في ظلام الليل الحالك وعلى وقع الانفجارات والغارات الإسرائيلية المتواصلة شرق مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة؛ نزحت العائلات بخطى متثاقلة تحمل على ظهرها حقائب صغيرة وبعض الأمتعة الضرورية، استجابة لأوامر الإخلاء الإسرائيلية الجديدة.
وتقطع العائلات المنهكة، بفعل تكرار عمليات النزوح، بأطفالها ونسائها وكبار السن والمرضى، مسافات طويلة من المناطق المخلاة شرق خان يونس إلى منطقة المواصي غرباً، تصل إلى نحو 4 كيلومترات.
ويتقدم الرجال الركب، وخلفهم، تمضي الفتيات والأطفال، مثقلين بالهموم والأمتعة على ظهورهم، في ظل ندرة المواصلات بسبب نفاد الوقود اللازم لتشغيل المركبات.
ويجر رجل مسن أمتعته على عربة بلاستيكية صغيرة مصنوعة يدوياً، حملت هي الأخرى بعضاً من الأغطية والفراش لتخفيف عبء هذه الأمتعة عن ظهره.
وبجانبه تسير زوجته مرتدية غطاء الصلاة الذي بات في قطاع غزة، زياً تقليدياً للنساء في ظل الحرب الإسرائيلية المدمرة وعدم توفر الملابس في الأسواق.
وتقول سيدة بعلو صوتها، وهي تلتفت يمنة ويسرة حتى لا تفقد زوجها وأبناءها الأطفال "حسبي الله ونعم الوكيل"، وتتساءل: "ما ذنبنا؟! ما ذنب هؤلاء الأطفال أن يستيقظوا في منتصف الليل على خبر كارثي كهذا؟! أين العالم مما يحدث لنا؟!".
وعلى الناصية الأخرى من الطريق، يسير مواطنٌ آخر برفقة والدته المسنة، وشقيقته الأرملة، وأطفالهم، ويُحدث نفسه وهو يجر جسده المثقل بالهموم وبالأمتعة: "هذه مصيبة، أين نذهب؟!".
وبينما يتقدم في الظلام مئة خطوة، يعود إلى الخلف أضعاف مضاعفة، بحثاً عن أفراد عائلته وسط الظلام والتوتر الذي يخيم على الجميع.
ويصرخ بملء فيه، من شدة خوفه وقلقه على عائلته، طالباً منهم السير خلفه سوية حتى لا يفقدوا آثار بعضهم البعض، في هذا الظلام الحالك.
وأمامهم تعاني فتاة صغيرة مشقة النزوح لمسافة طويلة، وهي تحمل شقيقها الرضيع وتتحمل مسؤوليته، وتضع حقيبة على ظهرها، ولا تكاد تقدر سوى على السير.
وما إن وصلت العائلة إلى أحد شوارع منطقة المواصي غرب خان يونس والتي تفتقر إلى البنية التحتية والظروف الحياتية المناسبة، حتى جلس أفرادها أرضاً من شدة الإعياء والتعب، ينتظرون بزوغ الفجر.
وبجانبهم، تحمل طفلة صغيرة لا تكاد تفتح عينيها من شدة النعاس، زجاجة ماء أحضرتها معها من منزلها لتروي عطشها بعد مسير طويل، بينما تقف شقيقتها الصغرى بجانبها حافية القدمين، بعد أن غادرت منزلها على عجل، دون أن تتمكن من ارتداء حذاء يقيها مخاطر الطريق.
وتستلقي العائلات كباراً وصغاراً على أرصفة الطرقات، يعانون من الألم والعطش، محاولين النجاة في عالم يضيق عليهم في كل لحظة، وتفترش تلك العائلات الأرض في منطقة المواصي وتلتحف السماء، في مشهد يتكرر مرة تلو الأخرى.
ويردد مسن لم يعد يقوى على الحركة: "نحن نموت في اليوم ألف مرة، إن لم يكن بالصواريخ، بالمعاناة والذل والهوان".
ويلقي المسن حقيبة الظهر التي يحملها على الأرض بقوة، قبل أن يعاود التقاطها وفتحها ليخرج منها زجاجة ماء وقطعة قماش، اكتفى بإحضارهما معه ليروي عطش الطريق وإلقاء جسده المنهك على الأرض، لعله يشعر بالراحة في هذا الواقع القاسي والمرير.
وفضلت إحدى العائلات عدم البقاء في الشارع، واحتمت بجدران مركز إيواء في أحد مدارس منطقة المواصي، رغم امتلاء المركز عن بكرة أبيه.