ناقشن ندوة اليوم السّابع الثّقاقيّة الأسبوعيّة المقدسيّة رواية "المهطوان" للأديب الأردني رمضان الرّواشدة، صدرت الرّواية عام 2022 عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ويزيّن غلافها الأوّل لوحة للفنّان التشكيلي ياسر وريكات، وتقع في 108 صفحات من الحجم المتوسّط.
والأديب الرواشدة روائيّ وقاصّ معروف، صدر له عدد من الرّوايات والمجموعات القصصيّة، وحائز على عدّة جوائز أدبيّة مرموقة.
افتتحت النّقاش مديرة الندوة ديمة جمعة السمان فقالت:
يعود لنا الروائي الأردني رمضان الرواشدة بروايته الجديدة هذه التي تحمل رؤيته وعلاقاته ومعايشته لأحداث تمتدّ من الأردن إلى فلسطين، في فترة ما بين انتفاضة الحجر الفلسطينية واتفاقية أوسلو، تعكس الواقع السياسي ممزوجا بالعاطفة التي أضفت على الرّواية مشاعر إنسانية أثرت الرواية، وحققت الهدف، وأكدت على أن ّالارتباط الروحي بين الشعبين الأردني والفلسطيني مسيحيين ومسلمين كبير من الصعب فصله، فهما شعب واحد، يتشارك في ذات الهم، وما النهر الذي ينام بين الدولتين سوى جسر محبّة يصل بين الشعبين، ولن يكون فاصلا أبدا، كما ذكر في إحدى رواياته التي عنونها:" النهر لن يفصلني عنك".
من يقرأ روايات الأديب الرواشدة لا يحتاج إلى ذكاء ليعرف أنه عربي قومي وطني، يحمل همّ الوطن الأكبر. يطرح قضاياه بجرأة تحمل صدقا ينبع من إيمانه يضرورة الوحدة الوطنية التي تؤرقه وتستنزف قلمه ليوصل صرخته.. ولكن: "لقد أسمعت لو ناديت حيّا".
رواية عميقة تحتاج إلى أكثر من قراءة واحدة؛ لتستدل على معانيها ورموزها الخفيّة التي تكمن بين سطورها.
حملت الرواية رسائل غير مباشرة من خلال السرد لوقائع حقيقية مغموسة بخيال واقعي، أضفى على الرواية عنصر التشويق، جمعت بين السياسة والحب.
فلم يتمّ الجمع بين صورتي جيفارا وصوفي مارسو فاتنة السينما الفرنسية على حائط واحد في غرفة عودة الملقب بالمهطوان عبثا.
وما جاء الارتباط العاطفي للكركي الأردني عودة بسلمى المسيحية الفلسطينية من رام الله إلا عن قصد.
رواية سياسية حتى النخاع، تناولت فترة في غاية الأهمية في الأردن، تمّت صياغتها بأسلوب أنيق بعيد عن الأسلوب التقريري الصحفي الذي يقع في مصيدته العديد من الروائيين -حين يعرّجون على الواقع السياسي في مرحلة معينة، يتناولها عملهم الأدبيّ- على الرّغم من أنه كان إعلاميا متميّزا، مارس عمله لسنوات عديدة، ولكنه استطاع الفصل بين الأسلوبين، وأتقن الدّورين بامتياز.
اصطحب الرواشدة القارىء إلى أماكن عديدة في مدن الأردن وقراها، إذ وصف الأماكن بدقّة، من خلال تقنية الاسترجاع (الفلاش باك)، فترك البطل يتحدث عن طفولته البائسة التي عاشها في بيئته البسيطة مع أمّه.. وطاسة الرّعبة التي كانت في بيت جدّه...الخ. كما حدّثنا عن والده الذي تم اختياره من قبل (غلوب باشا) القائد الإنجليزي للجيش؛ ليكون في كتيبة الدرك، لأنه كان فارع الطول، وكانوا يسمونه المارد.
لم تقتصر الرواية على البعد السياسي والاجتماعي الإنساني، بل تم توظيف التراث من خلال القصائد الشعبية، وبعض العادات والتقاليد، والمفردات التي كانت سائدة في في تلك الفترة.
وعلى الرغم من أن النهاية لم تكن سعيدة بسبب موت البطل – الراوي- " المهطوان" دون أن يلتقي بحبيبته سلمى، وابنه نضال الذي أصبح شابا، إلا أن الكاتب فاجأنا بتكملة الرواية بقلم شاعر الجامعة، الكاتب غسان الحوراني، وقد كانت لفتة ذكية من الكاتب، بأن استعان بغسان وجعله إحدى شخوص روايته، وصديقا للمهطوان، وبالتالي كان على علم بظروف وتفاصيل حياة عودة، فأكمل الأحداث بسلاسة، لدرجة أنّها بدت وكأنّها حقيقية، وليست من خيال الكاتب. وهذا في صالح العمل الروائي.
رواية رمزيّة قوية عميقة، عكست توجّه الكاتب وثقافته الإنسانية والسياسية الوطنية، بأسلوب شيّق، تعتبر إضافة نوعيّة للمكتبة العربية.
وقال جميل السّلحوت:
توقّفت أمام هذه الرّواية كثيرا وأنا أفكّر وأتأمّل وأتساءل، وتمنّيت لو أنّني حصلت على نسخة ورقيّة منها، لأقلّب صفحاتها، وأضع ملاحظاتي عليها، فالقراءة الإلكترونيّة لا تشفي الغليل، ولا تحقن القارئ بالمتعة التي يجدها في الكتاب الورقيّ، ولا تتيح له العودة لاقتباس ما أثار دهشته إن إيجابا أو سلبا في النّصّ المقروء.
ومن باب التّأكيد على مقولة " أنّ الكتاب عندما يصدر يصبح ملكا للقارئ"، أيّ أنّه يفهمه حسب ثقافته ووعيه، وقد يأتي بأشياء لم تخطر على بال وخاطر المؤلّف، ومعروف أنّ أفضل الأعمال الإبداعيّة هي ما تثير الاختلافات بين القرّاء خصوصا الجادّين منهم. وبهذا فإنّني سأستغلّ هذا الحقّ لتدوين ملاحظاتي حول هذه الرّواية.
ومن ملاحظاتي على هذه الرّواية أنّها تؤكّد على بدهيّة العلاقة التي لا تنفصم بين الأردنّ وفلسطين، فهما توأمان سياميّان لا ينفصلان، وبين الشّعبين الشّقيقين المرتبطين بمصير واحد، فعودة بطل الرّواية الرّئيس، ابن قرية "راكين" في قضاء مدينة الكرك الأردنيّة، عاش في حيفا، وعاد إلى قريته "راكين، وربطته علاقة حبّ بسلمى، ابنة مدينة رام الله التي تعود في أصولها إلى إحدى قرى الشّوبك جنوب الأردنّ، أثناء دراستهما في الجامعة الأردنيّة. وعودة الذي يحمل فكرا يساريّا من أتباع الدّيانة الإسلاميّة، في حين أنّ سلمى مسيحيّة الدّيانة، وفي هذا إشارة ذكيّة من الكاتب إلى الإخوّة الإسلاميّة المسيحيّة بين أبناء الشّعب الواحد.
تتطرّق الرّواية بطريقة غير مباشرة إلى بدايات الحراك السّياسيّ في الأردنّ في خمسينات القرن العشرين، وظهور الأحزاب السّياسيّة في الأردنّ، وكيف تمّ اعتقال والد عودة وزجّه في معتقل الجفر الصّحراويّ -مع أنّه كان رجل أمن-؛ لأنّه قال "لا"، وفي هذا إشارة غير مباشرة لاعتقال الحزبيّين من شيوعيّين وبعثيّين وقوميّين في العام 1957. كما تذكّر الرّواية بهزيمة حزيران 1967، وما تبعها من نصر في معركة الكرامة في 21 أوجست 1968، وحرب اكتوبر 1973.
ومع تردّي الأوضاع في السّياسة والإنتماء القوميّ في العالم العربيّ بعد هزيمة العام 1967، إلّا أنّ هذا لم يمنع الشّعب الأردنيّ وطلائعه الثّوريّة من النّضال في سبيل تحرير فلسطين، التي تمثّل قضيّة العرب الأولى، فدماء شهداء الجيش العربيّ الأردنيّ تروي التّراب الفلسطينيّ في القدس، واللطرون وجنين وغيرها، كما أنّ هناك الكثير من الأردنيّين الذين التحقوا بالثّورة الفلسطينيّة وارتقوا سلّم المجد شهداء. والشّعب الأردنيّ لم يتوان لحظة واحدة في المشاركة في قضايا الأمّة العربيّة وفي سبيل قضيّة فلسطين العادلة، فقد تظاهر احتجاجا على العدوان الإسرائيليّ غلى لبنان عام 1982، وعام 2006 وغيرها، كما تظاهر احتجاجا على العدوان الأطلسيّ على العراق عام 2003 واحتلاله وهدم دولته.
لكنّني توقّفت كثيرا أمام علاقة عودة وسلمى، وحَمْل سلمى من عودة وعودتها إلى رام الله، حيث أنجبت ابنها نضال الذي لم يره أبوه ولم يلتقه، فما المقصود من ذلك؟ فهل أراد الكاتب أن يوصل فكرة انتقال النضّال ضدّ المحتلّ من السّاحات العربيّة إلى الأرض الفلسطينيّة المحتلّة؟ وإذا كان الأمر كذلك فإنّ هذا يعني أنّ الشّعب الأردنيّ لم يتخلّ عن دوره الكفاحيّ، فنضال نصفه أردني ونصفه الثّاني فلسطينيّ، وتسميته "نضال" ليست عفويّة. وكذلك "عودة" وأيضا "سلمى" التي ترمز إلى الأرض.
المهطوان: كلمة شعبيّة تعني طويل القامة، ضخم الجسد، طويل القدمين.
ملاحظة: لاحظت أنّ قصائد النّثر التي وردت في الرّواية وكانت طويلة، وعلى حساب البناء الرّوائي.
وتبقى الرّواية لافتة ومثيرة للجدل.
وكتبت د. روز اليوسف شعبان:
يروي عودة، الملقّب بالمهطوان لطوله الفارع وفخامة جثّته ومقاس رجله الفخم، سيرته الحافلة بالنضال، والعذاب والحب والألم والفقدان. وعودة من حيّ الكركية في قرية راكين، انتمى الى الحزب الشيوعي أثناء تعلمه في الجامعة الأردنيّة، وهناك تعرّف على حبيبته سلمى الفلسطينيّة المسيحيّة المولودة في رام الله. أثمر هذا الحبّ عن حمل سلمى، التي عانت من أهلها بسبب خطيئتها، وزوجوها من غيره رغما عنها.
شارك عودة في نضال الطلبة ومظاهرتهم ضد ارتفاع سعر الخبز، واعتصامهم في الجامعة، لكن قوات البادية اقتحمت حرم الجامعة وفرقت المعتصمين، ضربت الكثيرين واعتقلت الكثيرين، ومن بين المعتقلين كان عودة، الذي قضى في السجن سنوات ذاق فيها ألوان العذاب..
كما يأتي الراوي على ذكر مظاهرة الناس في عمان رفضا للاحتلال الامريكي للعراق. ومظاهرة أخرى بالكرك بسبب رفع أسعار الخبز، وقد انتهت هذه المظاهرة، بإطلاق الشرطة الرصاص على المتظاهرين وقتل بعضهم، وقتل الشيخ خليل الكركي الذي أحضر بندقيته للانتقام من الشرطة التي قتلت المتظاهرين، وبقيت جثته في الشارع، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منها، وقيل: إن أطباقا طائرة كانت تحوم حول المدينة انتشلت جثته ومضت بها بعيدا، وقيل أن ملائكة بثياب بيضاء هبطوا من السماء وزقوه الى العلى، وما زال الناس يتحدثون عنه الى الآن". ص 96.
يبين لنا عودة موقفه المناهض لمعاهدة السلام والتطبيع مع اسرائيل:" انتظمت في طابور الصباح الرياضي، بدأ أحد السجناء بالهتاف ونحن نركض ونردّد خلفه.. والله والله.. بدنا نحارب... من هالشارب بدنا نحارب. سألت أحدهم وكان يركض الى جانبي: "عن جد بدنا نحارب؟ بيكفي حرب يا جماعة خلونا نعيش". ثم نحارب من؟ فقد وقّعنا المعاهدة وزفّونا.. واللي كان كان". ص 97.
تنتهي الرواية بقرار عودة بالخروج من الحزب، وبموته بسبب المرض الخبيث دون أن يرى ابنه نضال، وقد عبّر عن ندمه الشديد؛ لأنه لم يبحث عن ابنه.
أسلوب السرد في الرواية:
- تميّز السرد "بالرؤية مع"، أو "الرؤية المصاحِبة": وهي رؤية سرديّة كثيرة الاستخدام، إذ يُعرض العالم التخييليّ من منظور ذاتيّ وداخليّ لشخصيّة روائيّة بِعينها، من دون أن يكون له وجود موضوعيّ ومحايد خارج وعيها. إنّ السارد في هذه الرؤية، على الرغم من كونه قد يعرف أكثر ممّا تعرفه الشخصيّات، إلّا أنّه لا يقدّم لنا أيّ تفسير للأحداث قبل أن تصل الشخصيّات ذاتها إليه. تُحكى الروايات التي من هذا النوع بضمير المتكلم، وبذلك تتطابق شخصيّة السارد مع الشخصيّة الروائيّة.( بوطيّب، 1993، ص. 72-73.). ويستخدم السرد في هذه الرؤية ضميرَي المتكلّم أو الغائب، مع المحافظة على تساوي المعرفة بين السارد والشخصيّة؛( شبيب 2013، ص 117).
كما تميّز السرد بتعدّد الرواة، فتارة يتولّى السرد عودة وهو الشخصيّة المركزية في الرواية، وتارة يكون السرد بضمير الغائب مع انتقال سريع بين الضميرين "المتكلم والغائب" كما في الأمثلة التالية: ذهبت للمجهول وما عاد رآها منذ تلك الأيام،(الغائب) ما مصيرها؟ آه لو أعرف! عشرون سنة مضت أكلت الجدران من لحمي خلال ثلاث منها وأصابني "الدسك" (المتكلم)ص 58.
مثال آخر:" تلك الليلة كان الصحب معه، لكنهم تركوه، تساءل إلى أين يمضون؟ غادر المكان أيضا وفي ذهنه خواطر كثيرة.. تذكّر "نضال"، كيف حاله وأين هو؟ " السارد بضمير الغائب". آه لو أعرف يا بنيّ أين أنت الآن.. سنوات طويلة محروم من رؤيتك منذ ولدت"" السارد بضمير المتكلّم". ص 58.
تميّز السرد أيضا باستخدام الكاتب تقنيّة الاسترجاع." والاسترجاع أو "الفلاش باك" ((Flash black هو مصطلح روائيّ حديث، يعني الرجوع بالذاكرة إلى الوراء البعيد أو القريب".( قاسم، 1984، ص. 54.). الأمثلة التالية تبين لنا الرجوع بالذاكرة الى الوراء البعيد.:" يا ليتني ما رأيت ذلك المشهد في قريتنا راكين.. كانت أختي العنود التي تصغرني تشطف" حوش" منزلنا عند مغيب يوم صيفيّ.. دخلت إحدى الغرف وما كادت تمدّ يدها إلى "كبسة" الكهرباء حتى قذفتها صاعقة مجهولة إلى الطرف المقابل للغرفة، صرخت فهببنا جميعنا باتجاه الصوت صرخت أمّي بي: اذهب واحضر "طاسة الرعبة" ص 23.
مثال آخر على الرجوع بالذاكرة الى البعيد:" أخذني أهلي إلى شيخ مغربي معمّر منذ ألف وأربعمائة عام، كان يسكن منطقة "المرج"، وأخبروه أن هذا الفتى لا يزداد وزنه أبدا، فهو نحيل الجسم، ضعيف البنية، قال أحدهم: إنّ أفعى ضخمة دخلت من فمي وهي نائمة في معدتي ومعتصمة في تجاويفي، وتأبى الخروج، وقد عجز حكماء القرية عن إخراجها". ص 26.
مثال على العودة بالذاكرة الى الماضي القريب:" قال لي غسان:" أريد أن أراك غدا الساعة العاشرة صباحا أمام مدرّج كلية الاقتصاد لأمر هام، فوعدته خيرا وفي الموعد المحدد حضرت. أخذني باتجاه المدرّج، وفي الطريق مدّ يده ودسّ شيئا ما في جيبي الأيسر، استغربت الأمر فقال لي: اقرأ هذا المنشور، وسألتقيك غدا؛ لأناقشك في الأمر. ص 34:" كان المنشور مرؤوسا باسم "طريق الشعب"، قرأته ومزّقته وألقيته في المرحاض. ومنذ ذلك الوقت نظمني غسان في الحزب وابتدأت رحلتي الطويلة المعذّبة". ص 35.
مظاهر الاغتراب في الرواية:
ظهر في الرواية الاغتراب الذاتي والسياسيّ في شخصيّة المطهوان بطل الرواية، والاغتراب الذاتيّ النفسانيّ هو افتقاد المغزى الذاتيّ والجوهريّ للعمل الذي يؤدّيه الإنسان، وما يصاحبه من شعور بالفخر والرضا، وبديهيّ أنّ اختفاء هذه المزايا من العمل الحديث يخلق، هو الآخر، شعورًا بالاغتراب عن النفس. "النوري، 1979، ص. 19". هذه هي الحالة التي يصبح فيها الشخص غير مدرِك، ببساطة، ما يشعر به حقيقة، وما يحبّه ويرفضه، وما يعتقده، وما هو عليه في الواقع.( شتا، 1984، ص. 167). أمّا الاغتراب السياسي فهو شعور الفرد بالعجز إزاء الاشتراك في اتّخاذ القرارات السياسيّة، وشعوره بعدم الرضا وعدم الارتياح تجاه القيادة السياسيّة، وبالتالي رغبته في الابتعاد عنها وعن التوجّهات السياسيّة الحكوميّة والنظام السياسيّ برمّته. وهو شعور الفرد بأنّه ليس جزءًا من العمليّة السياسيّة نفسها، وبأنّ صانعي القرارات السياسيّة لا يصنعون له اعتبارًا؛ بمعنى أنّ الفرد يشعر بعدم القدرة على التأثير في المجال السياسيّ؛ إذ هو عاجز عـن إصدار قرارات سياسيّة، وفاقد لمعايير تشكيل نظـام سياسيّ، وفـي المقابـل فإنّه غير مرتاح ولا يشعر بالانتماء لما هو عليه الوضع القائم.( زليخة، 2012، ص. 350).
في الأمثلة التالية نجد اغترابا ذاتيا لدى بطل الرواية:" أجوب المدائن أبحث عن ذاتي، أسأل الطرقات، أسأل الأشجار.. الشوارع.. الكنائس.. المساجد.. أجوب كل المدن القاتلة، كل الوجوه تطاردني، ويطاردني ظلي وقريني، أكتوي بالصلب المقدس.. بالنار وأعود غريبا كما بدأت فطوبى للغرباء طوبى للغرباء". ص 64-65.
مثال آخر:" لماذا يهجرني ليلي ويعتريني الدوار؟ لماذا يسافر قلبي ويضيع في أعالي البحار، أدور وأبحث في صمتي عن معنى للحبّ والنار. لماذا لا أملك في قلبي سوى حزني وأحلام النهار، متى سيكون الرحيل، متى سيكون الاحتضار؟ متى سيبدأ قلبي رحلة الإبحار؟ متى يا حلوة العينين أبدأ نهاية المشوار؟" ص 74-75.
من المثالين أعلاه نجد أن السارد يعاني من ضياع، يبحث عن ذاته المفقودة.
أمّا الاغتراب السياسي فيتضح لنا من خلال خروج عودة من الحزب:" فيقول:" لم أعد أنسجم كثيرا معهم، خاصة بعد أن طالب الرفيق الكبير بتحويلي الى لجنة تحقيق بسبب عدم التزامي بالتصويت للقائمة، التي شارك بها الحزب في رابطة الكًتّاب، لم أصوّت لأنني أعرف أن بعض المرشحين ليسوا من الكُتّاب". ص 92. ويذكر أيضا جملة تؤكد ندمه على ضياع عمره في الأحزاب فيقول:" أنا من ضيّع بالأحزاب عمره".ص98.
لقد بدت مظاهر الاغتراب في الرواية جليّةً في اللغة وفي أسلوب السرد، وذلك من خلال استخدام الكاتب لتيّار الوعي المتمثل بتقنيات الحداثة منها: الاسترجاع، تعدد الرواة، المناجاة، المونولوج، سيطرة الراوي بضمير المتكلّم (الأنا) واللغة الشعريّة. وقد أتينا على ذكر هذه التقنيات أعلاه. أمّا اللغة فقد تميّزت بالتناص وباستخدام الجمل القصيرة غير المتكاملة، والانتقال السريع من موضوع لآخر، كما تميّزت بالشعريّة المكثّفة والموحية؛ إذ تصطنع الجُمل القصار، وتحدث نوعًا من الإيقاع الموسيقيّ الذي يُحدِث عند المتلقّي ما يُعرف بالمتعة الفنّيّة.
من الأمثلة على استخدام الجمل القصيرة غير المتكاملة ما يلي: "فوجئت بهم هناك.. لم أتوقع.. لم ينسوني خلال هذه السنين، وها هم هنا أيضا.. نضال ما عاد ولا عادت أمه، وأنا الآن أختصر المسافة...
طويل جدا هذا الطريق... وهام أيضا هنا الكلّ متأنق.. بعضهم جالس والآخر واقف ولا شيء يعلو فوق صوتهم.. مفاجأة! أين نضال؟ تساءلت.. لم يجبني أحد غير قلبي، وصاح بكفي.. يكفي... قال كبيرهم: لا بدّ أنّه هو الذي علمهم، أمسكوه.. يا ألله.. وكان ما كان..". ص 71.
من خلال هذا المثال نجد الجمل المتقطعة، غير المترابطة، الانتقال من موضوع لآخر، وقد كتب عن ذلك بروفيسور غنايم(1991) الذي يرى:" أنّ رواية الحداثة، من ضمنها رواية التيّار، التي يعرّفها غنايم (1992) بأنّها نوع أدبيّ يوظّف تكنيكات عديدة (وليس تكنيكات فحسب) لتصوير الحياة الداخليّة تصويرًا يحاول محاكاة حركة الوعي الداخليّة. في هذه المحاكاة تنكشف دراميّة النفس التي لا تتوقّف، والحركة الموّارة التي تصطرع فيها. لذا لا بد من وجود أساليب تتلاءم مع هذه الحركة، وذخيرة لغويّة جديدة، لتحمل المهمّة الجديدة الملقاة على عاتقها، التي تتمثّل في تغيير قواعد الحبكة الروائيّة، حيث من المفروض أن يتبع هذا التغيير تغيير في اللغة التي تقدّم هذه الحبكة التي باتت تتبنّى وظيفة أدبيّة في نطاق ما يسمّى بـِ-"القسريّات النوعيّة".
ومن اللغة الشعرية المكثّفة والموحية التي استخدمها الكاتب:" ما الذي يجعل للمدى أجنحة وللمسافة صهيلا وللقاء أرجوانة دهشة وعيد بهاء؟". ص 99.
:" في الليل حين يسكن الوجود شبح الأيام الخالية، وحين يطفو مركبنا في بحار الظلم العتية(يسقط الانسان... فريسة الأحزان) أمتطي صهوات خيول جامحة أركض.. أركض". ص 55.
إجمال: يمكننا اعتبار رواية المهطوان للكاتب رمضان الرواشدة، من روايات الحداثة التي تأثّرت برواية تيار الوعي، وقد ظهرت فيها تقنيات وأساليب الحداثة، كالاسترجاع وتعدد الرواة والسرد بالرؤية مع أو الرؤية المصاحبة، واللغة الشعرية والقسريات النوعية التي بدت فيها، كما تميّزت الرواية بوجود الاغتراب الذاتي والسياسيّ في شخصيّة المهطوان. ولعلّ اللافت أيضا في هذه الرواية، استخدام الكاتب عدّة ألوان أدبية كالشعر والخاطرة و السيرة الذاتية والرواية في آن واحد. فهل يمكننا اعتبار هذه الرواية لونا جديدا من رواية الحداثة بحيث تجمع عدّة ألوان أدبية في قالب أدبيّ فنيّ روائي واحد؟
المراجع:
بوطيّب، عبد العالي (1993)، "مفهوم الرؤية السرديّة في الخطاب الروائيّ"، مجلّة عالم الفكر، الكويت: وزارة الإعلام، مج. 21، ع. 4، أبريل-مايو-يونيو، ص. 32-48.
زليخة، جديدي (2012)، "الاغتراب"، العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، الجزائر:
جامعة وادي سوف، ع. 8.
شبيب، سحر (2013)، "البنية السرديّة والخطاب السرديّ في الرواية"، مجلّة
دراسات في اللغة العربيّة وآدابها، ع. 14.
شتا، السيّد عليّ (1984)، نظريّة الاغتراب من منظور علم الاجتماع، الرياض
عالم الكتب. ماجستير. إربد: جامعة اليرموك.
غنايم، محمود (1991)، "القسريّات النوعيّة في رواية تيّار الوعي"، مجلّة الكرمل، حيفا: جامعة حيفا، ع. 12.
غنايم، محمود (1992)، تيّار الوعي في الرواية العربيّة الحديثة، بيروت: دار الجيل
قاسم، سيزا (1984)، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثيّة نجيب محفوظ، القاهرة:
الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.
وكتب د. محمّد عبد السلام كريّم:
في نصّ ليس كبنية أيّة روايةٍ أخرى، يتملكك شعور غريبٌ، والأديب رمضان الرواشدة يجول بك ما بين شعرٍ وشعر. من الخيال إلى الواقع. من الجامعة إلى الطفولة. من أمٍ ميتة وإليها وهي تحضّر المنسف، من أبٍ يُعذِّبُ المساجين إلى أبٍ مسجون. من حبٍ وشغفٍ إلى حزنٍ وحسرة.
في نصٍّ أدبي غريبٍ، تنتقل مع الرواشدة، في خمسين مشهداً يجمعها خيطٌ واه، يخيل لك أنّه انقطع عشرات المرّات.
ولعلّ في الخروج عن النص، أو عن قالب النص، الذي سار عليه الرواشدة، ما أثار الفضول لديّ، كأيّ قارئ إلّا أنّي استمرّيت في القراءة، كما يفعل طفلٌ لاهٍ، تشعره (الشقلبة) بأعراضٍ مقلقةٍ، تنتصر عليها الرغبة باللعب، فتابعتُ القراءة حتى النهاية.
وعلى الرغم من أنّ الرأي الناقد يرى أن الرواشدة تجاوز، معظم شروط العمل، بالغالب، متعمّداً، فوحدة المكان ووحدة الزمان وأبطال العمل جميعها، لم تتحقق بالشكل التقليدي المعهود، ولكنّ الروائي جعل منها شيئاً آخر.
يتناول النص شخصية ( المهطوان) الذي يبدأ أحداث روايته من صويلح الأردنيّة، حيث يكبر في حيٍ بسيطٍ، لوالدٍ دركي، ثم ينخرط في حياة حزبية سرية يساريّة، فيحمل الاسم السرّي (المهطوان)، والذي أطلق عليه لضخامة جثته.
تجمع الجامعة (المهطوان) بفتاة مسيحية فلسطينية من رام الله، فيقعا في حبّ بعضهما البعض، وتعود، بعد سجنه، إلى رام الله، حاملاً بابنه نضال، الذي لا يطلّ طيلة العمل الأدبي، والذي جلّ ما جاء فيه هو ما خاطبه فيه المهطوان بعد أن أفرج عنه بقوله: " فأسكرني الحزن عليك يا نضال، وأعجزتني نذالتي عن الاحتفاظ بك... يا روح روحي التي خبت وبقية كبدي الذي ضاع"(22)
يتناول النص- إضافةً إلى أحداث الجامعة والاضطرابات التي عمّت بعض المدن الأردنيّة، وما رافقها من فضّ الاعتصام- الكثير من المفاهيم والتعابير التي أوشك بعضها على الانقراض، من أطعمة ( منسف و لزقيات وغيرها) إلى طاسة الرعبة والشيخ المغربي والأفعى، التي تسكن بطن طفل، ناهيك عمّا غصّ به من أشعار جميلة استفاض الشاعر في نثرها على ربع حجم الرواية أو يكاد.
كما حاول الكاتب التنقّل بين واقعين باستخدام ( صوت القرين)، وأتبع الخمسين مشهدا مشهدين أحدهما من غسان الحوراني، والآخر من سلمى.
وعلى الرغم من أنّ المحتوى، كما أسلفتُ، لم يكن تراتبياً، كما هو النمط التقليدي لمحتوى الرواية، إلا أنّه زاخرٌ بالشعر والاقتباسات الشعريّة في دوّامةٍ من المشاهد التي استخدم فيها الكاتب لغةً بسيطةً، فيها الكثير من العامّيّة الوظيفيّة، والعديد من المفردات العامّيّة غير المبررة التي عجّ بها النصّ مثل:
انبسطت بمعنى (فرحت)، صفحة 20، و تشطف الحوش بمعنى ( تنظف ساحة البيت...)، صفحة 23، وغيرها الكثير.
وعلى الرغم من أنّي ميّال في العادة، إلى القوالب التقليديّة في صنوف الأدب المختلفة، إلا أنّ الرواشدة تمكّن، في صفحات عمله الأدبي، الذي لا يشبه الرواية، والذي بلغ 113 صفحة من القياس المتوسط، تمكّن الرواشدة من القبض على تلابيبي حتى أكملت العمل حتى كلماته الأخيرة، ولعله فعل الأمر نفسه مع الكثير من القرّاء، وهذا ما يسجّل نجاحاً لهذا العمل ولهذا المؤلف.
وكتبت هدى عثمان أبو غوش:
رواية"المهطوان"هي سيرة مناضل اسمه عودة، لُقب بلقب "مهطوان حيفا" بسبب طوله الفارع، وضخامة جسده، حسب الرّواية فإنّ أصل الكلمة "مطون حيفا"لأن الجنود الأردنيين الذي خدموا في فلسطين حرفوه إلى مهطوان حيفا.احترت أثناء قراءتي "للمهطوان" هل هي رواية أو شكل آخر من صنوف الأدب، فقد وجدت في هذه الرّواية سرعة السّرد، لوحات خافقة وسرعان ما يسدل الستار حول كل صفحة أوبعضها؛ فالسّرد يقفز سريعا، مكثفا، يفتقر إلى الإسهاب الذي يمنح متعة.
يمكن تصنيف هذه الرواية تحت مسمّى نصوص أو مونودراما، تبوح بأسرار النفس المتعبة، تعبر عن الحالة النفسية لحالة المناضل عودة وهذيانه، وموقفه من التغيرات السياسية، فينتقد اتفاقيات السّلام مع إسرائيل، وحالة التطبيع العربي، وموقفه من العدوان الأمريكي على العراق، والحالة الاقتصادية المتردية في الأردن من غلاء سعر رغيف الخبز، فالنّص هو وجع المواطن العربي نضاله وخيبته، نقرأ من بين السّطور حالة القهر للمناضل الذي يعيش حالة عدم استقرار نفسي بسبب التغيرات السياسية المتردية والمغزية،لذا نجد المناضل عودة في حالة انكسار يصرخ لماذا نحارب؟
يلجأ مهطوان أو عودة، إلى القلم والأوراق؛ ليعبر عن أوجاعه كلّما ضاقت نفسه فهو يوّثق الفترة ما قبل 1989 وما بعدها في الأردن.
في هذه النّصوص قصة حب بين المناضل المطارد عودة ابن الأردن، والفلسطينية المسيحية سلمى من رام الله، حبّ لم ير نوره في بيت واحد، ظلّ كل منهما في بلد.
برأيي أن إبراز علاقة الحبّ بين سلمى وعودة، والابن نضال الذي لم يره أبوه؟ هي علاقة رمزية تشيرإلى الارتباط الوثيق بين البلدين، واسم نضال يحمل رمزية الأرض الفلسطينية، والوطن الذي حرم منه عودة.
تمّ ذكر عدّة أسماء لشخوص حقيقية مثل: الشيخ إمام،عزام أبوسنينة، غسان حوراني، وكذلك مقالات مشاركة، كمقالة الحوراني في نهاية الكتاب، ممّا يجعل القارىء يشعر بأنّ الكتاب ليس رواية، وإنّما مجموعة نصوص منوّعة مترابطة لسيرة حالة مناضل ورؤيته.
وظّف الأديب الرّواشدة التراث فاستخدم مفردات تتعلّق بالتراث مثل:"طاسة الرّعبة"،طابة الشّرايط"،الأكل الشعبي مثل: المجدرة، الرشوف، المدقوقة، الخبيزة والأفعى التي دخلت بطن عودة وخرجت منه، واستخدم تناصا من الشعر لشعراء مثل: نزار قباني ومحمود درويش، وتناصا من المثل الشعبي. استخدم أسلوب الرسائل بين الحبيبين.استخدم الأغاني الشعبية، واللهجة العامية. بعيدة عن عنصرالتشويق، برزت القصائد النثرية كثيرا، فكانت حشوا زائدا، ممّا يجعل القارىء ينفر منها.
وكتبت نزهة أبو غوش:
في روايته "المهطوان" يطلعنا الكاتب وبأسلوبه الواقعيّ على الحياة الاجتماعية والسّياسيّة في الأردن، منذ الستّينيّات من هذه القرن؛ بشكل غير موسّع، لكنّ الصّورة كانت واضحة للقارئ.
استخدم الكاتب عدّة تقنيّات في أسلوبه الروائي، بلغة سلسة غير معقّدة، تحمل ما بين طيّاتها عاطفة الحزن والألم والقهر والحنين والندم." أنا من ضيّع بالأحزاب عمره" ص98.
إنّ تقنيّة الحوار الذّاتي ساعدت في تنمية الشخصيّة المحوريّة "عواد " الملقّب ب"المهطوان" بمعنى طويل القامة ضخم البنية. من خلال الحوار، يفهم القارئ حقيقة هذه الشخصيّة المتمرّدة على القوالب الاجتماعيّة والسيّاسيّة في تلك الأثناء؛ الشخصيّة المنتمية للحزب الشيوعي، والتعلّق بجيفارا والثورة البرجوازية الروسيّة، وقراءة الكتب الماركسيّة؛ مثله مثل باقي الشبيبة المثقّفين في الجامعات؛ وذلك لإيمانهم بحياة مستقبليّة أفضل.
أمّا تقنيّة الأحلام والهذيان، فقد ساعدت أيضا على الأمل المفقود داخل شخصيّة عوّاد؛ حتّى أنّه حلم بعودته لبيته ومحبوبته سلمى الّتي عرفها أثناء الدراسة الجامعيّة، كذلك ولده نضال الّذي لم تشاهده عيناه ولو مرّة واحدة؛ لقد حلم به وتصوّره في خياله وعبّر له عن حبّه وأشواقه وحنينه.
لقد استغلّ الرّوائي قصائده الشعريّة في التّعبير عن العواطف المكبوتة في ذاته؛ فجاءت بقالب حزين مؤلم يعبّر عن حياة بائسة، وخاصّة بعد زجّه بالسجون، بسبب انتمائه وتحريضه. " شراع الحزن يخيّم...يمزّق هذا الجوّ العابق بالورد" ص32.
قال في ص 33 "هناك من يعيشون موتهم في حياتهم". لأنّه يرى وجوده خلال مدّة عشرين عاما بالسجن كإنسان ميّت فاقد للحياة الطبيعيّة؛ رغم أنّه كان يحمل بعض الأمل برؤية ولده الّذي قال عنه:
" مشروع خطيئة وإدانة لا تقبل النقض" ص 66.
ومن خلال الاسترجاع عبّر عن ألمه لماضيه المؤلم، بسبب ضياع والده بين السجون؛ بسبب عدم انصياعه في تعذيب فتى منتمٍ للحزب الشيوعي؛ وذلك من خلال أسلوب الاسترجاع. وكم كان مؤثّرا حين استرجع حياة والدته ( ابنة الرّجال) الصابرة على القهر والحرمان والظلم. ومن خلال الاسترجاع
أيضا تعرّف القارئ على بعض العادات العشائرية في الكرك وغيرها؛ نحو الإيمان بالمعتقدات البائدة والشعوذة في بلدته (راكين) في الجنوب.
نرى أنّ الكاتب أيضا قد عوّض عن شخصيّة عودة بشخصيّة (القرين)، وكأنّ الكاتب يريد أن يقول: إنّ البطل من كثرة خوفه راح يعبّر عن نفسه من خلال ظلّه أو قرينه.
يقول في ص60 " أنا المنفيّ في وطني" وكأن عودة هنا يبحث عن ذاته في وطنه الّذي أحبّه؛ لكن لم تتقبّل عشيرته ولا مجتمعه كلّ توجّهاته، حتّى أنّهم وصموه بالكافر.
لقد ضمّن الكاتب الرّواشدي بعضا من أغاني فيروز وماجدة الّرومي الّتي عزّزت من الفكرة الّتي أرادها.
إنّ شخصيّة عودة الناطقة باسم الكاتب، كانت رافضة لكلّ أساليب التّطبيع، والمعاهدات السلميّة، رافضة لأسلوب القمع للمظاهرات والاعتصامات والقيادات الطّلابيّة في الجامعات؛ إذ عبّر الشّعب عن رفضه لحرب إسرائيل عام 1982، كذلك حين اجتاح الامريكان العراق؛ وحتّى قمع المحتجّين على غلاء الأسعار، حيث قتل بعضهم.
يرى الكاتب أنّ المرأة في مجتمعه مقموعة مقهورة مضحية، مكسورة.
النهاية في الرواية كانت مقبولة، حيث أنّ الأصدقاء القدامى، وكذلك أبناء البلد، لم ينكروا عودة، ولم ينسوه، إذ حملوه فوق الأكتاف مهلّلين مكبّرين؛ كي يدفنوه فوق تراب الوطن.
وقالت رائدة أبو الصوي:
رواية مختلفة .رحلة عبر الزمن الجميل .زمن الانشغال بقضايا مصيرية .بأفكار
بنّاءة( المهطوان )رجل غير كل الرجال، بطل من ابطال الزمن الجميل . زمن
الاحزاب والافكار التحررية .زمن التمرد .
في الرواية إثارة للذاكرة، أعادتني إلى أيام وليالي عمان ، إلى ثمانينيات القرن
الماضي. أعجبني عنوان الرواية ، فالمهطوان اسم نادر لأشخاص نادرين
مميزين .ذكرني بزريف الطول.
الإهداء الى ابنته ( نسم)، في البداية استغربت الإهداء ، وبعد أن قرأت الرواية
عرفت السبب، حسب اعتقادي حتى تفتخر بجذورها، التي تستحق الفخر، ارفعي
رأسك يا الأردنية.
توثيق الفترة التاريخية في الكرك ، وتوثيق للتراث، للمكان وللزمان والربط بين
الجنوب وعمّان ، معان والطفيلة والكرك ، الإشارة الى العشاير وأثرها في نظام
الحكم. قصة الحب بين سلمى وعودة ، رام الله والكرك، رمزية العلاقة
والاختيار الموفق للأسماء، عودة ونضال وسلمى ،لحلم بالعودة والنضال الذي
لازال مستمرا، والسلامة المنشودة.
الرواية اعادتني بزمنها إلى الوراء ، الحياة السياسية والاجتماعية في ذلك الزمان
عندما أشار الروائي لسينما الخيام، كنا نستمتع بعرض الأفلام في تلك السينما ،
وعندما أشار الى توجه المهطوان لسوق البالة في شارع الطلياني لشراء حذاء نمرة
48.
قلب عمان النابض بالحياة، وسط مدينة عمان ،حادثة العنود واستخدام" طاسة
الرجفة."
التطرق لحادثة اخراج الأفعى من بطن عودة باستخدام السمن البلدي ، في منه هذا
النص، سمعت كثيرا ان رائحة السمن البلدي تجذب الأفاعي، ضحكت كثيرا عندما
جاء في السرد، على لسان عودة ، عندما صحوت من غيبوبتي وحدثوني بما جرى
أغمي عليّ مجددا ص .( 28)
وجدت في الرواية حِكَما مثل: من المؤلم أن تعيش في مكان لا يناسبك ومن المؤلم
أكثر أن تعي أنه لا يمكنك التغيير ، وليس ثمة بدائل متاحة الا التأقلم والحلم والبوح
بالكلمات. وهنالك من يعيشون موتهم في حياتهم ، وعندما يأتي الموت يرفضهم
وينبذهم فيظلون غرباء في موتهم وفي حياتهم . ص .(33).
وكتب مصطفى البدوي:
تدور أحداث الرواية في حقبة تاريخية سوداء من عهد المملكة الأردنية الهاشمية، عهد الاحكام العرفية بعد أحداث أيلول الأسود.إبّان الفترة ما بين سبعينات و ثمانينيات القرن الماضي.
تتحدث الرواية عن شاب أردني اتى من قرية نائية من محافظة الكرك للدراسة في الجامعة الأردنية، وسكن في منطقة صويلح القريبة من حرم الجامعة والتي بها دور شعبية سكنية رخيصة الثمن ذاك العهد
سكن الشاب المدعو عودة في غرفة مع صديقة بعد هروبه من عند أهله في حي الكركية في جبل التاج بعمان.
انضم الى الحزب الشيوعي بواسطة صديقة عزام ابو سنينة من الزرقاء، ولضخامة
جسم عودة وطوله أطلق عليه صديقة اسم المهطوان، نسبة إلى مهطوان حيفا وأصبح اسمه الحركي، والمهطوان هو في الأصل مطوان حيفا والذي حرف الاسم هم الجنود الأردنيون الذين كانوا في حيفا في حرب ال1948، من مطوان الى مهطوان للهجتهم البدوية.
من هنا جاء اسم الرواية عودة المهطوان أي ضخم وطويل الجثة، تتحدث الرواية .
عن أحداث حصلت في الأردن، من ثورة الخبز، ومعاهدة السلام في وادي عربة ، والأحداث التي تمت من ملاحقة أعضاء الأحزاب من الشيوعية وغيرها، ما عدا حزب جماعة الإخوان المسلمين، الذين كانوا مع النظام، وتتحدث عن التحقيقات في دور المخابرات وسجن الجفر سيء السمعة وهو يقع قرب المفرق شمال المملكة وهي محطة تقوية لخط البترول العراقي ذاك الوقت.
تحدث الكاتب عن قصة حب تمت بينه فتاة من رام الله مسيحية تدرس في الجامعة الأردنية مع عودة، ونتج عن هذا الحب طفل أسماه نضال والذي لم يره في حياته بسبب رحيل والدة الطفل الى الضفة الغربية بعد ان سجن عودة في سجن الجفر.
تتطرق الرواية للمعاناة بين الأمن والاحزاب ومظاهرات الجامعة وقمع الشرطة لها، و تم التحقيق مع عودة وزجه في السجن. ذكر الكاتب تحول يساريين من الحراك الى الخنوع للسلطة بعد عهد لديموقراطية والذي أثر في نفسه، واعتزل الناس حتى وافته المنية، ونقل جثمانة الى مسقط رأسه في راكين الكرك.
وأكمل الرواية صديقة غسان الحوراني بتواصله مع سلمى الفلسطينية حبيبة عودة، والتي أصبحت تكتب في جريدة القدس العربي.
وكتبت رفيقة عثمان:
رواية "المهطوان" تثلفت الانتباه والتّشويق لقراءتها من عنوانها الغريب؛ العنوان يجعل القارئ في حالة اندهاش للوهلة الأولى؛ نظرًا لعدم شيوع هذه الصّفة واستخدامها في حياتنا الاجتماعيّة، ممّا يستدعي البحث حول المعنى والدّلالة لهذه الصّفة.
من قراءة الرّواية يستشّف القارئ هذا المعنى، ألا وهو: صفة للرجل الفارع الطّويل وضخم الجّثّة – فهو اسم لبطل سرّي وحركي سياسي لبطل الرّواية؛ أسوةً بمهطوان حيفا؛ والّتي أصلها مطوان وحرّفها الجنود الأردنيون الّذين خدموا في فلسطين إلى اسم مهطوان.
اختار الكاتب شّخصيّة المهطوان المُتخيّله؛ لتسليط الضّوء عليها، وتحريكها وفق الأحداث في السّرد الروائي؛ لذا نلاحظ استخدام الكاتب للحوار الذّاتي كحوار هو الغالب على الحوارالخارجي؛ مستخدمًا بصيغة الرّاوي المتحدّث بضمير الأنا، ممّا يضيف مصداقيّة للسّرد الأدبي، وتقريبه من الواقع؛ في وصف الصّراع الذّاتي، والصّراع السّياسي والاجتماعي في مرحلة اجتماعيّة، سياسيّة، ثوريّة في المجتمع الأردني.
زمن الرّواية يبدو واضحًا، ممكن استنتاجه من خلال سرد الرّواية، أثناء اجتياح لبنان عام 1982، كذلك عندما غادرت سلمى فلسطين، وأغلقت جامعة بير زيت اثناء الانتفاضة؛ للدّراسة في الجامعة بالأردن؛ سنة 1987.
دارت أحداث الرّواية في الأردن، ما بين عمان والكرك، وفلسطين. وحظي المكان بمكانة هامّة في الرّواية، من حيث الرّبط بين فلسطين والأردن، كذلك عزّر الكاتب قضيّة الامتزاج بين الشّعبين: الفلسطيني والأردني، من خلال شخصيّة البطلين: سلمى الفلسطينيّة، والمهطوان أردني الجنسيّة.
من الممكن إدراج الرّواية تحت تصنيف مسمّى السّيرة الذّاتيّة، والرّواية التّاريخيّة والسّياسيّة الثّوريّة والوطنيّة؛ حيث غاصت الرّواية في وصف المعاناة ومشاعر الحزن والألم، لبطل الرّواية "المهطوان" جرّاء انتمائه الحزبي، وزجّه في السّجن لفترة مدّتها عشرون عامًا. عشرون عامًا من الوحدة والعذاب، وابتعاده عن زوجته وابنه نضال، الّذي عاد إلى فلسطين مع امّه سلمى.
طغت عاطفة الحزن والألم والفراق، على كافّة محتوى الرّواية من بدايتها حتّى النّهاية، هذه العاطفة خلقت الدّافع في نفس الرّوائي لنظم قصائد الشّعر، على لسان الرّاوي "المهطوان"؛ لذا تحلّت هذه القصائد بجماليّة اللّغة والتّعبير الرّومانسي، والثّوري أحيانًا أخرى. والعاطفة الوطنيّة والحنين ظهرت جليًّا في شخصيّة الرّاوي البطل. كما ورد ص 74 " لماذا لا أملك في قلبي سوى حزني وأحلام النّهار" ، "هل أعبّر وأفتح عن قلب أغلقه الوجع وأدماه الحزن، فبات صريعًا". ص 71.
نهج الكاتب في استعمال تقنيّات متعدّدة في الأسلوب للبناء الرّوائي، مستخدمًا الاستذكار الرّجعي، وتدوين المُذكّرات في المفكّرة، وتداول الرّسائل بين سلمى والبطل المهطوان؛ كذلك استخدام شخصيّة القرين (الشّخصيّة الوهميّة المصاحبة لشخصيّة البطل).
استخدم الكاتب الرواشدة، بعض التّناص الدّيني، مثال على ذلك:"حين كنت في المهد صبيًّا .. سلام عليها يوم كانت ويوم خربت ويوم تصبح ذكرى وأطلالا بعيدة" صفحة 66. (سورة مريم: 29 ) " فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيًّا"." والسّلام عليّ يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا" مريم 33.
ورد تناص شعري " نبوءة الطرفة قالت يا ولدي السّجن عليك هو المكتوب" صفحة 70. (قالت يا ولدي لا تحزن.. الحب عليك هو المكتوب" من أغنية قارئة الفنجان، لعبد الحليم حافظ.، للشاعر السّوري نزار قبّاني.
اقتبس الرّوائي بعض الاقتباسات لأغاني مختلفة ومن ضمنها أغنية فيروز " وحدن يبقوا مثل البيلسان.. وحدن بيقطفوا أوراق الرّمّان ص 61.." كذلك" إن عشت فعش حرًّا أو مت كالأشجار وقوفًا" ص 68 . للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وغيرها من الاقتباسات.
تحلّت الرّواية في بعض مواقف المُفارقة السّاخرة، وتعابير التّهكّم ذات الدّلالات السّياسيّة المُبهمة؛ كما ذكر الرّوائي حول التعتيم الإعلامي، عندما اندلعت مظاهرات في الجامعة الأردنيّة، ولم يُنشر خبر حول الأحداث السّياسيّة في الأردن؛ بينما نُشرت الأخبار ذاتها في كافّة الإذاعات العالمية، فذكر الكاتب فيما معناه "دعونا نستمع لإذاعة مونت كارلو؛ لمعرفة أخبار الأردن" !. موقف آخر، عندما قال المُحقّق للمهطوان مستهزئًا: "يجب أن يعمل لك أبوك طابو لرجلك الطّويلة"؛ كذلك " إلّلي ربّع ربّع والّلي قبّع قبّع، والّلي طبّع طبّع، ولّلي قبّع قبّع". هذه العبارات أتاحت للكاتب التّعبير عن نفسه بحريّة، دون استخدام العبارات المُباشرة، خاصّةً فيما يتعلّق بالمواقف السّياسيّة والصّراعات، في ظل حكم لا يتيح الفرصة بالتّعبير عن الذّات بحريّة وبشكل ديموقراطي.
ظهرت بعض الموتيفات بالرّواية مثل: "آه كم أفتقدك يا نضال"، و" أين أنتِ يا سلمى"؟ دلالات هذا التّكرار تشير إلى أهميّة هاتين الشّخصيّتين في حياة البطل؛ وشدّة الحزن الّذي ينتاب البطل، والشعور بالمعاناة والحزن؛ وشدّة الحنين والاشتياق لكليهما.
إنّ اختيار اسم الطّفل "نضال"، له دلالة خاصّة في الرّواية، نضال هو ابن سلمى والمهطوان، وُلد لأب مناضل وثائر، وأم مساندة له في طريق نضاله، وثمرة ذلك هو الابن نضال. ربّما هو الرّمز للنّضال المشترك الفلسطيني الأردني؛ ولاسم سلمى نصيب من دلالة النجاة من الهلاك والسّليمة، فهي تعني السّلام والحب والسّلامة؛ وشخصيّة عودة، تعني الدّلالة على العودة. حدّد الكاتب جنسيّة سلمى البطلة المحبوبة، بالفلسطينيّة المسيحيّة، تُرى! هل قصد الكاتب بهذا التّحديد؛ دمج فئات المجتمع، والمساواة بين الدّيانات والجنسيّات المختلفة ؟ برأيي: لا حاجة لذكر الدّيانة الّتي تنتمي إليها سلمى.
رواية المهطوان، رواية مختصرة جدّا، ولا تتعدّى صفحاتها عن المئة صفحة تقريبًا؛ وتبدو الأحداث فيها متلاحقة ومكثّفة، ويبدو فيها السّرد الأدبي مختصرًا، والرّواية تفتقر للكساء السّردي المُطعّم بالمحسّنات الّلفظيّة، والصّنعة البديعيّة؛ على الرّغم من ذلك بدت لغة الرّواية سهلة وسلسة، فيها بعض الألفاظ الأردنيّة، مثل أسماء بعض الأطعمة الأردنيّة المميّزة؛ كالمجدّرة والرشوف، والمدقوقة، والخبّيزة، ص 62 وما إلى ذلك.
رواية "المهطمون" رواية ممتعة ومؤثّرة جدّا، رواية سياسيّة، واجتماعيّة، وإنسانيّة، ورمزيّة ذات دلالات عميقة، تعكس مرحلة هامّة في الأردن والوطن العربي.
وكتب المحامي حسن عبّادي:
وصلتني يوم 18.01.2022 برقيّة مشفّرة من صديقي رمضان الرواشدة وجاء فيها: "مطوان حيفا...أو مهطوان حيفا"، فلم أفهم كنهها، وتوجّهت لصديقي الراحل حنا أبو حنا، لأستفسر عن الأمر، فجاءني جواب زوجته سامية: "طولو طول مطوان حيفا. مثل شعبي استعملوه أهل حيفا لشخص طويل القامة"، ووافته المنية يوم 02.02.2022، لروحه الرحمة والسكينة.
وفي يوم 06.03.2022 كتب لي رمضان أن الرواية صدرت وبعث لي نسخة الكترونية، قرأتها بشغف، ووصلتني بعدها من عمّان نسخة من رواية "المهطوان" للكاتب رمضان الرواشدة، (والشكر موصول للصديقة الكاتبة أسماء ناصر أبو عياش التي أحضرت الرواية من عمان، والصديق الكاتب منجد صالح الذي أوصلها من رام الله). وكتب لي في الإهداء: "إهداء خاص، الى الصديق والأخ الغالي الكاتب حسن عبادي وزوجته الرائعة، محبتي وتقديري. رمضان/عمّان 20.5.2022".
وهذا الأسبوع قرأتها للمرة الثالثة، فصرنا أصدقاء وجاءت قراءتها مختلفة بعض الشيء. أخذتني القراءة مجدّداً لكتبه التي قرأتها من قبل؛ "الحمراوي"، وأغنية الرعاة" و"النهر لا يفصلني عنك"، ورواية "جنوبي"، وكأنّي به يمأسس سيرة ذاتيّة له؛ يطلّ علينا متنقلًا بين الريف وعمان وفلسطين، يحمل كاميرا ثلاثيّة الأبعاد ليصوّر لنا بانورامياً الحالة الاجتماعية والسياسيّة التي سادت وتداعياتها.
تتناول الرواية مفهوم الهويّة عبر أحداث عاشها الكاتب، ويروي تفاصيلها بحذافيرها، معرّجاً على التحوّلات الاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية والثقافية التي حدثت في الأردن في الثمانينيات، عبر تجربة أبطاله – عودة الكركيّ وسلمى الفلسطينية القادمة من رام الله للدراسة الجامعيّة، فتقع في شباك حبّه؛ ليشتبك الحب والعشق والرومانسيّة الحالمة والنضال.
اختياره للاسم عودة كبطل للرواية جاء موفّقاً بامتياز، وتصويره لشخصيّته وتصرّفاته، ورسمه على مقاسه، مستعملاً السخرية السوداويّة القاتلة.
يؤكّد الكاتب على عروبيّته واللحمة الفلسطينيّة الأردنيّة (فرمضان يمارسها فعلاً، لا قولاً، ولا ضريبة كلاميّة، فزوجته المقدسيّة ابنة زميلنا أبي عمر، جدّ أحفاده) وهذا ما نلمسه عبر صفحات الرواية، ما ظهر منها وما حاول تشفيره، ورسالته واضحة المعالم، نحن شعب واحد وأمّة واحدة، وهذا ما وضّحه من خلال ارتباط عودة الكركي الأردني وسلمى المسيحية الفلسطينية من رام الله ونتاجه ولادة نضال، ولم تكن محض صدفة استحالة اللقاء المرتقب بين عودة ونضال.
للكاتب قدرة رهيبة على الوصف، كما عوّدنا في رواياته السابقة، بأسلوب شاعريّ ولغته انسيابيّة، مستعيناً باللغة المحكيّة واللهجة المحليّة أحيانًا، دون أدنى ابتذال وشدّ عضلات، وخاصّة حين تناول العادات والتقاليد، والمأكولات مثل المدقوقة، والخبيزة والمجدرة والرشوف، فجاءت صادقة بنيويّة، وعلى سبيل المثال توظيف "طابة الشرايط" والفطبول والإبريموس وسيجارة "الهيشي" و"يا خوفي من آخرة هالقراية"(ص. 37).
راق لي توظيفه للموروث الشعبي دون خجل، قصة "طاسة الرّعبة"، دون خجل وتأتأة، فحين لامست يد أخت عودة العنود "كبسة" الكهرباء قذفتها، فطلبت أمه منه أن يحضر " طاسة الرّعبة":
"صرخت أمّي بي: اذهب واحضر "طاسة الرعبة".
. .. طاسة الرعبة؟ قلت: من أين؟
- من بيت جدّك، قالت أمّي.
ورأيتني أندفع إلى بيت جدي لأمي في الطرف الآخر من راكين، ركضتُ لا أعرف
ماذا سأحضر...
"طاسة الرعبة"...كنت أردّد في داخلي كي لا أنسى، وأنا لا أعرف ماذا تعني هذه الطاسة؟"(ص. 23).
وكذلك الأمر مع قصّة الأفعى التي تقوقعت في بطن عودة وطقس إخراجها (ص.8-27).
وظّف الكاتب الأغنية الشعبيّة والمواويل الجنوبية والميجنا الحزينة والجوفية بلباقة ليقولها بصريح العبارة؛ هذا تاريخنا وهذه حضارتنا التي تربّينا عليها ونعتز بها ونفخر ومنها ننطلق.
كتب رمضان بعفويّة وصِدق، فكلّنا علّقنا على حائط غرف السكن الجامعيّة صوراً للمشاهير، وصورة جيفارا كانت إلزاميّة في كلّ الغرف، وبروزها مع صورة الفرنسيّة صوفي مارسو بحنكة ولباقة، فالجامعي الثوريّ المطارد الذي يعتبر جيفارا بوصلته ومثله الأعلى يعشق الحياة ويستحقّها رغم الظروف القاسية وما يمرّ به، ورغم أنّ هناك من يحاول سحقها.
رافقتنا أغاني الشيخ إمام ومصطفى الكرد أيام الجامعة، وانتشيت حين جاء ذِكر صديقي كمال خليل وفرقته "فرقة بلدنا" وأغنيته "أحمد على الموت انتصر"، تلك الأغنية التي سمعتها بصوت كمال، بقعدات عائليّة خاصّة، في مشواريّ الأخيرين لعمان، ممّا يؤكّد صدق ومصداقيّة الكاتب، فلم يفاجئني أبداً أن ينهي الرواية بتكملة من نديمه الكاتب غسان الحوراني (شاعر الجامعة الذي صار كاتبا روائياً فيما بعد) ليغلق الدائرة بحنكة.
من معرفتي الشخصيّة بالكاتب وجدته مثقّفاً لأبعد الحدود، ملمّ بمسرحيّة "يهودي مالطا" وكريستوفر مارلو التي تتناول الصراع الديني والثأر، ومسرحيّة "حلم ليلة منتصف صيف" وشكسبير التي تتناول القانون الظالم، رواية "الأم" لمكسيم غوركي التي تتناول ظروف ثورة البلاشفة وكأنّي به يدعو لاتحاد المظلومين البسطاء والنضال ضدّ المستعمِر، على أشكاله، والمناضلة الروسية الثورية ناديجدا كروبسكايا (زوجة لينين وشركة حياته ومشروعه الثوريّ) وفيروز وزهر بيلسانها، وجاء ذِكرِها بنيوياً دون ابتذال.
ملاحظة لا بدّ منها، أفرط في اللجوء إلى الشعر، ويبدو أنّنا كسِبنا روائياً وخسرنا شاعراً مغموراً.
أختم بما جاء في الرواية:
"قال لي ابن أختي الصغير: ارسم لي طيّارة حربيّة!؟
فتساءلت: الآن؟ وفي هذا الزمان؟ ماذا ستفعل بالطيّارة الحربيّة "واللي طبّع طبّع، واللي ربّع ربّع"!؟
وما أن كشّر محاولًا البكاء حتى بدأتُ برسم طيّارة حربيّة له، بانت نواجذه وهو يبتسم، وأدركت أنّني مستسلم لقدري الملعون". (ص. 91)