرة وقبائل الهون، والأزمة الاقتصادية بسبب ارتفاع الإنفاق على الجيش الروماني، واتساع رقعة حروبه، والتهرب الضريبي، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتعطيل تجارة الإمبراطورية، من قبل قراصنة الفاندال، وانتشار الأوبئة.
فقد امتدت سيطرة روما، من الأطلسي غرباً، حتى الفرات شرقاً، وكانت عظمتُها أحدَ أسباب سقوطها، حيث واجهت مشاكل إدارية ولوجستية، بسبب اتساع مناطق السيطرة، وتضاعف نفقات الجيش، التي أدّت إلى تراجع البنى التحتية، والتقدم التقني، وفساد الأباطرة، ومجلس الشيوخ.
وحيث كل ذلك ماثل اليوم، في تفكير الأمريكان اليانكيون، وخصوصاً وبشكل مطلق، خبراء المراكز البحثية، الذين يبالغون، في تخويف السلطات السياسية، إذ يبدو قادتها اليوم، أكثرَ قلقاً وتخوفاً، من خسران سيطرتهم على العالم، لذلك هم يتراجعون قليلاً اليوم، من أجل تماسك الدولة، غير أن تراجعهم لم يرق لحلفائهم، خصوصاً بعد الانسحاب الجزئي الفوضوي لهم، من أفغانستان، والذي يرقى إلى مستوى النكسة العربية في حرب عام 1967 م.
فقد اتخذت واشنطن خطواتٍ عديدةً، تشير إلى تقليص وجودها العسكري، الأمر الذي أربك حسابات حلفائها في المنطقة، وأدى وقاد إلى التفكير، في إعادة تشكيل تحالفاتهم، فقد سحبت الولايات المتحدة، أكثر منظوماتها الدفاعية تطوراً، وجميع بطاريات صواريخ باتريوت من السعودية فيما مضى منذ بداية عمل إدارة جو بايدن، وكما خفّضت و\أو أعادت انتشار، أعداد جنودها في القواعد العسكرية، بمنطقة الخليج والعراق، وسحبت جزء قد يكون وازن من قواتها من أفغانستان لكنه جزئي، وأعادت رسم وترسيم توجهاتها في المنطقة، بشكل يختلف عما كان مألوفاً في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ومن ذلك بدءُ الحوار مع إيران غير المباشر، وممارسة شيء من الضغط التكتيكي على إسرائيل.
ولعلها وجدت، أنّ أفضل طريقة للتعامل مع الوضع اليمني والسوري والعراقي، هو الاتجاه نحو الجهة الداعمة للتمرد على السياسات الأمريكية، فالتفاوض أقل كلفة من المجابهة، وهذا قد يفسر تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة، بالخروج الفعلي من الحروب التي لا تنتهي، وإعطاء مزيد من المساحة للديناميات الداخلية في المنطقة، بعدما أظهرت الوقائعُ والمعطيات، فشلَ المؤسسة العسكرية في تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة، منذ احتلالها للعراق عام 2003 م.
وتمتلك الولايات المتحدة نحو 900 قاعدة عسكرية في أكثر من 70 دولة وإقليماً، وتشمل الدول العربية ماعدا لبنان، حيث فجر حزبُ الله قاعدتَهم في بيروت عام 1983 م وقتل فيها 241 جندياً، وتعمل هذه القواعد علناً على تدريب القوات المحلية، وشن هجمات عسكرية، كما تنظم سراً الأعمالَ الاستخبارية والتجسسَ على شعوب الدول وقياداتها، وتنفيذ عمليات خطف واغتيال، بالتعاون مع السفارات الأمريكية في هذه الدول، حيث تبدو مسألةُ السيادة، مجردَ وهمٍ وطني للشعوب العربية.
وقد قام مركزُ كارنيغي الأمريكي مؤخراً، والذي كان مديره وعامل فيه، السفير الأمريكي الأسبق في عمّان، ومدير السي أي ايه الحالي وليام بيرنز(الذي يزور أوكرانيا باستمرار وسراً)، بإنجاز دراسة حول خفض الوجود العسكري الأميركي، ويقول الجزء المعلن منها أنه: مع مرور الوقت، اضمحلّت أهميةُ المصالح الأوّلية، التي كانت في أساس الوجود الأميركي في المنطقة(العربية)، فمصادر الطاقة لم تعد تشغل المكانة نفسها كما في السابق، وأوصت الدراسة في المراحل المقبلة: أن يقوم الوجود العسكري الأميركي على القيمة الاستراتيجية الفعلية، لا على دعم الأهداف المتعلقة بالحفاظ على الإرث، ويجب أن تُربَط المصالح والأهداف الأميركية الأساسية، مباشرةً بالمهام والبعثات، وينبغي أن يُملي ذلك بدوره، عديد وعتاد القوّات، وحجم الإمكانات المطلوبة لتنفيذ تلك المهام، وموقعها.
ورأى معدُّو الدراسة هذه، أنّ ضمان حرية الإبحار في نقاط الاختناق البحرية الحسّاسة، في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، باتت هدفًا ثانويًا على الأرجح والأغلب، ومن هذا المنطلق، تجب إعادة النظر في المستوى المناسب من الجهود والموارد المطلوبة للنهوض بهذه المسؤولية.
وعلى خلفية تراجع مستوى الجاهزية البحرية الأميركية، وفرض ضرائب مرتفعة جدًا، على موارد الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، فإنّ هذه المهمة، لا تتطلب فرقة قتالية من حاملات الطائرات، ويجب ألا تُستخدَم مبرِّرًا للإبقاء على وجود حاملات الطائرات، بصورة مستمرة في المنطقة.
ومراكز البحث الامريكية، والتي يصنع القرار فيها، توصي: من أجل أداء هذه المهمة بمستوىً مختلفٍ من الموارد، يجب على الشركاء في الإقليم(الأنظمة العربية)، وغيرهم من الحلفاء(إسرائيل وتركيا)، الاضطلاع بمسؤوليات إضافية(أي أن تقوم جيوشُ هذه الدول بمهمات القواعد الأمريكية)، وهذا قد يفسر الانسحاب العسكري الجزئي و\أو إعادة الانتشار من السعودية وباقي مملكات القلق العربي على الخليج.
ويوصي الخبراء والمختصون، في مراكز البحث الامريكية، بتطوير مجموعة من القواعد الأصغر حجمًا في مختلف أنحاء المنطقة، كي تحتفظ الولايات المتحدة، بإمكانية الوصول إلى عدد قليل من القواعد الأساسية في الشرق الأوسط، في حال وقوع أحداث طارئة، وتم وصفها بالقواعد الدافئة، لأن الدول المضيفة، ستتولّى تشغيلها وصيانتها، مع احتفاظ الولايات المتحدة، بالقدرة على الوصول إليها، في الحالات الطارئة لتنفيذ مهام حسّاسة في مجالَي الاستخبارات ومكافحة الإرهاب، مثل مهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع وقوات العمليات الخاصة، مع التأكيد على توجيه رسالة إلى الشركاء في (الإقليم)مفادُها: أنّ ما تقومُ به الولايات المتحدة، هو تصويب للحجم وليس انكفاءً، أو انسحاباً على شكل هروب، من أجل عدم الإضرار بالعلاقات مع هذه الدول، وهي ليست مهمّة سهلة، لكنها ذات أهمية حيوية لنجاح أية بصمة أميركية في المستقبل.
تتحدث وتشرح بإسهاب، مراكز البحث الامريكية، والتي تعمل لصالح السي أي ايه والبنتاغون: فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، اتسع نطاق علاقات الصين مع الشرق الأوسط إلى أبعد من الطاقة، فقد زادت التجارة بين الصين والمنطقة بشكل كبير، وبدأت بكين في الاستثمار في البنى التحتية لسائر أنحاء الشرق الأوسط.، وتعد الصين الآن أكبر مستثمر إقليمي ودولي، وشريك تجاري لإحدى عشرة دولة في الشرق الأوسط، إذ تدرك القيادة الصينية، أن تطوير دور بكين في الشرق الأوسط، أمر بالغ الأهمية لنجاح مبادرة الحزام والطريق.
وبينما تراجِعُ الولاياتُ المتحدة، أهميةَ دورها في الشرق الأوسط، تسعى كلٌّ من روسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي، إلى زيادة نفوذها في المنطقة، ومع أن هذا التنافس بين القوى الرئيسة، لم يؤد إلى مواجهة مباشرة بعد، رغم مرور أكثر من عام ونصف، على المواجهة الروسية الأطلسية، إلا أن اللاعبين الأقوياء، ما زالوا يريدون تأسيس وتوسيع وتعزيز نفوذهم، على حساب بعضهم البعض، ذلك أنّ الشرق الأوسط جاهز الآن للخطف، من قبل مجموعة متنوعة من القوى الإقليمية واللاعبين الخارجيين.
مراكز البحث الإقليمية المضادة، لأفكار مراكز البحث الأمريكية، حول العلاقات مع الصين مثلاً، تصدر الدراسات تلو الدراسات، والتي تتموقع وتتموضع في المفاهيم والأفكار التالية حول الصين ومفهوم العلاقات معها:
فقد صدرت دراسة جديدة مضادة، لدراسات مراكز البحث الامريكية، حول توجهات الصين، لتوسيع نطاق التنافُس الجيوسياسي، والعمل على إضعاف الولايات المتحدة، وذلك بناءً على خلفية طموحها غير المُعلَن للريادة الدولية، أو من خلال تفسيرها للسلوك الأمريكي، على أنَّه تهديدٌ وجودي لنظامها.
وتخصص الدراسة الجديدة، المعدة من قبل عميق الدولة الإيرانية، فصلاً عن الشرق الأوسط، بكونه ركيزة جغرافية، وقيمةٌ سوقيةٌ مهمَّة، لمشروعات الربط الاقتصادي الصيني العملاقة، على المستوى الدولي، حيث تمثل الصين أهمّ شريكٍ تجاري لدول الشرق الأوسط، وهي تمُدّ دولَ المنطقة بمنتجاتٍ صناعية واستهلاكية، وبدائل متنوِّعة، بأسعارٍ تنافُسية، وبجودةٍ مختلفة، حيث بلغ حجم الاستثمارات الصينية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حوالي 197 مليار دولار، خلال الفترة من 2005 م إلى 2020م، بينما وصل حجم التبادُل التجاري إلى 151 مليار دولار خلال عام 2020م، كما وسّعت شراكتها التكنولوجية، مع دول الشرق الأوسط، بشبكات الجيل الخامس، الأمر الذي شكّل، مصدرَ إزعاجٍ لواشنطن، حيث يبدو الأمر كحرب تكنولوجية باردة.
وتبدو الصين، في صراعها مع الأمريكي، كلاعب الجودو الذي يستخدم وزن خصمه ضده، حيث تستفيد من مظلَّة الحماية الأمريكية في المنطقة، التي توفر بيئةً ملائمة لمشاريعها، وأسواقًا مستقرة لاستثماراتها، إضافة إلى ضمان وصول إمدادات النفط إلى مصانعها، دون تحمُّل أيّ أعباءٍ أمنية أو تكاليفَ عسكرية، يدفعها الأمريكي من خزينته.
إضافة إلى ذلك، أقدمت الصين مؤخراً، على نقلة قويّة فوق رقعة الشطرنج، مستغلة أزمة الملف النووي الإيراني، بتوقيع اتفاقية شراكة إستراتيجية مع إيران في آذار من عام 2021م،
هذا الاتفاق فرّغ ويفرّغ وسيفرّغ العقوبات الأمريكية، من فعاليتها اعتماداً: على أنّ بكين، تنظم مركزاً مالياً واقتصادياً مستقلاً في أوراسيا، يمكن أن يجعل من إيران، كياناً إقليمياً أكثر نفوذاً، من دون امتلاكه لأسلحة نووية، مع امتلاكه للتقنية والمعرفة النووية لغايات سلمية بحتة.
وتبدو حالة الدول العربية، مع الأمريكي اليوم، مثل عشيقة زعيم مافيا، ذات جمال أخّاذ، وقد ممشوق، وتفوح أنوثة، تنعم بالحماية والرفاهية، ولكنها ليست حرة، في اختيار صداقاتها، بينما حال تركيا وإسرائيل، مع الأمريكي اليوم أيضاً، كحال الزوجة القادرة، على النكد والإزعاج، بل ويمكنها أن تكون زوجة ناشزة، فيما إذا ضغط عليها الزوج، الذي أخذت قوته ومكانته بالتراجع، لكن: وعلى الرغم من أنّ الصين، باتت أكبر شريكٍ تجاري، لعددٍ كبير من دول المنطقة، غير أنّ هذه الدول، لا تستطيع إحلال الصين مكان الزوج الأمريكي، كونها غير قادرة على تقديم الحماية التي يوفرها الأمريكي، ولكن تزايُد الشكوك تجاه نوايا الأمريكي، تدفعها للتعاون مع روسيا والصين، في مجالات مختلفة، حيث بدأت روسيا تستعيد دورها العالمي، من البوابة السورية والأوكرانية، وجلّ المواجهة، مع الأطلسي الأعمى، كما طوّرت علاقاتها الاقتصادية مع مصر والجزائر، والسعودية وتركيا وإسرائيل، وظهرت بدور الوسيطٍ المحايد(وفد من مجلس السيادة السوداني يزور موسكو هذا الأوان مثلاً)، في نزاعات المنطقة، اضافة إلى تزايُد الاهتمام، بالحصول على السلاح الروسي.
رغم حذر الصين، في تفعيل قُواها العسكرية والسياسية في مناطق نفوذ الولايات المتحدة، فإنّ مواقفها تتوازى سياسياً مع روسيا ضدّ الولايات المتحدة، الأمر الذي قد يدفع الولايات المتحدة للدخول في حربٍ باردة معها، تكون ساحتها منطقةَ الشرق الأوسط والشرق الأدنى، فالصين ومنذ بداية الأزمة السورية مثلاً، اتّخذت موقًفا مُنحازًا للشرعية، وذلك بحُكم العلاقات التاريخية بين البلدين، والتي تعود إلى بداية ستينيات القرن الماضي، فقد تجاوز الموقف الصيني من الأزمة السورية، حدود عدم الرضا عن التدخُّل الأجنبي في الأزمة السورية، إلى رفض تنحيةَ الرئيس بشار الأسد، واستخدمت في شباط 2012م حقّ الفيتو ضد مشروع القرار العربي ـ الأوروبي، الذي يتبنّى دعوةَ الجامعة العربية لتنحِّي الأسد عن السُلطة، واعتبر المراقبون، أنّ الفيتو الصيني، تطوُّرًا نوعيًا في دور بكين السياسي، على الساحة العالمية.
وقد استمرت الصين، على مواقفها الداعمة للدولة السورية، معارضة أيّ تدخُّلٍ عسكري فيها، بينما يمكن تفسير استخدامها لحقّ الفيتو، عدة مرّاتٍ لصالح سورية، رغم كفاية الفيتو الروسي، فهو بالون اختبار للحدود السياسية، التي يمكن أن تتوغل فيها، من دون إشعال نيران الحرب مع واشنطن، فهي حريصة على أن يبقى الصراع بارداً مع الأمريكي، لأنّه يصب في صالحها، إضافة إلى دفاعها عن رمزية طريق الحرير، حيث كانت سورية، ملتقى قوافل القارات القديمة.
انّ السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط، هي وفق صيغة تعاونية، تقوم على ثلاث ركائز: الأّولى: في مجال الطاقة كمحورٍ رئيس، والثانية: في مجالات البُنى التحتية، وتسهيل التجارة والاستثمار، والثالثة: في المجالات التقنية المتقدِّمة كالطاقة النووية، والفضاء والأقمار الصناعية، وعملت وتعمل الدولة الصينية، إلى ترسيخ قواعد العلاقات المشتركة عبر عقود استثمارية، وإنشاء بُنى تحتية لمشاريع الطاقة المتجدِّدة والتكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى عقد صفقات تسليحية، حيث أنَّ انخفاض تكلُفة الخدمات الصينية، يجعل منها شريكًا اقتصاديًا واستثماريًا مربحاً ومريحاً، في ظل الإحباط المتولد لدى دول المنطقة، من السياسات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، وتصريحاتها المتواترة، حول انخفاض أهمِّية الشرق الأوسط، وإذ أنّ شُركاء الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، هم في الوقت ذاته، شُركاء اقتصاديون للصين، حيث يحافظون على التوازُن، في التعامل مع الطرفين: الولايات المتحدة في التعاون الأمني، ومع الصين في التجارة والطاقة.
لكن هذا التوازن، قد لا يدوم طويلا، ومستوى حرية التعامل سيختلف عند زوجات الأمريكي عنه عند العشيقات، فإسرائيل مثلاً: مازالت تعمق علاقتها مع الصين حتّى اللحظة، وتوسع تعاونها في المجال الزراعي والتجاري، والعسكري والتكنولوجي، والسياحي والشعبي، رغم التحذيرات الأمريكية المستمرة لها، فقد حذر ويليام بيرنز، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، آخر ثلاث رؤساء للحكومة الإسرائيلية، منذ نفتالي بينت فلابيد فنتنياهو الان بقوله: من أنّ الولايات المتحدة، قلقة من التوغل الصيني إلى المرافق الاقتصادية الإسرائيلية، خصوصاً في مجالي التكنولوجيا العالية(هايتك)ومشاريع بنية تحتية كبيرة، وحتى بعهد ترامب: أبدى رئيس السي أي ايه الأسبق، والمحامي وخبير الطاقة ووزير الخارجية السابق، مايك بومبيو، من انزعاج واشنطن من تنامي الاستثمارات الاستراتيجية الصينية في إسرائيل، حيث بلغ حدًا يستدعي التّدخل.
كذلك علاقة تركيا مع روسيا، فقد غدت مثل الزوجة التي تتخذ عشيقاً لها في العلن، حيث تشغل تركيا المرتبة الخامسة بين الشركاء التجاريين لروسيا، وتعتمد على روسيا في الحصول على نصف وارداتها من الغاز الطبيعي، و12% من الواردات النفطية، في الوقت الذي تستغل فيه عضويتها في حلف الناتو، لدعم مشروعها العثماني.
انّ جميع دول المنطقة، باتت منخرطة في الشراكات الصينية، بينما وتيرة الصراع تشتد وترتفع، وقد يصل الأمر إلى موقفٍ تفرض عليها واشنطن الاختيار، بين أحد المعسكرين أو دفع جزءٍ من فاتورة الحرب الباردة الجديدة، وهذا من شأنه، ان يدفع دول المنطقة، إلى سدّ ثغراتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وتخفيض مستوى صراعاتها الإقليمية، وبناء تحالُفات استراتيجية، بما يحسن من موقعها التفاوضي، ويجعلها أقل إذعانا لهيمنة الأمريكي، وإغراءات الصيني، وبالتأكيد فإنّ عدم الانحياز، سيجمع بين الكثير من الدول، التي ترغب بالحفاظ على مصالحها وسيادتها، وقد نشهد شيئاً مشابهاً لما كان عليه الحال في القرن الماضي، خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي.
ولا تقيم الصين، أي قاعدة عسكرية خارج حدودها، باستثناء قاعدة جيبوتي، التي أنشأتها عام 2017 م، لحماية خط التجارة في البحر الأحمر، وقد أقرَّت اللجنة الدائمة في البرلمان الصيني، في 26 كانون أول 2020 م، تعديلاً مهماً على قانون الدفاع الوطني الصيني، يسمح للصين، بلعب دور أمني خارج حدودها، وقد تضمن القانون نصاً، يُجيز إرسال قوات صينية إلى خارج البلاد لمكافحة الإرهاب، ونصَّت المادة 71 من القانون على أنه: بعد موافقة الدول المعنية، وبعد موافقة مجلس الدولة، يمكن لإدارة الأمن العام، التابعة لمجلس الدولة، وإدارة الأمن القومي، إرسال أفراد في مهام لمكافحة الإرهاب خارج البلاد.
انّ السابق ذكره، في الفقرة السابقة تماماً، يندرج ذلك ضمن اقتراحات الخبراء الصينيين، تكتيكات دبلوماسية، خاصة في الشرق الأوسط، لتعزيز سياسة الأمن العالمية المتطورة لبكين، وتشمل هذه التكتيكات، الوساطة للدفاع عن المصالح التجارية، بدلاً من المصالح الأمنية، ضمن خطة إدارة الصراعات بدلاً من علاجها، وإقامة علاقات متناغمة بين الشركاء الاستراتيجيين للصين، مع التركيز على الاتصال والاتصال المضاد أيضاً، من خلال مبادرة الحزام والطريق، بدلاً من السيطرة المباشرة، حسب الطريقة الغربية، حيث تواكب الفلسفة السياسية الصينية، حركة التقدم الاقتصادي والاستثماري، الذي يوسع حدود إمبراطورتيها، وهي بعكس كل الإمبراطوريات التاريخية، غير مهتمة بنقل إرثها الثقافي وأسلوبها في الحياة، إلى الأمم الأخرى، كما أنها لا تريد السيطرة المباشرة، على أي دولة في العالم، وتطويعها لرغباتها، فالمال يفعل ما لا يقدر عليه العسكر.
وقد أخذ الصينيون الدرس، من عدوتهم السابقة اليابان: أنّ باستطاعة أي أمة، أن تتفوق بعقلها وعملها، من دون امتلاك جيش وأسلحة، إذ لا يتجاوز إنفاق الصين العسكري، واحد بالمئة، من إجمالي ناتجها المحلي، ومهمة الجيش والمنظومة الأمنية الاستخباراتية، الحفاظ على البلاد ووحدتها، إذ لا تمثل الصين تحدياً عسكرياً لأحد، وهي لن تتورط بحرب، تخرّب عليها انتشارها ونجاحها، بينما واشنطن قد تفعل ما اعتادت عليه منذ تأسيسها إلى اليوم، فأمريكا عصابة مافيوية مجرمة، قائمة على استسقاء الدماء، وجيشها الجيش الوحيد في العالم الذي لا يستريح، فأينما وجدت المصالح الأمريكية، تجد الجيش الأمريكي، وهي أي واشنطن، ستحاول جر حلفائها، ضمن هذا الصراع، ولن يستجيبوا فعلياً، طالما أنهم مستفيدون من الصيني.
فالأمريكان اليوم مذعورون، من مجابهة عدو لا يستخدم سلاحاً عسكرياً ضدهم، وإنما يحتضن شركاتهم ومستثمريهم ويغزو بها، أسواقهم ومصارفهم، ليجعلهم دولة مدينة له، بحيث تجاوز الدين الحكومي الأمريكي للصين مؤخراً، العام الماضي أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، حتى بات حال الأمريكي في صراعه مع الصيني، أشبه بالمثل العربي الذي يقول: كالطّاعن نفسه ليقتل رِدفَه، بعبارة أخرى: أي ليقتل الجالس خلفه على الحصان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت