- بقلم : تيسير خالد
لو عاد بي الزمن الى الوراء ، لاخترت لدراستي الجامعية في ألمانيا الاتحادية علم التاريخ القديم وعلم الآثار ، بدل العلوم السياسية والتاريخ الحديث والقانون الدولي . يدفعني لذلك هذه الهستيريا ، التي تجتاح أوساطا سياسية واسعة في اسرائيل بدءا بحزب الصهيونية الدينية برئاسة بتسلئيل سموتريتش ، مرورا بحزب القوة اليهودية برئاسة ايتمار بن غفير وانتهاء بحزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو . هذه الهستيريا ليست وليدة اليوم ، فقد كانت كامنة في ما يسمى وثيقة استقلال هذه الدولة ، التي جاءت الى هذه المنطقة محمولة على جناح وعد بلفور ، لا على جناح وعد إلهي .
هي هستيريا البحث عن تاريخ دون سند تاريخي . هذا هو حال بنيامين نتنياهو ، كما هو حال بتسلئيل سموتريتش وغيرهما كثير . يجدر التنويه هنا أن خلافا جوهريا يدور في إسرائيل على هذا الصعيد بين مدرستين : الأولى تقرأ أسفار التوراة وتجري حفريات على أساس ذلك في طول هذه البلاد وعرضها من أجل إثبات صحة أساطيرها ، والثانية تجري الحفريات ، وتعود بعدها إلى أسفار التوراة لتنقض تلك الأساطير .
مملكة بنيامين نتنياهو تذهب بعيدا في التاريخ ، الى ما قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة كما يزعم ، وكذا هو الحال عند بتسلئيل سموتريتش ، أما دولة اسرائيل الجديدة فهي عودة الروح الى تلك المملكة . هكذا كان الأمر على كل حال في إعلان استقلال هذه الدولة عام 1948 ، فقد بعثت اسرائيل في ذلك العام من جديد . هي مملكة شاؤؤل وداوود وسليمان تبعث من جديد . فما هي حكاية تلك المملكة .
في البداية لم يكن " بنو اسرائيل " ، وتحديدا المؤسسة الكهنوتية من المتحمسين لفكرة الحكم في دولة أو مملكة ، وقد أصيب النبي صموئيل ، أعظم انبيائهم ، بخيبة أمل كبيرة عندما وضعته تلك القبائل الرعوية من " بني اسرائيل " أمام أحد خيارين ، إما المملكة ، كما هو حال الشعوب المجاورة أو تحمل تبعات البقاء في شقاء العيش والخضوع للممالك المجاورة ، وهي في تلك الحال ممالك كنعانية . ولم يكن أمام صموئيل سوى الرضوخ لرغبة تلك القبائل ، ليقع اختياره على شاؤؤل ويمسحه ملكا على " بني اسرائيل " . الصدفة هي التي لعبت دورا في ذلك ، لم يكن صموئيل على معرفة سابقة بذلك الراعي ، الذي خرج يبحث عن أتن ( حمير ) أبيه ، التي ضاعت وضلت الطريق . كان ذلك الراعي هو شاؤؤل نفسه ، فتى طويل القامة ، أطول من بني جلدنه بمقدار الرأس ، وسيم للغاية ، أعجب به صموئيل ومسحه دون سابق معرفة ملكا على اسرائيل . شاؤؤل هذا لم يبن مملكة ، إذ سرعان ما انشغل في صراع مع المؤسسة الكهنوتية ، لا لشيء إلا لأنه قدم بنفسه الذبيحة قبل خروجه لقتال الفلسطينيين ، ما أثار حفيظة وغضب صموئيل . هي في اختصار قصة الصراع المعروفة في التاريخ بين الدنيوي واللاهوتي . غضب صموئيل تحول الى البحث عن ملك بديل أكثر استعدادا لطاعة المؤسسة الكهنوتية ، فوقع خياره على داود ، ليصبح شاؤول في مأزق كبير ، خاصة بعد ان علم بأن صموئيل مسح داود سرا ملكا على " بني اسرائيل " . شاؤؤل هذا هو صنيعة النبي صموئيل لا أكثر ولا أقل ، كان حظه عاثرا ، وقد تنبأ له ذلك النبي بمصير بائس ، فقد عاش بين مطرقة صموئيل وسندان هواجسه من داوود ، لم يبن مملكة وقتل وولديه في معركة مع الفلسطينيين .
قصة داوود أكثر تعقيدا . فقد كان داوود شخصية إشكالية من البداية وحتى النهاية . فقبل مسحه ملكا على اسرائيل كان داوود حسب الروايات مجرد واحد من ابناء ثمانية لرجل من سبط يهودا من بيت لحم ، كان كراع لخراف أبيه يجيد العزف على القيثار ، ولمع نجمه في القصة المشوقة المعروفة ، فصة داوود وجوليات . كان جوليات فارسا فلسطينيا عملاقا ، وقف في أحدى معاركه مع " بني اسرائيل " يتحدى شاؤول وقادة جيشه للمبارزة على امتداد اربعين يوما دون ان يبرز إليه أحد ، حتى جاء داوود وكان ما كان من شأن اسطورة داوود وجوليات . غير أن الاسطورة تلك تنطوي على تناقض ما زال ينتظر الحل . ففي كتاب الملوك الأول يجري الحديث عن داوود باعتباره قاتل جوليات ، ولكن كتاب الملوك الثاني ينقض الرواية ويقرر أن إلحانان ، الذي من بيت لحم ، هو قاتل جوليات . هذا التناقض جرى حله من خلال الاستعانة بنصوص ماري ، ففي تلك النصوص يظهر داوود كلقب أو صفة وهو بهذا المعنى يعني القائد ، وهكذا حل علماء التوراة ذلك التناقض واعتبروا داوود ( الصفة ) والحانان شخصا واحدا وأطلقوا على إلحانان اسم داوود تقديرا له على بسالته . غير ان التناقض في اسطورة داوود وجوليات لم يقف عند هذه الحدود ، لأن الاسطورة تقرر كذلك ان داوود / إلحانان ، وفقا للإصحاح السابع عشر من سقر صموئيل الأول ، نقل رأس جوليات الى اورشاليم ، التي كانت لليبوسيين دون غيرهم ولا وجود فيها لأي من " بني اسرائيل " أو لشاؤول وأتباعه .
كان داوود قبل ان يصبح ملكا زعيما لعصابة تضم في صفوفها ستمائة من قطاع الطرق ، وكان مطاردا من الملك شاؤول وكثيرا ما كان يلجأ الى الفلسطينيين يطلب الحماية ، وقد منحه الفلسطينيون ذلك وفقا لأسفار الملوك . وعندما حل ملكا بعد مصير شاؤول المأساوي ، كان داود أيضا طريدا عبر الاردن لابنه أبشالوم ، الذي اغتصب السلطة من أبيه . لم تكن بداية ملكه توحي بالاستقرار ، الذي يسمح له ببناء مملكة قادرة على شن الحروب والتوسع في انتصارات على الممالك المجاورة وتأسيس امبراطورية . وما جاء في رواية سفر صموئيل وسفر الملوك الأول بشأن تلك لإمبراطورية ، التي امتدت من النيل الى الفـرات لم يكن له وجود من الأساس
ولكن ما هو مصدر اسطورة تلك الامبراطورية . كثير من علماء التاريخ يؤكدون أن الاسطورة هذه هي استعارة من كتابات مصرية حول حروب " تحتمس الثالث " وانتصاراته على تحالف الممالك في آرام ومؤاب وآدوم وكنعان ، التي تنادت لصد التوسع الفرعوني في هذه البلاد وصولا الى ما بين النهرين ، والذي بنى إمبراطورية مصرية امتدت فعلا من النيل الى الفرات وهي حروب وانتصارات منقوشة بتفاصيلها على جدران معبد الكرنك . الرواية التوراتية عن امبراطورية داوود جاءت على شكل استعارة دون تعديل تقريبا فظهرت عارية . الى ذلك يشير سفر صموئيل الثاني في الاصحاحين الثامن والعاشر ، فهما مقتبسان بالكامل من حروب ذلك الفرعون .
وعلى كل حال فإن عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فنكلشتاين ، من جامعة تل أبيب ، يذهب أبعد من ذلك . فهو ينفي في تقرير له ، نشرته مجلَّة جيروساليم ريبورت الإسرائيلية في الخامس من آب عام 2011 ، أي شاهِد إثبات تاريخي ، على وجود داود ؛ المَلِك المحارِب ؛ الذي اتَّخَذَ من القدس عاصمة له ، ويؤكد أن شخصية داود ، كزعيم يحظى بتكريم كبير وحد مملكتي يهودا واسرائيل ليس غير وهم وخيال ولم يكن له وجود حقيقي .
وفي الخاتمة يذكرني بنيامين نتنياهو ، ومثله ذلك الفاشي الأرعن بتسلئيل سنوتريتش ، بتلك القطعة النقدية التي أوقعت بنيامين نتنياهو في الحرج نهاية آب 2017 ، بعد أن نشر صورتها على صفحته على فيسبوك مدعيا أنها اكتشاف مثير ودليل آخر على الارتباط العميق بين شعب إسرائيل وبلاده القدس والهيكل والمستوطنات ويهودا والسامرة وأنها تعود إلى أيام الهيكل الثاني قبل ألفي عام ، ليتبين سريعا فيما بعد أن القطعة ما هي إلا تذكار للأطفال صكت بمبادرة من متحف إسرائيل قبل حوالي 15 عاما من ذلك التاريخ . قصة مملكة داود هي كقصة تلك القطعة النقدية .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت