" أبو عمار " رجل الحرب والسلام

بقلم: فاضل المناصفة

فاضل المناصفة.jpg
  • فاضل المناصفة

بالكوفية ذات المربعات والزي الأخضر الزيتي العسكري وبالابتسامة الصادقة التي تحمل في تفاصيلها نبل الأخلاق وصفاء القلب، تتجسد صورة القائد الخالد ياسر عرفات الذي دافع عن قضية الفلسطينيين ببندقية القتال وبغصن الزيتون، الى أن فارق الحياة التي وهبها للكفاح من أجل تحرير الأرض، بعد معاناة مع مرض مرير لاتزال نقاط الاستفهام واشارات الاتهام تدور حوله، واستحق بذلك لقب تشي جيفارا العرب رغم اختلاف أساليب التصفية لكلا الزعيمين.

كانت نكبة 1948 عاملا مهما في تكوين شخصية ياسر عرفات الثورية، واقتناعا منه بضرورة أن يأخذ الشعب الفلسطيني مصيره بنفسه فقد وهب نفسه لخدمة قضية شعبه، ورغم الاختلاف الأيديولوجي مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية الا أن ذلك لم يكن مانعا في أن يشاركها النضال ضد الانجليز لكن دون أن ينضم إلى صفوفها، وقد قاده تميزه وقوة شخصيته الى رئاسة اتحاد الطلبة الفلسطينيين عام 1952، وكان من أوائل المؤسسين للتعبئة السياسية الفلسطينية وفي عام 1959 أسس في الكويت حركة التحرير الفلسطينية التي كانت بيت جميع المقاومين وانضوت تحتها العديد من المنظمات الفلسطينية .

في سن الأربعين، أصبح " أبو عمار " رئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية ووسع الكفاح المسلح ضد إسرائيل، الذي بدأ بتشكل الكوماندوس عام 1965، منحته إرادته السياسية وشجاعته الجسدية المعترف بها بالإجماع الفرصة لنجاة من كارثة "أيلول الأسود 1970 " في الأردن والتي فتحت له طريق التغريبة إلى بيروت ميدان المواجهة العسكرية المباشرة ضد جيش شارون مع اجتياح لبنان عام 1982 وانتهت تلك الاحداث بتغريبة ثالثة الى تونس التي خيرها القائد عن الإقامة في دمشق استشعارا منه لخطر الهيمنة السورية التي كانت ستقع من حافظ الأسد على الفصائل الفلسطينية  .

قطع ياسر عرفات شوطا طويلا في معركة الكفاح المسلح ضد المحتل إلى أن قاد بنفسه مرحلة التحول العميق سياسة منظمة التحرير الفلسطينية، وإدراكًا منه بأن العمل العربي المشترك في خدمة القضية الفلسطينية قد أصبح سرابا ولم يتبقى منه سوى الخطاب السياسي الداعم والذي لا يقدم ولا يؤخر شيئا في الحقيقة،

 من هنا انتقل عرفات من منطق الكفاح المسلح إلى الممارسة الدقيقة لعملية السلام. بعد فترة عصيبة شهدتها القضية الفلسطينية على الصعيد السياسي وما اسفرته الانتفاضة الأولى عام 1987 من جديد، جاء التغيير الكبير الذي أعلن عنه المجلس الوطني الفلسطيني بقيادة عرفات في الجزائر العاصمة، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1988. بعد موافقة القيادة الرسمية الفلسطينية على التفاوض على أساس القرارات الأممية 181 242 و338 وانتخب  " أبوعمار " رئيسًا للدولة الفلسطينية وأصبح بذلك المحاور الشرعي الفلسطيني في عملية السلام بمدريد.

ياسر عرفات الذي تحصل على جائزة نوبل للسلام لجهوده في تعزيز السلام في هذه المنطقة، كان أيضا بالنسبة للفلسطينيين زعيما ثوريا بعد أن حارب لأكثر من نصف قرن من أجل قضية عملت إسرائيل بكل قوتها على دفنها، وحمل اسم فلسطين على الساحة الدولية وكان رجل الاجماع الشعبي في فلسطين، ورغم سهام الانتقادات التي طالته قبل وبعد وفاته الا أنها لم تتمكن من نزع الصورة النمطية التي تميز بها " أبو عمار " في أوساط الفلسطينيين كزعيم ثائر مد يده لسلام الشجعان لا الجبناء.

عرفات الذي عرفناه شجاعا في الحرب كان كذلك في السلم مع حصاره في رام الله الذي دام لثلاث سنوات، لم تنل إسرائيل بكل جبروتها وقوتها العسكرية منه ولم تجبره بعد كل ما فعلت من تضييق على التراجع والاستسلام بل انها مكنتنا من معرفة رجل من طينة الكبار لم تثنيه الظروف العصيبة على قيادة شعبه وعلى مدهم بموجات الحماس والعزيمة التي لا تقهر حتى تحت أضواء الشموع وعلى وقع طلقات الرصاص.

اعترف المراقبون والصحفيون حول العالم على الموهبة السياسية لعرفات الذي نجح في تغيير العقليات ونظرة الغربين للصراع في الشرق الأوسط، بعد أن نجحت إسرائيل في اقناع الغرب بأنها تقود حربا للبقاء وبأن العرب والفلسطينيين المحيطين بها هم فدائيون بربريون وإرهابيون، كانت يد عرفات الممدودة للسلام كافية لتبين للمجتمع الدولي بأن المشكلة في صراع الشرق الأوسط لا تكمن في الفلسطينيين بقدر ما هي في نوايا الإسرائيليين.

"الختيار" وهي تسمية أطلقها الفلسطينيون على " أبو عمار " لتجسد في معناها " رمزبة الأب " كان صاحب كاريزما قيادية جذابة وشخصية تبهر كل من يتعرف عليه من قريب أو بعيد، فحيثما يُذكر "ياسر عرفات" تُذكر معه القضية الفلسطينية؛ وقدوة للزعامة الفلسطينية، لقد كان أبو عمار زعيما متفردا في صفاته القيادية والانسانية: يلاطف الأطفال بحنان "الأبوة الجارف" ويقبّل أيادي الصغار والكبار لمواساتهم في كربهم، ويطبع قبلة دمع على جبين الشهداء والثوّار، ويحوز على شعبية جارفة داخل وخارج حدود وطنه الحلم. فهذا القائد -بلا شك-هو زعيم الثورة "الجبل" الذي لم تهزه الرياح، وقائد الدولة "البطل" الذي لم ينحني إلا لله سبحانه وتعالى.

رحم الله قائد السفينة الفلسطينية " أبو عمار "

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت