من غزة : ملحمة جمعية الشبان المسيحية في غزة : سبعون يوماً من الصمود ومقاومة التهجير

وليد العوض.jpg
  • كتب وليد العوض :

منذ السابع من اكتوبر الماضي يواصل جيش الاحتلال الصهيوني المدجج بأعتى انواع الأسلحة حرب الإبادة الجماعية ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة بالتزامن مع حرب مماثلة أقل حدةٍ واكثر خطراً لما يتعرض له شعبنا في الضفة الغربية والقدس ، حظيت حرب الابادة هذه بدعم ومشاركة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية وبتأييد من حلفائها ، سبعون يوماً وما يزيد تنهمر أطنان من المتفجرات والقنابل الحارقة على قطاع غزة مستهدفة البشر والحجر  تقتلع الشجر وقتلت حتى كتابة هذه السطور أكثر من عشرين ألف وما يزيد عن سبعة الف تحت الركام  وخمسون الف جريح دون علاج بعد انهيار منظومة الصحة في القطاع ، ما يزيد عن مئتين ألف مسكن تم تسويتها بالارض ومثلها لم تعد صالحة للسكن ،عدوان غاشم استهدف المستشفيات وشبكات الصرف الصحي والكهرباء والماء والاتصالات والمدارس والكنائس والمساجد وحولت الشوارع إلى خراب يتعذر السير فيه حتى للدواب والكلاب ، ذبحت مظاهر الحياة وتطايرت أعمدة الكهرباء فوق ركام السيارات بعد أن غرست الجرافات  انيابها الحادّة فيها وعجنتها جنازير الدبابات مع اشلاء عشرات الضحايا ، المذابح والمجازر التي لم تتوقف شاهدها العالم في بثٍ مباشر فاتسعت دائرة التضامن مع شعبنا ورفض الحرب رغم أنف الاعداء  ، هذا العدوان من بين اهدافه المعلنة اجبار الناس للنزوح جنوب وادي غزة عبر المنشورات والدعوات المتلفزة بعد أن كسر صمود شعبنا والموقف الرسمي الفلسطيني وثبات موقف مصر حدة الدعوات للنزوح باتجاه سيناء ، موجات النزوح تلك لاحقتها عمليات القتل الجماعي  على الطرق وقد ظن الناس انها أيام ويعدون لما تبقى من بيوتهم او العيش فوق ركامها وظلوا متمسكون بالبقاء داخل الوطن رغم المعاناة والألم يبحثون عن مكان آمن لم يجدوه تلاحقتهم الطائرات والدبابات والزوارق في الشوارع ومراكز الإيواء فاحترقت اجسادهم على الطرق وفي الطوابير امام الأفران وتناثرت أشلاءهم في مراكز الايواء وبيوت احبة استضافوهم رغم شظف العيش ونفاذ كل المواد التموينية من البيوت والمخازن ، في البيت الكائن في الطابق الثامن من برج الظافر ٢ دوار  أبو مازن  قررنا عدم الإستجابة لتلك المنشورات والدعوات والبقاء في البيت رغم أزيز الرصاص وأصوات القذائف والصواريخ المتساقطة من كل صوب ، يوم التاسع عشر من اكتوبر أستهدف البرج بشكل مباشر دمرت غارة جوية الطابق الرابع عشر والخامس عشر وتواصل القصف العنيف بقذائف المدفعية والدبابات دُمرت عدد من الشقفة في الطوابق الأول والثاني والثالث والعاشر والثالث عشر تحتَ لهيب الحمم وألواح الزجاج والحجارة المتساقطة فوق الرؤوس  اضطررنا للمغادرة مع من كان قد بقي من السكان  نحو المركز الثقافي الأرثودكسي على بعد مئة متر من مكان العمارة المتهالكة جراء القصف ، هناك بقينا تحيطنا موجات من القصف المرعب بين الحين والآخر حتى يوم ٢٩ أكتوبر عندما تلقى مدير المركز  إتصالاً من الاحتلال يطلب الإخلاء خلال ساعتين لتدميره الذي تم بعد ساعات عدة ، أسرعنا كما الجميع بحمل ما تيسر من عدة النزوح قد أعددناه مسبقاً "بطانية وزجاجة مياه  لكل فرد وبعض من المعلبات تعيننا لأيام قادمة قُدت سيارتي المحطمة التي كنت قد أخرجتها بصعوبة من تحت ركام البرج حين قصفته الطائرات  بسرعة ومغامرة تكررت في مرات لاحقة بين السنة النار وتحت وابل من القذائف و الصواريخ  توجهنا نحو  كنيسة الروم الأرثوذكس وسط غزة القديمة التي تعذر دخولنا لها لاسباب خاصة بالكنيسة ، اتجهنا بعد برهة من الوقت استرددنا فيه انفاسنا نحو جمعية الشبان المسيحية رافضين بكل أصرار النزوح  نحو الجنوب ومع ساعات المساء الاولى وصلنا منهكين ، كنت أنا وزوجتي ام حسين وابنتيّ نورا وكلارا وزوجها أحمد ، ومعنا عائلة ابو مطلق التي كانت قد نزحت لطرفنا بعد ان دُمر  منزلهم أوائل ايام العدوان ،الليلة الاولى في الجمعية التي تضم روضة أطفال وعدد من الصالات ومكتبة عامة تحمل اسم الرفيق المربي كمال الطويل رفيق معين بسيسو في خمسينات القرن الماضي  وحديقة فائقة الجمال تزينها الأشجار  ومراجيح وألعاب الأطفال  والملاعب المعشبة ، افترشت فيها العائلات الثلاث الواح الكرتون تحت الدرج واتخذت من بطانية النزوح غطاء بينما نمتُ على مقعدٍ خشبي في حديقة الجمعية  تحت أشجار  الكينيا التي امتد عمرها لسبعين عاماً ،  هناك وجدنا خليط من الأُسر التي سبقتنا للنزوح بعد ان دمرت منازلهم في مخيم الشاطىء وبيت حانون وأبراج المخابرات وشارع الجلاء  والميناء عائلات مختلفة وثقافات متنوعة يجمعها الهم والغم والألم ساعدونا ظهيرة اليوم التالي لفتح احدى الصالات التي ما زالت مقفلة حاول العديد ممن يعرفونني فتح صالة المكتبة لأقيم فيها لكني رفضت بإصرار خشية على ما تحتويه من كتب قيمة ستكون معرضة للضياع ، سارع الناس لتقديم ما لديهم من فائض وأحيانا من حاجاتهم الخاصة من بطانيات وفرشات إسفنج تدبرنا امورنا بموقد للخبز والطبخ التي تولته ام حسين بخبرة ما عايشته من حروب وحصارات عدة في مخيمات لبنان ، تساعدها معلمة اللغة الفرنسية السيدة وهيبة الجزائرية الأمازيغية المتزوجة من المهندس ماهر ابو مطلق والبنات كلارا ونورا وعبير وجميلة  بترتيب ما تلزمه إقامة النزوح الممتدة لوقت طويل ، بينما تولى الشباب أحمد زوج كلارا وعاصم ومسلم و أنا تعبئة المياة من مسافات بعيدة وغالباً تحت زخات الرصاص ولهيب الموت ، طال البقاء واشتد الكرب وزادت حدة القصف من السماء ومدافع الميدان في ظل تقدم متدرج  لآليات الاحتلال في ظل معارك مواجهة وتصدي ضارية على عدة محاور من مناطق غرب وجنوب مدينة غزة ، ومع اشتداد وطأة الهجمات بدأت المواد التموينية بالنفاذ  إلى أن حَلت الهدنة الموقتة التي استمرت لاسبوع في تمام الساعة السابعة صباح  يوم جمعة الهدنة انطلقت سيراً على الاقدام مستطلعاً امكانية الوصول للبيت الذي يبعد عن مقر الجمعية نحو اربعة كيلو متر ، مشيت  بين الجثث الملقاة على جانبي الطرق وقد تحللت  أغطي ما استطعت منها  واسحبها نحو جوانب الطرق ، مشيت احياناً وركضت تجنباً لخطر قناص متربصاً لاصطياد  ضحيته على مفترقات الطرق الموحشة ، بين انقاض العمارات وبقايا السيارات مشيت متنقلاً بين الحفر ورائحة الدخان واللحم المحترق  تفوح قبل ان تصل سيارات الإسعاف  وما تبقى من الدفاع المدني لإطفاء الحرائق وإخلاء الجثث من الشوارع والأزقة ، بعد وثبات متتالية وصلت للبيت او ما تبقى منه رغم الخطر المحدق حيث تتمركز دبابة احتلالية مكشرة عن انيابها على مفترق جوال غرب دوار ابو مازن، و بعد أن تفقدت كل بيوت البرج عدت كما وصلت سيراً على الاقدام من طريق مختلف تفقدت فيه بيوت الرفاق والأحبة فكان الكثير منها مدمراً بعد ان هجرها اصحابها ، ومع ساعات بعد الظهر واستقرار الهدنة وتحديد مناطق التحرك عدنا بالسيارة وبسرعة جنونية اجتزنا دوار الو مازن حيث تتمركز الدبابة وتطلق نيرانها على كل  من يتجه غرباً كانت البنات وحارس البرج وأحضرنا فيها بعض من الملابس الشتوية وجمع المواد التموينية من صنوف متعددة من المعلبات والأرز والمعكرونة والطحين على بعد أمتار من فوهات مدافع الدبابات  ولأسبوع كامل  أعاد الناس تنظيم أمورهم وكررت العودة لتفقد البرج المكون من ٥٤ شقة هجرها ساكنيها جنوباً اقفلت بإحكام مداخله وابواب الشقق التي مزق القصف أبوابها بعد ان انتشرت عصابات النهب ولصوص الميدان التي نهبت المحال واتجهت بعدها لتسطوا على الشقق وبيوت الناس ،، بعد اسبوع من الهدوء الحذر خلال الهدنة التي أنتهت قبل الساعة السابعة صباح يوم السبت عادت الحمم تتساقط من السماء ومحيط الجمعية يتعرض للقصف بشكل يومي تتزايد حدته ومعه تتوتر الأعصاب ويفقد الناس أعصابهم وتبدأ المشاكل تارة بين الأطفال وأخرى بين الشباب مختلفي الأمزجة والثقافة نسارع نحن الرجال لحلها قبل أن تمتد وتتسع  ، تداعينا  عدد من أرباب الأسر وشكلنا لجنة لادارة المرحلة  التي تطول دون أفق ،من ابو العبد حمو وصامد الحسني وهاني الحلو ومحمد الحسني والمختار مازن الحسني واحمد قدادة وأنا ، دأبنا على عقد اللقاءات يومياً وكلما دعت الحاجة حددنا نقاط علينا العمل عليها تمثلت بسلامة المكان ونظافته وتوفير ما أمكن من غذاء  واحتياجات الناس الذين تركوا وحدهم يواجهون المصير دون  اي شكل من أشكال المساعدة من الذين يتراقصون على الفضائيات متحدثين عن صمود الناس دون توفير حدودها الدنيا ، جمعنا التبرعات من بقايا ما يحمله البعض من نقود شُحت لشراء  مواد تموينية وزعت حسب الحاجة فتقاسم الناس كسرة الخبز في زمن القحط ، كما اعتمدنا في مرحلة لاحقة جمع شيكل يومياً  من كل أسرة لتأمين السولار لتشغيل الكهرباء لساعتين لضخ مياه البئر  المياه المالحة ولتنظيف المرافق وأرجاء المكان ، وبينما نواصل توفير مقومات البقاء متطلبات البقاء احياء  ورفض النزوح كانت المنشورات ودعوات الإخلاء نحو الجنوب تلقى فوق رؤسنا وعبر رسائل الجولات والاتصالات حين تتوفر الشبكة وكنا نقرر تجاهلها ونعتبرها أسطوانات ، المشورات يجمعها الأطفال وتصبح  وقوداً لاشعال النار للخبز والطبيخ ثم يذهبون لقضاء  جل  أوقاتهم في اللعب  على الأراجيح الموزعة في ارجاء الجمعية تغني خلالها الفتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة  آية العمودي ( اي اليوم الحلوة ده وعندما يسارع احدٌ لحملها حين تتعثر ترد بالغناء ، اي الناس الحلوة دي ) آية هذه استشهدت إلى جانب شقيقتيها في اليوم الأخير  من القصف على الجمعية حيث كان وحش القصف يقترب من الجمعية أكثر فأكثر

 

  • إلى أن أضحت في مركز الاستهداف القاتل وسقطت قذيفتين مساء يوم ١٥-١١ في الغرفة المجاورة لمكان اقامتنا وخمسة اخرى في المحيط  وتوالى القصف اليومي واشتد مستهدفاً مبنى البلدية الذي انهار يوم ٣–١٢ على احد زوايا الجمعية  حيث سقط  عدد من الجرحى ولشدة القصف الذي اصاب سيارة الإسعاف القادمة لانقاذهم  وجراء استمرار  النزيف واستشهد  الشهيد عماد سالم  فزرعناه زهرة في رحاب الجمعية بعد تعذر الوصول لاي مقبرة في غزة لدفنه، وقبل ان يبكر صُبحِ يوم الجمعة  ٨-١٢  بدأت آليات الاحتلال بالتقدم نحو شارع الجلاء وقصفت الطائرات جامع الأنصاري وما تبقى من مبنى البلدية تطايرت الابواب وتحول الزجاج إلى سهام وسقط الشهداء احدهم فتي لا يتجاوز خمسة عشر عاماً مجهول الهوية استشهد على الشارع مقابل الجمعية قمت مبكراً مع نضال الحلو ابو العبد بسحب جثته التي مزقها الرصاص مع الفجر ودفناه إلى جانب الثمانيني ابو هاني الحلو  الذي استشهد خلال ساعات الليلة بعدة رصاصات وهكذا فقد زرعنا حتى يوم الثامن من ديسمبر ثلاث وردات في ساحة الجمعية الغربي  ، منذ الثامن من ديسمبر بدأت الجرافات تتقدم نحو الجمعية تسبقها القذائف وزخات الرصاص  وقنابل الدخان تقدمت الجرافات  تغرس أسنانها الحادة بسور الجمعية تحطمه مع السيارات  تقتلع الأشجار من جذورها وكأنها تودُ إرغامنا  على الرحيل بينما نتمسك بالعناد والبقاء ، وهكذا قصفوا في اليوم التالي الصالة التى كانت مبيتاً للشباب بقذيفتين وعشرات قنابل الدخان وفي اليوم الذي يليه قصفوا الطابق الاول حيث عدد من العائلات وتوالت عملية الرعب قصفاً بمدفعية الدبابات وقنابل الدخان وزخات الرصاص ، ومع كل موجة نوزع الكمامات على الناس ننقلهم من الأماكن التي دمرت لصالة اخرى ظناً انها اكثر أمناً ، قنابل الدخان اصابت الجميع بالاختناق ،،نورا ابنتي التي طالما تحتضنني مع بدء كل هجمة  تكاد على اثرها أن تختنق من الدخان وتستفرغ بشدة تقاوم الاختناق بعزيمة وأمل تتمسك بيدي تصر على ان تكون معي حتى في لحظات مواجه الموت أشد من أزرها وأحثها على ربطأة الجأش للتغلب على الصعاب إلى أن اشتدت صلابتها وقدرتها على تحمل ما تعجز الجبال عن حمله ، وكذلك كانت كلارا وزوجها أحمد يسرعون من غرفتهم على طرف الجمعية فنلتقي بمنتصف الطريق لنطمئن على بعض كنت أخشى عليهم فهم نسجوا علاقات  واسعة فتحت افاق استمرار زيارة العائلات والانتقال من صالة لأخرى دون حساب دقيق لدرجات الخطورة وتوقيتها ، يوم الخميس ١٤ كانون الثاني أصبحت الدبابات تحيط بالجمعية من كل جانب تمركزت شرقاً على شارع اليرموك على بعد خمسة عشر متراً ، وغرباً على شارع الجلاء على بعد عشرة أمتار  ، الدبابات والجرافات ابتلعت واقتلعت ستة من  الصالات وواصلت  استهداف المتبقي منها ، الرصاص يخترق الشبابيك والجدران والقذائف تتساقط في ساحتها والقناصون يصطادون كل متحرك ، مع ساعات المساء  الاشد عنفاً وفتكاً  كنتُ مستلقياً حين سقطت قذيفة على بعد أمتار من الحائط الشرقي للصالة التى نسكنها ،لوح الزجاج سقط على رأسي فتحطم وبقي رأسي يابساً صامداً كما هو لم يسقط اللوح  الحنون بزاوية حادة كانت ستمزق الرأس دون شك ، علا صراخ ام حسين ونورة ومن معنا فيي الصالة طمأنتهم أنني بخير واستعدت لأطمئنهم مع ام حسين واقعةٌ  طريفة اثناء وجودنا في مخيم شاتيلا حين تدحرجت على الدرج  لأكثر من عشر درجات فتكسر حواف الدرج من الصلب  لكن رأسي لم يتأثر والطبيب الذي اخذ لي صورة الأشعة في مستشفى غزة ببيروت  خشية نزيف داخلي متوقع   استغرب وضحك كثيرا قائلاً هذه صخرة وليس جمجمة  ضحكنا وزالت موجة الخوف لكن أزيز الرصاص لم يتوقف ،،

 

 

في اليوم التالي الجمعة  ١٥-١٢  وما أن بدأ قرص الشمس  يغادر كبدَ السماء متجهاً نحو الغرب زأرت الدبابات وتحركت الجرافات مصحوبة بزخات الرصاص من كل حدب وصوب ، القذائف تتساقط بين الفينة والأخرى والصراخ يعلو ومحاولات نقل الأسر لصالة آمنة مستمرة ، الرصاص يحفر في الجماجم يمزق البطون وفوهة مدفع الدبابة  المتمركزة على مسافة  قريبة شرق الجمعية تطلق حمم قذائفها فيتزامن صوت اطلاقها مع انفجارها لقصر المسافة ، تحترق الصالة في الطابق الاول اطفآل حفاة ونساء بأثواب الصلاة يصرخون يتراكضون نختطفهم ونزج بهم  نحو باحة الروضة والاحتماء بعرفها وكأن الناس يودعون الحياة من مربع الطفولة ،  احمد اليعقوبي الفتي المصاب بالخوف من دبيب نملة يصرخ  اهلي ابي اخوتي اين هم أحاول تهدئته والسيطرة على هلعه حتى لا يصاب الجميع بمثله فتدب الفوضى وتسوء الحالة اكثر ،  أطمئنه أننا سنحضرهم بخير وأحياء عندما تخف الهجمة لا تخاف انهم بخير  ، وهكذا كانوا ، بسرعة سحبت نورا  تحت إبطي من بين حبات الرصاص المتطاير من كل اتجاه ساعدني في ذلك خفة وزنها كما خفة دمها وبسرعة  أوصلتها لام حسين التي كانت قد ذهبت  للروضة للتعزية بالشهيدة الحاجة أم عدنان التي سقطت قبل يوم وزرعت حفيدتها مريم على قبرها في ساحة الروضة وردة ودمعة ، مريم  هذه الطفلة ابنة سبع سنوات جسدت الطفولة بكل برائتها تبتسم رغم الحزن تحادث الكبير والصغير تداعب كل من تلتقيه في ساحة الجمعية تغني وتزرع الامل في بحرَ الحزن فأحبها الجميع فغدت طفلة الجمعية المدللة وبقيت هكذا ، في اليوم الأخير من ايامنا في مقر الجمعية بدأ ارتقاء الاحبة شهداء بالتتابع  ،حسين سري النازح من مخيم الشاطىء مع شقيقته انشراح يحنو عليها وأبنائها كما تحنو عليه فأوصاها بأن تُصبر امه إن استشهد ، حسين هذا صاحب الابتسامة الآخذة والشخصية الهادئة الصلبة شجاع وطيب القلب يقدم المساعدة لكل محتاج بجهده وجيبه الشخصي يسير مسافات تحت الخطر لاحضار ماء الشرب يتنقل بصحبة زوج ابنتي احمد ابو ظاهر الذي يحضر الحرب الولى بعد ان عاد مطلع العام إلى غزة قادماً من مصر حيث ولد وترعرع ، وحامد جرادة الهادىء هدوء البحر وهيجانه احياناً رعاه والده العصامي الامين بعد أن توفت والدته رباه بحنية اب وأم ينقله من مكان لاخر خوفاً عليه ، يتحركون بصحبة حسين بدون ضجيج للحصول على  احتياجات لاخته وابنائها الذين احبهم وأحبوه ولكل محتاج يجتمعون كل مساء على عملَ رز بالحليب على الطريقة المصرية التي ابدع فيها احمد وقد تذوقها معظم النازحون في الجمعية  فغدت طلب الجميع  ساعات الهدوء النادرة حسين الذي سمع صراخ الناس وعرف ان ابنة اخته بين المصابين  اصر على  الذهاب تحت الخطر ، حاولت منعه وشددته بكل قوة قلت له انتظر يا حسين دقائق لتخف حدة  اطلاق النار وتفريغ مخازن الرصاص ونغتنم فرصة تبديل الخزنات ننطلق نحوهم لكنه اصر وانطلق كالسهم لكن عاجلته صليةٌ كثيفة في جزئه الاسفل شاهدت الرصاصات  التي اصابته في مقتل وهو يتدحرج  على بعد أمتار عشرة من زواية احتمائي حيث كان معي قبل دقيقة ليرتقي حسين شهيداً يعانق شقيقه حسن الذي سبقه عام ٢٠١٤ . في لحظات الهدوء التي كان نختلسها من بين ثنايا الموت كان ابو العبد نضال الحلو الذي رافقني رغم الخطر  ورصاص القناص لسحب جثمان الشهيد مجهول الهوية يجالسني للحديث عن التوقعات والاحتمالات وبعض السلوكيات السلبية التي قام بها بعض الفتية والشبان خلال الوجود في الجمعية خاصة ظاهرة الاقتحام التي شهدتها بعض المحال والبيوت بحثاً عن ملبس ومأكل وقد تجاوز البعض في ذلك خشينا ان تتحول إلى ظاهرة تصعب عاقبتها ، نتحدث معاً عن الامل والمستقبل وحميمية العلاقات التي نشأت بين الناس الذين جمعتهم المآساة فغدوا اقرب لعائلة واحدة يعيشون الحزن والفرح معاً وهذا ما يجب أن يستمر بعد انتهاء الحرب ،، مع الهجمة النارية هذه حاول نضال سحب ابنته من تحت الرصاص وابعادها عن مرمى النار فعاجلته رصاصة قناص حاقد مزقت جمجمته اللامعة فرحل تاركاً زوجته الهادئة الرزينة أم العبد التي طالما اصطحبت إبنتها ديما الحامل بالشهر الخامس لتجالس زوجتي وبناتي في لحظات الهدوء النادرة يتحدثن عن المستقبل يتواعدن على التزاور بعد انتهاء الحرب التي انتزعت أحبةٌ كثر من بين ثنايا القلوب فرحلت ديما وجنينها تعانق أبيها نضال عناقاً أبدياً في سجل الحنان والمجد ، وشهد ابنة خالها الفتاة الباسمة دوماً كانت حريصة على نقل بدلتها البيضاء اينما نزحت تنتظر يوم الفرح لتزف لعريسها بعد شهر ترفرف مثل الحمامة البيضاء تزرع الفرح توزع الابتسامة بتواضع لصبايا الجمعية اللواتي  عاهدَنها بالعمل أن يكون يوم عرسها بهيجاً تزغرد فيها النساء في يوم فرحٍ  لكل الناجون من المحرقة كنا جميعاً نتوق أن يكون يوماً هو الأجمل لكنها رحلت تاركة في القلوب غصة والعين دمعة  لتعانق صديقتها وابنة عمتها ديما وأبيها نضال ، الفتيات إسراء واية العامودي اللواتي استشهدت شقيقتهن قبل الهدنة بيوم واحد، تعرضت الصالة صالتهم التي كانوا يقيمون فيها  للقصف مطلع الأسبوع العنيف وقد تم نقلهن لمكان مع والدهما وشقيقيهما لصالة المكتبة مع عائلات اخرى بعد أن تم فتح بابها وأشرفت على حفظ موجوداتها ونظمنا طريقة استعارة الكتب لمن يرغب من هواة القراءة  ،، عائلة العامودي هذه التي تميزت بالبساطة والعوز  الشديد  وحظيت على تعاطف الجميع ، هاتين الفتاتين مزقتهن رشقات الرصاص وهن على الدرج فاغتسلت درجاته بالدماء  بينما يعلوا  صوت شقيقهم بالصراخ  يالله والله حرام ثلاثة مرة واحدة من عائلة واحدة " لكن الحساب بعدين "  ،،،

 

 وحسن الزغل الذي لوحت شمس غزة وجهه الصبوح فغدا جميلاً كما تراب فلسطين وصلباً بسواعده التي تفولذت وهو يعمل سمكري سيارات اخترق الرصاص جسمه فمزقه  وسال دمه مدراراً يغرق الكتب المكدسة في ركن من زوايا المكتبة ارتقى حسن شهيداً يكتب بدمه على صفحة في زاوية المكتبة هنا في صالات الجمعية نفذ الاحتلال يوم الخامس عشر من ديسمبر مجزرة اخرى  قتل فيها ثمانية من الشهداء الأبرياء بدمٍ بارد باغتهم الرصاص من الشبابيك والأبواب  اربعة منهم في الغرفة الملاصقة  لغرفتنا فقط لانهم اصروا على عدم النزوح هؤلاء الشهداء  مثلوا خاتمة لملحمة صمودٍ في جمعية الشبان المسيحية استمرت سبعون يوماً  بالاعتماد على  الذات بعد أن عجز المتبجحون على توفير  زجاجة ماء وعلبة حليب  لطفل او دواء وسيارة اسعاف تنقل جريح قبل ان يموت نزيفاً ،،  طيلة  ساعات الليل الذي  لم يتوقف فيه القصف والرصاص تشاورنا بهدوء وقررنا ترك المكان السبت احضرنا الجرحى  تحت لهيب القصف وزخات الرصاص جمعنا جثامين الشهداء  على امل ان نتمكن من العودة بتنسيق من الصليب لإحضارهم لكنه تعذر  حتى كتابة هذه السطور  وهكذا بقيّت قطعٍ من أفئدتنا هناك في مقر الجمعية وزرعنا في ساحة الجمعية المعشبة ثلاثة عشر من الزنابق التي ستتفتح ذات يوم ونتمكن من نقل جثامينهم كما هو حال الآلاف من الشهداء الذين ما زالوا تحت الأنقاض يتعذر  الوصول لهم إلى المقابر التي لم تعد تتسع  ،    خلال ساعات الليالي الحالك والوقت الهالك كنت استرد الأنفاس  من وقتَ لاخر اذهب للصالة تحت أزيز الرصاص لاحضار اغراض النزوح المعدة للتحرك استمدّ البعض العزيمة لفعل ذلك بنفس طريقتي وحذري حتى احضرنا ما هو لازم وضروري لايام مجهولة قادمة ،،

 

طيلة ليلة السبت ١٦-١٢كان قد اكتمل جَمع  جميع النازحين في الروضة قضوا ليلتهم يحتضنون بعضهم والشهداء  يعالجون الجرحى يستخرج من لديه الخبرة والشجاعة الرصاص بادوات بدائية والكي بالنار من بطن بهاء بدوي وقدم وعين شقيقيه سميح وعبد الرحمان  والشظايا  من رأس  محمد الحلو  واقدام  أخيه كريم وتحرير زوجة الشهيد عماد سالم  والحداد،   والجرحى سهيل الداودي وعيسى وسط صراخهم الذي علا في اجواء المكان رغم وضع  قطع القماش على أفواههم لتحمل الالم تصبب العرق من جباههم يرتجفون برداً  وارتفاع درجات الحرارة  يئنون حتى الفجر ، القرار بالمغامرة والمغادرة كان لا بد منه لإنقاذ حياة الجرحى ونحو ثلاثمائة من النساء والأطفال والرجال ، صبيحة يوم السبت السادس عشر من ديسمبر أبلغنا الجميع  بأننا سنخرج معاً بمغامرة تجنباً لوقوع المزيد من الضحايا كنت  قرأت معالمها ترتسم بوضوح ميداني لذلك سارعت اثناء الليل بتوجه مناشدة تولى الرفيقان وجيه ابو ظريفة وفهمي شاهين وابني معين وزوجته ضحى الذين عملوا  بجهد مميز طيلة ايام العدوان وتزايد الخطر  على تعميمها لمختلف وسائل الاعلام والاحزاب الصديقة واصبحت قضية المحاصرين المهددين بالموت في جمعية الشبان خبراً متداولاً وهذا ما أردناه لمحاصرة اي نوايا من الاحتلال بتكرار نموذج مذبحة مستشفى المعمداني ، تمام الساعة الثامنة والنصف انطلقنا كنت ومعي ابو العبد حمو وابنه وابو محمد  النازح من بيت حانون نتقدم الجموع حملت بعض النساء ريات بيضاء رجوتهن عدم رفعها إلا حين يلزم الأمر  في لحظة اجتياز شارع الجلاء خرجنا من باب الجمعية علا صوت الله اكبر الله اكبر ، صرخت بأعلى صوتي دائماً "الله اكبر " لكن في مثل وضعنا هذا يجب  التحرك بصمت وهدوء دون هتاف أو صراخ تحنباً لغدر العدو ، وصلنا للممر الجنوبي الذي يربط الجمعية بشارع الجلاء وبدأ الجمع ينكمش للخلف وكما يقال رِجل لورا ورجل لقدام ، في ذاكرتي كانت مقولة دوليس اباروري احدى قائدات الحزب الشيوعي الإسباني إبان الحرب الاهلية ( بأنه في مواقف معينة ، لا خطوة للوراء ) تقدمت بخطىً ثابتة ووجها لوجهة مع دورية احتلالية راجلة تقدمتها دبابتين وناقلة جند يسير خلفها خمسون جنديا صوبوا بنادقهم ثلاثة نحونا وشارات الليزر تتراقص على الجبين  منذرة بطلقة بأي لحظة من مسافة  عشر امتار  طلبوا من الجميع رفع الأيدي والوقوف مكاننا وأياديهم على الزناد ناديتهم بالعربية نريد الخروج من الجمعية لمكان آمن  نحن  ٣٠٠ من النساء والأطفال والمرضى والجرحى طلبت ان اتقدم اكثر ليسمعوا جيدا  اشار بيده ان أتقدم وجندي آخر يسلط مقبض الكومبيوتر نحوي ( يبدو لفحص الهوية عبر بصمة العين ) وقال تعال  واخلع الجاكيت  وارفع ايديك ، دائما في مثل هكذا ظروف ارتدي اكثر من واحدة في تلك الليلة كنت ارتدي ثلات جاكيتات وترنغات رياضة وبلوزة صوف وفانيلا  تحسباً للنوم في الشارع او اي مكان  ، خلعت الاولى بنية اللون التي كانت قد اخترقتها واخترقت الثانية والثالثة  شظية عند الرسغ وحطمت مينا الساعة الفاخرة من نوع Jacoues lemans كان قد أهداني اياه ابني حسين حين التقيتنا في فرح كلارا بالقاهرة اواخر العام الماضي  ، وتقدمت خطوات وصرخ اشلح كمان جاكيت فخلعت الثانية الزيتية واستمر اشلح كمان وتقدم خلعت السوداء وكذلك الترنغات وخطوت نحوهم  على ببعد خمسة أمتار وقفت في مكان يمكنني بقفزة الاحتماء خلفه فيما لو تدهور الامر ،، سأل احد الجنود باللغة العربية مين انتم وكم واحد أجبته نحن  نازحون  نقيم في الجمعية نساء وشيوخ وأطفال نحو ثلاثمائة شخص ، نريد الخروج  لمكان امن لان المكان يتعرض لقصف يومي وهناك جرحى وشهداء  ، سأل ليش ما رحتم من زمان للجنوب رددت عليه نحن لا نريد الخروج من غزة ونغرق في رمال الصحاري بيوتنا هنا بدنا نرجع لها ، طلبت ان اتقدم اكثر والبنادق  مصوبة لجسدي وعلامات الليزر تتلألأ  على الرأس والصدر  صرخ خليك واقف وبعد قليل قال البس وارجع  مكانك وأبعت الشب الي لابس فنايله "محمد حمو  "  حاول والده وشخص آخر كبير في السن الذهاب بدلاً منه فقال كلو يرجع ويجي هو فقط ، سألته كيف سنخرج ومتى قال ابقوا مكانكم الآن ،،

 

وصلهم الشاب الشجاع رافعاً يده كبلوه واقتادوه معهم  حتى ساعات المساء ثم اطلقوا سراحه وطلبوا منه التوجه جنوباً لان كل نازحي الجمعية لكنه اتجه غرباً ليلتحق بعائلته الطيبة ، وابقوا الجمع جالساً فوق اكوام الركام  في الممر الممتد بطول خمسة وعشرين متر وعرض خمسة أمتار  بين عمارتين متهالكتين فكانت لحظات صعبة لم  تغادر السماء فوق رؤوسنا طائرة الكواد كابتر والدبابات تجوب من حولنا من شارع الجلاء نحو شارع اليرموك ذهاباً وإياباً وسط اطلاق نار واشتباكات متواصلة في محيط المكان ، لحظات عصيبة توقعت فيها ان يعاد فيها قصف مبنى البلدية  أو جامع الأنصاري تحت اي حجة فتنهار بقايا المبنيين على الناس في مجزرة تضييع معالمها تحت الركام ، الوقت من دم  بدأنا بالاتصالات  المكثفة مع مكتب الصليب الأحمر الذي وعد بالتحرك ورد بعد نصف ساعة انه لا يمكنه عمل شيء ، اتصلت بالرفيق رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة عصام مخول  والنائبة عن كتلة الجبهة عايدة  توما وحاولت الاتصال برئيس الكتلة ايمن عودة، وضعتهم بالصورة وعدوا بسرعة التحرك وبذل كل جهد لاثارة القضية  تواصلت معي عايده المثابرة توكّد انها وزملائها يثيرون الأمر في المحافل كافة وان القضية اصبحت قضية رأي عام متداولة بقوة ، الكتيبة الاعلامية من الرفاق وجيه ابو ظريفة  ومنجد ابو جيش وفهمي شاهين وجميع الرفيقات والرفاق والأصدقاء والأشقاء العرب الذين لم يوفروا جهداً  لاثارة القضية كل  بإستطاعته وظروفه ، وكذلك ضحى ومعين الذي نقلوا الصورة أولاً باول  و غدت تحت أعين الناس وهذا كان كافياً  لتاجيل الجريمة ان لم تنجح في إحباطها ذلك الحين ومثلت ايضاً فرصة لالتقاط الأنفاس  والتفكير بالخطوة اللاحقة  ، اتصل الرفيق بسام الصالحي للاطمئنان وعما يمكن القيام به ، طلبت فقط اثارة القضية حتى لا نموت خلسة وبصمت وينجح الاحتلال بإخفاء الجريمة ، عاد لي باتصال مؤكدأ ان الأمر قيد المتابعة بفعل اتصالات من كُثر مع الصليب الأحمر  ومع ممثل الامم المتحدة  في الشرق الاوسط "تور وايسلند " جملة هذه الاتصالات والتحركات وتسليط الضوء على هذه  القضية بسرعة اعاد لنا الامل ، ان الذي عاش في زمن العواصف وعاش تجارب مماثلة يمكن ان يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب لإنقاذ الناس وحفظ حياتهم  في غمرة هذه الاتصالات كنت  أراقب موعد تحرك الدورية وكم تستغرق من الوقت وكم هي الدقائق التي يمكن التحرك فيها بخطورة أقل إلى ان أزف الوقت في ظل  تصاعد أنين الجرحى الذين تشجعوا قائلين هيك هيك ميتين ، ومع موعد تحرك الدورية المتكرر بانتظام وسماع صوت جنازير دبابتين وعربة مصفحة وجيب همر  قلنا للناس بصوت عالي بعد عبور الدورية نتحرك بسرعة امامنا من الوقت ربع ساعة او اكثر قليلاً  لتجاوز الخطر احملوا الجرحى بمن فيهم اللواتي أصبن في ممر الموت الدكتورة ربى الحسني ودعاء الكباريتي ، كما توفت الحاجة  المقعدة حماة الدكتور حسام ، وكذلك احملوا ما لديكم من شنط مؤونة وننطلق معاً بسرعة  نجتاز شارع الجلاء باتجاه شارع الثورة حتى مفترق فلسطين وننعطف يساراً باتجاه شارع الوحدة ونكون قد تجاوزنا الخطر  ، هكذا كان وحمل كلٌ متاع النزوح وعاصم طيب القلب حمل والده المقعد ماهر ابو مطلق  على ظهره والأطفال يتراكضون حفاة ومريم تقول ابو حسين أبو حسين  ضاعت فردة حذائي متى رح نرجع نجيبها ،  بالعزيمة والإصرار والمغامرة كانت المغادرة وصلنا للمنطقة الآمنه جزئياً  واخذ الناس يسألون من اين قادمون شربنا مياه الابار رغم ملوحتها  وأرشدونا بالطبع لاكثر الطرق  امناً تجنباً لرصاص القناص ،  قبل ان نتفرق  ويلتقط كل منا انفاسه اتفقنا ان نلتقي قرب محطة عكيلة قرب الميناء حيث انتظرنا عددٌ من اصدقاؤنا الذين  كانوا  قدغادروا الجمعية قبل اسبوع وهيئوا مكاناً لاستقبال العائلات التي لا تتمكن من وجود مأوى ،،وصلنا لتلك المنطقة حيث يسكن إيضاً الرفيق حسام عبدو ابو فراس الذي احتضنني والدموع تترقرق في مقلتينا نقلني وعائلتي لشقة كريمة نتدبر فيها أمورنا حتى يستقر الوضع ، نمنا دون هز كما يقال وما أن اصبح الصبح يوم الاحد حتى تجمعنا  معاً في المكان حيث تقيم عائلات الجمعية التي عشنها وإياها معاً ايام الوجع والنزوح المستمر وواجهنا شبح الموت الذي ما فتىء يحصد في غزة وكل فلسطين الالاف الشهداء يومياً بينهم  ثلاثة عشر وردة غرسناهم شهداءٌ في حديقة جمعية الشبان وعشرات الجرحى بعد سبعين يوماً من الثبات ورفض كل شعبنا لمخطط التهجير  كما  صمدت خلالها كتيبة النازحين في جمعية الشبان المسيحية بكل شموخ واعتزاز ،                                                                *ملاحظة وبعد الانتهاء من كتابة هذا المقال ومضي ايام ثلاثة ونفاذِ ما كنا قد جلبناه من مواد تموينية اصطحبتُ أحمد تسللاً بين البيوت المدمرة ودخلنا الجمعية وثباً تحت النار  وزخات الرصاص وأحضرنا تمويناً واغطية وطحين لايام قادمة من الحياة.    

 

* عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني ( كتبَ في غزة ٢٠ - ١٢-٢٠٢٣)

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت