المشاركة والسلوك السياسي في المجتمع الفلسطيني دراسة اجتماعية في أجزاء: الجزء الثالث: صنع القرار:

بقلم: أسامة خليفة

أسامة خليفة.jpg
  • أسامة خليفة
  • باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»

المشاركة والسلوك السياسي في المجتمع الفلسطيني

دراسة اجتماعية في أجزاء: الجزء الثالث: صنع القرار:

                                  

السلوك المشارك هو فعل عقلاني طوعي يرتبط بهدف أو قيمة ما، ويمكن اعتبار مجموعة قيم نموذجاً مثالياً تشكل بمجموعها شخصية نموذجية للإنسان المشارك بفعالية في النضال الوطني، إذ تعتبر القيم قوة داخلية دافعة للسلوك، تجسيد القيم على شكل سلوك مادي ( فعل) هو الذي يؤكد أهميته وارتباطه بالمشاركة الفعلية المجدية.

السلوك من أهم محددات المشاركة، لأن المشاركة ما هي إلا السلوك الفردي في ارتباطه مع قضايا الجماعة، فعلى مستوى التحليل الفردي، يقتضي تناول أي سلوك الأخذ بالاعتبار بقرارين:

  • قرار القيام بالفعل.
  • قرار عدم القيام بالفعل.    

في الأول، يقرر أيضاً وجهة الفعل، ومجال المشاركة، وتكون قرارات الفعل مصحوبة بقرار ثالث حول شدة الفعل، استمرارية الفعل، ثورية الفعل، فربما تكون الفعالية متوسطة أو قوية، وربما تكون حالة وحيدة أو متكررة.

ميزت دراسة ميدانية -جرت ما بين ( تشرين 1988- آذار 1989) بعنوان «الانتفاضة والطفل الفلسطيني» شملت 720 طفلاً تتراوح أعمارهم ما بين (9-16 سنة)، أعد لها سهى هندية وفريال خليفة- بين حدين من الانخراط في المواجهات مع جيش الاحتلال بدرجات متفاوتة تتراوح ما بين بسيطة وعنيفة، المواجهة البسيطة تلك التي تميزت بالمشاركة في مسيرة أو مظاهرة لمرة واحدة أو مرتين، ونتج عنها استنشاق غاز، أما المشاركة العنيفة هي حالة الانخراط بشكل مستمر أو متعدد في مواجهة الجيش، كما تشمل حالات المواجهة مع الجيش سواء كانت مظاهرة أم مسيرة، والتي نتج عنها إما الضرب أو الاعتقال أو الإصابة بالرصاص، وهذا ينطبق على حالات الضرب التي حصلت داخل بيوت هؤلاء الأطفال دون نزولهم إلى الشارع للمواجهة، في هذه الحالة الأخيرة نتساءل عن قرار المشاركة، وهذا السؤال يصح أيضاً في حالة الإصابة بالشارع بشكل عرضي أو بالمصادفة، عدد لابأس بها من الإصابات وقعت في الشارع ولم تكن حالات مشاركة في أعمال الانتفاضة، تواجدوا في الشارع بالمصادفة، ولم يكن لديهم القرار في الانخراط في المواجهات، وهذا يدل على نوايا القتل لدى جنود الاحتلال الذين يوجهون سلاحهم ضد كل ما هو فلسطيني سواء واجههم أم لم يواجههم، ومع كل الاحترام والتقدير للإعلامية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي استشهدت برصاص جنود الاحتلال، لم تكن في مواجهة مباشرة مع هؤلاء الجنود المجرمين، ولا أنفي أن القيام بواجبها الإعلامي له دور وطني في فضح ممارسات الاحتلال العدوانية.

اتخاذ القرار خطوة منطقية في المشاركة عن سابق إصرار قبل محاولة التنفيذ الفعلي، أغلبية المشاركين يكون لهم مثل هذا القرار، صنع القرارات تحتاج إلى امتلاك المهارة التي تعبر عن شخصية فردية قوية للشاب، لأنها تطوّر القدرة الإبداعية، كما تقوي من مشاعر الاستقلالية لديهم، إذ تتضمن عملية اتخاذ القرارات أيضاً القدرة على التخطيط المستقبلي، ومعالجة إمكانات بديلة متصورة في الذهن، مستفيداً من خبرات الماضي، مضيفاً إليها عناصر جديدة متخيلة، يملك أغلب المراهقين من الفئة العمرية (14-16 سنة)، تصوراً عن مستقبل وطنهم، يستمدونه من المعلم في المدرسة، أو من الأب في الأسرة، وإذا سؤل أحدهم عن مستقبله الشخصي نجد أن كثيراً منها صاغها الآباء، دون أن يكون للناشئ رأي فيها.

من المؤكد أن الطفل لا يستطيع توجيه سلوكه بالصورة الصحيحة بل يجب أن تفرض عليه تحديدات وقواعد معينة، كما لا بد من إعطائه بعض الحرية في اتخاذ القرارات في قضايا تخصه، مثل اختيار ملابسه، حتى ننمي لديه مفهوم تقرير المصير، لتعويده على صياغة قراراته من تلقاء نفسه، إن بعض السلطة ضروري على الأطفال والمراهقين، وخاصة إذا لم يثبتوا أنهم جديرون بمنحهم الاستقلالية، لكن أنصار السلطة الأبوية، يرون أن منح الاستقلالية للمراهق يؤدي إلى الفوضى، ولو سلمنا بذلك، وقارنّا بين فوضى محدودة، مع الخضوع المطلق للسلطة، وتحويل الشاب إلى أداة لتنفيذ الأوامر، أي شباب مقولب لا يعرف روح القرار الذاتي أو معنى الاختيار، الذي هو أساس الحياة الخلقية عند الإنسان، سوف نجد أن الفوضى المحدودة هذه ضرورة لوضع الشاب في تجارب تنمي شخصيته وإن زل مرة وأصاب في أخرى.

في هذا السياق يلح السؤال: هل في منظماتنا السياسية سلطة أبوية؟. هل حقيقي أن تصدر حالات شابة وشغلهم لمراتب تنظيمية أعلى يعني إسهامهم في صناعة القرارات السياسية والتنظيمية؟. هل القرار يصنع مسبقاً في المطابخ السياسية ثم في المؤتمرات يطلب الموافقة، فترتفع الأيادي كتحصيل حاصل؟.

طالما شكلت العائلة الأساس الرئيسي في النظام الأبوي، لكن ما ينذر بنهاية النظام الأبوي تراجع شكل العائلة الممتدة، وظهور شكل العائلة النواة الصغيرة، وبقدر ما تنمو الاستقلالية الاقتصادية للأبناء، تتقلص السلطة الأبوية، إذ أن المال والتحكم بطريقة صرفه أحد أهم أسس السلطة الأبوية سواء في الأسرة أم في المجتمع، فيمنع المال عن المعارض أو يشح، بينما يغدق بوفرة على المؤيد لها، وهذا يلاحظ في صرف مخصصات الفصائل المنضوية تحت إطار «م.ت.ف.» من الصندوق القومي الفلسطيني. 

في العائلة الممتدة ونتيجة لسيادة السلطة الأبوية، التي تعنى بالضبط الاجتماعي بالطاعة حيناً وبالإكراه حيناً، يصنع الآباء القرارات في كل المسائل التي تتعلق بأفراد أسرتهم، ولا سيما الإناث منهم، حيث قضية" المرأة هي قضية مركزية في المجتمعات العربية الأبوية، وقد تكون الطاعة نتيجة الخوف أكثر مما هي نتيجة الحب والاحترام. وذلك لا يؤثر على الروابط الأسرية في العائلة العربية التي تمتاز بالوحدة والتماسك بين أعضائها، وخاصة عند التعرض للازمات والتهديدات، والأسرة الفلسطينية في الأزمات التي يخلقها الاحتلال وسياساته القمعية تواجه الظروف الصعبة متماسكة متعاونة.

رغم هذه الظروف، ورغم التطورات الحضارية التي تلح على بناء الشخصية المستقلة القادرة على صوغ قراراتها الخاصة بنفسها، ما يزال الأب التقليدي متمسكاً بدوره السلطوي فعندما يكون الفرد إيجابياً في سلوكه السياسي يستطيع أن يقرر نوع مشاركته السياسية، أو حتى في حال قرر عدم المشاركة في حدث سياسي ما، تكون اختياراته لصيقة بمواقفه الشخصية، بعض المواقف التي ترتبط بقرارات العائلة أدت إلى تصنيف عائلة على أنها فتحاوية وعائلة أخرى أنها حمساوية... إلخ، فهل يؤثر انتساب الأب إلى تنظيم سياسي على قرار الابن على الانتساب إلى ذات التنظيم بحكم الطاعة لا القناعة الشخصية؟. هل هناك انتساب جماعي عائلي يشكل تكتلاً يرأسه كبير العائلة؟.

لا يستغرب أحد امتداد السلطة الأبوية إلى المنظمات السياسية الفلسطينية بل إلى أعلى الهيئات والمجالس الفلسطينية، التفرد بالسلطة واتخاذ القرار بعيداً عن الشكل الديمقراطي لصياغة القرارات هو نموذج للسلطة الأبوية، والسلطة الأبوية المسيطرة على تنفيذ القرارات تتجاهل أو تعطل قرارات وطنية اتخذت بالشكل الديمقراطي من قبل هيئة تمثيلية، أو مندوب للحوار السياسي يفترض أنه يمتلك صلاحية معينة لعقد اتفاق مع آخرين، يوبخ من قبل السلطة الأبوية التي تنسخ في لحظة واحدة كل ما اتفق عليه الإطار الوطني المتحاور، هذا ما حصل في الحوار الفلسطيني قبل انعقاد القمة العربية الـ31 في الجزائر 01‏/11‏/2022.

تناول د. هشام الشرابي المجتمع الأبوي في العالم العربي بالتحليل والنقد، وقارنه بالمجتمعات الأبوية الأخرى في العالم وتوصل إلى أنه يختص بصفات فريدة، بحيث يمكن تعريفه كنمط عربي إسلامي، الأصولية الإسلامية هي الوريث الشرعي للنظام الأبوي المستحدث، وميز بين نمطين من النظام الأبوي: النظام الأبوي التقليدي أو القديم وهو النظام الذي رافق المرحلة الإقطاعية في أوروبا وما يماثلها في آسيا وإفريقيا، والنظام الأبوي الحديث أو "المستحدث"، وهو النظام الذي نشأ في العالم العربي ودول أخرى من العالم الثالث، إثر الاحتكاك بالحداثة الأوروبية بأفكارها وقيمها، التي اجتاح العالم بأسره، إلا أن حركة النهضة العربية قادت تحديثاً مشوّهاً وناقصاً في ظل هيمنة الغرب الاستعماري، هو خليط غير متجانس من القديم والحديث، والتراثي والمعاصر، يدّعي الأصالة والمعاصرة معاً، في حين أنه يبتعد عن الحداثة الصحيحة بعده عن الأصالة الحقيقية.

وحسب شرابي لم تستطع حركة النهضة العربية أن تدخل في الحداثة الحقيقية، ولا أن تتجاوز النظام الأبوي العربي، فأنتجت الأبوية المشرقية طبقة من المثقفين المزيّفين، والمشبعين بالفكر الأبوي المستحدّث، فرغم انهيار نمط العلاقات الإقطاعية العشائرية التي تقوم عليها السلطة الأبوية، إلا أن للقيم استقلالية نسبية سمحت لها بالاستمرار إلى وقتنا الحالي، ومازال مجتمعنا يحترم إلى حد التقديس آراء الكبار، ولو كان الشباب أكثر علماً وثقافة، وأصوب رأياً، ومازال القول الشعبي ( أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة) سائداً، وبعد النكبة وجدت طبقة عمالية لاجئة أصولها قروية ذات عقلية فلاحية ريفية لا تسمح للشباب بالمبادرة الشخصية، فالكبار يعتبرون الشبان ذوي خبرة حياتية ناقصة لذلك يحتاجون إلى من يصوغ القرارات بدلاً عنهم، وفي أحسن الأحوال إرشادهم ومساعدتهم في صنع القرار، أما طلب المشورة فهو أمر صحي، إذا كان يعني ترك الشاب يتخذ القرار لوحده بعد توضيح الأمور.

إن الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة ثورية حيوية عليها أن تفسح المجال أمام عملية نقدية وتفاعل حرّ ونقاش مستمر بين جميع الفئات والأحزاب والجماعات، ومختلف مؤسسات المجتمع المدني، لبحث قضايا السلطة الأبوية في الأسرة وفي المجتمع، ففي ظروفنا الراهنة تغدو أهمية وأولوية تكوين شخصية الشباب بصورة صحيحة لإطلاق طاقاتهم الخلاقة في التغيير وصنع المستقبل، فلا بد من تعبئتهم بالصورة المثلى، بالشباب السوي المتكامل الشخصية نصل إلى مشاركة صحيحة من خلال تنمية قدراتهم وتطوير مهاراتهم في التخطيط المستقبلي وصنع القرارات.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت