المشاركة والسلوك السياسي في المجتمع الفلسطيني .. دراسة اجتماعية في أجزاء: الجزء السابع: اليقظة السياسية

بقلم: أسامة خليفة

thumbnail_اسامة خليفة.jpg
  •     أسامة خليفة
  •  باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»

المشاركة السياسية من العوامل المساهمة في رفع حالة اليقظة السياسية التي تساهم بدورها وبشكل كبير في تحقيق الاستقرار السياسي والنظام والوحدة الداخلية في المجتمع، إن زخم المشاركة السياسية في الشأن العام وفي صنع القرار يراكم الخبرة ويوسع دائرة الثقافة المجتمعية من الناحية السياسية، وبمساهمة جيدة من التعليم الوطني الهادف والمتضمن نشر ثقافة المواطنة وصهر الانتماءات والولاءات في بوتقة الانتماء الواسع للوطن، ترتفع درجة الوعي السياسي وصولاً إلى اليقظة السياسية وفهم المتغيرات والأحداث السياسية، وتحديد المواقف الصحيحة منها، وعليه فإن العلاقة بين اليقظة السياسية و المشاركة السياسية علاقة تأثير متبادل، فاليقظة السياسية حالة يكون فيها الفرد واعيًا ومشاركاً وله موقف إيجابي من القضايا الوطنية، وعي وموقف إيجابي لا يرضى بالتواطُؤ والاتفاق ضد طرف ثالث شريك له في الوطن‏.

ترتبط اليقظة السياسية بالقضايا الاستراتيجية يهتم بها صناع القرار على أعلى مستوى من أجل تجنب المخاطر المحتملة، من المخططات الخارجية، واستغلال الفرص المتاحة، ومعالجة الأوضاع السلبية الداخلية بترتيب وتحصين البيئة الوطنية الجامعة، أما اليقظة الأمنية فترتبط بالقضايا التكتيكية وتخص الأذرع العسكرية في فصائل المقاومة الفلسطينية تحسباً لأي عمل عدواني يقوم به جيش الاحتلال أو مستوطنيه، الذي يسعى ضمن ما يسعى إليه خلط الأوراق وتشتيت الانتباه عن قضية ما، أو إعادة صياغة معادلة الصراع.

تتراوح اليقظة السياسية ما بين فكرين متقاطعين في نقاط متعددة، كليهما طريقة تفكير خاطئة تمسخ الواقع والحقيقة، يلتقي الفكران في جذب اليقظة باتجاه سلبي كل من جهته، الأول فكر تبريري، والثاني فكر تأمري، الاثنان لا يضعان اليقظة في مكانها الصحيح في الانتباه والاحتراس من كل عوامل الهزيمة والانكسار، والفوضى والانهيار، الانقسام والتفتت، فالالتفات المطلق إلى الأمور الخارجية باتفاقاتها وتحالفاتها ومخططاتها تضعف اليقظة السياسية، وقد يحدث أن تتغافل أطراف عن الإمكانات الذاتية اللازمة لمواجهة مؤامرات تحاك بالفعل لدول المنطقة ولا سيما فلسطين وشعبها ومقدساتها وهذا قد قيل فعلاً في أن المؤامرة على فلسطين كانت كبيرة جداً أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني وحده على مواجهتها، والفكر التبريري يهتم بالوضع الداخلي، لكنه لا ينتقده بل يبرر التقاعس بل يبرر الهزيمة، مما يسمح باستمرار حالة التردي، والتي تشكل عاملاً جديداً إضافياً في نجاح المخططات الخارجية.  

وعليه ترتبط اليقظة الوطنية بالوعي النقدي البناء والجرأة على توجيه الأصبع نحو الأخطاء والعيوب والثغرات والنقائص والشوائب، يبرز هذا الأمر حتى في المنظمات الفلسطينية التي تسترشد بالفكر الاشتراكي العلمي حين أهملت «منهج التحليل الجدلي» في فهم الواقع الفلسطيني أو العربي أو العالمي، وإمكانية امتلاك ناصية استخدامه كمنهج يرتبط بالحقيقة بكل أبعادها وفي سياق تطورها وتفاعلها وتشابك عناصرها والبحث في أسبابها العميقة والمتنوعة والمتداخلة بعيداً عن التسطيح والأحادية، فلا أحد يملك الحقيقة السرمدية. إذاً ليس المطلوب من التثقيف فكر دواويني يختزن ويسجل ويحفظ كقرص مدمج يهتم بجمع المعلومات دون فحصها ونقدها، والمهم ليس ارتباط الاطلاع بالسعة والكم، بل ارتباط المعرفة بالنقد والنظرة المتعمقة الفاحصة الشاكة، بفكر يخلق في الفرد الشك والتساؤل والنقد والجرأة الأدبية، ولا يخلق عقلية دوغمائية تنفي الموقف العقلي النقدي من العالم الخارجي والذات، ولا فكر يقوي المعتقد الجامد فلا تعود القضايا موضوع جدال عقلي ومنطقي، اليقظة والفطنة السياسية تأتي من اليقظة النقدية وإعمال العقل في حقائق التاريخ، والبحث فيما وراء الحدث أو الخبر، لقد رُسمت لنا صورة تاريخنا وحضارتنا ومجتمعنا في صيغة تبريرية، في وجه سيطرة الغرب الاستعماري وقوته ونفوذه، وأصبح هدف المعرفة هو درء الخطر عن الذات بدلاً من معرفة الذات وفهمها لتطوير قدراتها على المشاركة الفعالة ومواجهة المخططات الخارجية، إن انخراط واسع للجماهير في العمل المنظم يتطلب صياغة القضية وشرح التناقض وطبيعة الصراع وطرح الحلول النظرية والعملية الملائمة لحل التناقض وتطابقها مع مصلحة الجماهير، حيث أن المنظمات والفصائل لا تقتصر في نشاطها على أعضائها فقط ، بل تحاول نشر فكرها وبرنامجها السياسي في المجتمع الأوسع، لتصل إلى أكبر قطاع جماهيري ممكن، لكنها قدمت فكراً معتقدياً ايمانياً ينبع من ردة فعل على الكرامة العربية المهدورة لا سيما بعد النكبة واستمرت لما بعد النكسة وهزيمة حزيران 1967، فالفكر المعتقدي الأول كان فكراً قومياً مثالياً استعذب نظرية المؤامرة، والفكر الآخر كان الفكر التجريبي الثوري العفوي والذي لم يصمد أمام الواقع والهزات التي تعرض لها، ثم هناك الفكر الماركسي الجامد الذي لم يأخذ بخصوصيات المجتمع الفلسطيني وإطاره العربي بالحسبان، فكانت القضايا السياسية تنطلق من تفسيرات مطلقة جامدة، أو تقاس وفق مقاييس تناسب شعوب أخرى أو نظرية عالمية بأفكارها الجاهزة.

يتلخص الفكر المؤامراتي: في القول «الحق على الطليان» وتحميل كل ما يجري لنا من نكبات ونكسات وكوارث إلى جهات خارجية أو إلى قوى خفية أو سحرية، إنه فكر تبريري للهزائم والأخطاء والعيوب، فهو المشجب الذي نعلق عليه نواقصنا وفشلنا ونتهرب من تحمل المسؤولية عن واقع أحوالنا، ويحشر البعض الشيطان في نظرية المؤامرة لا سيما في صراعنا الداخلي في مواجهة بعضنا، ويستغل البعض هذا الاعتراف بالمؤامرة والمبالغة والإفراط بوجود متآمرين دائمين، فيكثر الناقدون أو الأصح الساخرون، حين يتناولون بالنقد الساخر انتشار فيروس الكورونا والإيدز والفساد والغلاء والدين والسياسة والتخلف و الكوارث والأوبئة وتلوث البيئة كمؤامرة دولية، وأصبح التحليل السياسي لكل الأمور يدور في فلك نظرية المؤامرة.

ونجد أنفسنا في العالم العربي أمام وضعين: ما بين الفكر المؤامراتي العربي من جهة وبين حقيقة وجود مؤامرة على دول المنطقة، رفض وجود مؤامرة على الاطلاق هو تحسين للصورة الاستعمارية ولا سيما بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين، وصورة الولايات المتحدة الحالية، وصورة الحركة الصهيونية وإسرائيل، إذ يقال في كل أزمات وكوارث المنطقة ابحث عن إسرائيل.

تبدأ المؤامرة من مخطط يرتبط بمصالح الدول القوية والاستعمارية لأن المؤامرة تحتاج إلى قوة لتنفيذها، لا يمكن للضعيف أن يتأمر، إلا إن كان بحماية القوي يعطيه دوراً ويوعده بمكسب قد يتحصل عليه، يبقى المخطط مخططاً ومشروعاً على الورق أوفي أدراج الطاولات، حتى يتطور المخطط المعادي ويسعى لضم طرف أو أطراف للتنفيذ له مصلحة في نجاح المخطط، لأن المؤامرة لا تكون من طرف واحد فقط، ولا يمكن للمخطط أن يتحول إلى مؤامرة دون عوامل داخلية سلبية في البلد المستهدف، فالمؤامرة تستهدف نقاط الضعف، تبدأ تدابيره العملية تتخذ أساليب وأغراض غير شرعية وغير أخلاقية يتحقق بعضه خفية وبعضه علانية، وذلك كله غير كاف دون وجود طرف داخلي متآمر أو مخدوع أو ذي مصلحة يكتمل به المخطط وهو شرط ضروري ولازم.

تتصف المؤامرة بالخداع والكذب والمراوغة، ومثاله في القضية الفلسطينية أن الحكومة البريطانية قد أصدرت على مدى سنوات إدارتها لفلسطين أربعة كتب بيضاء موجهة إلى الفلسطينيين، تضمنت الخداع الاستعماري البريطاني بما يخص الاستيطان وهجر اليهود إلى فلسطين وتمكينهم من حيازة الأرض الفلسطينية، ولولا المؤامرة لما كنت اليوم لاجئاً بعيداً عن وطني.

وعلى المستوى العربي كان الخداع الاستعماري يتزامن في مراسلات حسين مكماهون التي وعدت العرب بدولة مستقلة، في الوقت ذاته كان وزيرا خارجية بريطانيا سايكس، ووزير خارجية فرنسا بيكو، يضعان خارطة تقسيم وتفتيت المنطقة وتقاسمهما بين البلدين الاستعماريين لنهب خيراتها، لقد سخر وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل من العرب الذين صدقوا وعود بريطانيا، لكنه تفاجأ واستغرب أن بعض البريطانيين صدقوا ذلك الخداع، وتشرشل بدوره المخادع طمأن الفلسطينيين أن الاستيطان لن يؤثر على وجودهم، ولا يعني تهويد فلسطين.

إن وجود مخططات خارجية لتقسيم الوطن العربي لا يخفي حقيقة وجود عوامل داخلية جاهزة أو قيد التجهيز لتمرير وتنفيذ هذه المخططات، فاللعب على النعرات الطائفية أو الخلافات المذهبية والتباينات العرقية والقومية لا يمكن أن يتحقق إلا في وجود عناصر ومؤثرات تدفع في اتجاه التفتيت والتقسيم والترهل، في بنية الدولة والفشل في أدائها لوظائفها.

كانت بريطانيا الاستعمارية رأس التآمر على الشعوب للحفاظ على مستعمراتها ومصالحها ونهب خيراتها، ساقها ذلك في الصين إلى حرب الأفيون والتي انضمت لها فرنسا، وعملا معاً على نشر تعاطي الأفيون في صفوف الشعب الصيني مخالفين بذلك كل القيم الدينية والبشرية، وتم إعلان الحرب وارتكاب المجازر الوحشية في الصين لفتح الأبواب أمام تجارة الأفيون.

 لم تتخل بريطانيا الحالية عن أسلوبها الاستعماري التآمري لكن رضيت بريطانيا أن تصطف خلف الولايات المتحدة في مشاريعها المعادية للشعوب، وسلمت إرثها من الخداع الاستعماري للزعيم الجديد لعالم التآمر الولايات المتحدة الأمريكية وأداتها الـ««CIA، مع تابعها الخبيث الحركة الصهيونية ومخابراتها الخارجية «الموساد»، الذين من مصلحهم إعادة تقسيم المنطقة وتفتيتها بما يتجاوز اتفاقية سايكس-بيكو.

في عام 1980 طرح مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زيبجنيو بريجنسكي تصوراً يقضي، بأن على أمريكا إشعال المزيد من الحروب، وخلق الفوضى والعنف، وعدم الاستقرار في دول المنطقة من أجل إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وتقسيمه وفق العرق والدين وإعادة تشكيل الوطن العربي على شكل كانتونات عرقية ودينية وطائفية باستثمار هذه التناقضات، هذا هو الهدف الغير معلن إنما الخداع الاستعماري التأمري يبرز في الهدف المعلن وغير الحقيقي وهو نشر مفاهيم الحرية وإشاعة الحياة الديمقراطية بين شعوب المنطقة، واسمته كوندليزا رايس -وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد جورج دبليو بوش- الفوضى الخلاقة ضمن مبادرتها بعنوان « الشرق الأوسط الجديد» الذي طرحته لأول مرة في عام 2006 في تل أبيب كشريكة تآمر.

في عام 1980 وبعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية طرح بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي، أنه من الضروري تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش حرب الخليج الأولى تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس – بيكو، جاء ذلك في مقال له نشر في مجلة «جلوبال ريسيرج» بعنوان «الهيمنة قديمة قدم التاريخ»، ترافق طرح بريجنسكي هذا، مع المشروع الذي قدمه المفكر الصهيوني برنارد لويس إلى الإدارة الأمريكية، والذي تضمن تقسيم الشرق الأوسط وفق العرق والدين.

وفي عام 1983 وافق الكونجرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع برنارد لويس، وبذلك تم إدراج هذا المشروع في ملفات السياسة الأمريكية الاستراتيجية لسنوات مقبلة بانتظار توفر شروط الوجودين العسكري والأمني في المنطقة، من ضمن الدول التي شملها مشروع برنارد لويس للتفتيت:

السودان أربع دويلات في الجنوب وفي الشمال وفي دارفور وفي النوبة، شمال إفريقيا إضافة دولة أمازيغية، العراق ثلاث دول على أسس عرقية ومذهبية، شيعية، وسنية، ودولة كردية، سوريا دولة علوية في الساحل، ودولتان سنيتان واحدة في حلب، وأخرى حول دمشق، ودولة الدروز على أجزاء من سوريا ولبنان، الأردن يتحول إلى مملكة فلسطين ضمن ما يسمى الخيار الأردني، فلسطين بالكامل دولة لليهود حصراً.

في عام 1993 وافق الكونجرس الأمريكي على مشروع الثلاثي الصهيوني زيبجنيو بريجنسكي، برنارد لويس، وناتان شارانسكي، ولو تتطلب الأمر التدخل العسكري الأمريكي وإعادة احتلال المنطقة من أجل خريطة شرق أوسط جديدة، تخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية-الإسرائيلية، بما يجعل الكيان الصهيوني قوة «هيمنة إقليمية» في جغرافية الشرق الأوسط، وبما يسمح للولايات المتحدة أن تتحكم بدول المنطقة وخيراتها ومواردها.

هناك من يتآمر فعلاً وعملاً في تقسيم العالم العربي وتفتيته لإضعافه، لكن الفكر التآمري العربي ارتد على نفسه عندما تبنى نظرية المؤامرة وأصبحت نهجاً تبريرياً لعجزهم ولفشل مشروعهم النهضوي, لأن الواقع العربي المتردي اليوم هو نتاج العجز الفكري، وغياب الفكر النقدي وسيطرة فكر مؤامراتي يرتبط بفكر تبريري.

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت