تقرير أحمد زقوت منذ بدء الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، بدأت ملامح خارطة سياسية جديدة تتشكل في منطقة الشرق الأوسط تحديداً تجاه القضية الفلسطينية، وبعد الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع رسمياً، بقي مستقبل غزة ومصير "اليوم التالي" للحرب مجهولاً، وهي المسألة الأبرز التي ستؤثر على الساحة العربية والدولية بشكل كبير.
ويرى مختصون سياسيون ودوليون، أنّ تداعيات وآثار الحرب على غزة المصحوبة بمستقبل سياسي غامض في ظل الانقسام الداخلي الفلسطيني، والحاجة إلى الإغاثة الإنسانية في مختلف القطاعات الحيوية، وإعادة الإعمار بمساعدة وتمويل من الجهات الإقليمية والدولية سترسم طريقاً جديداً للتعامل مع القطاع من جانب و"إسرائيل" من جانبٍ آخر التي تتخوف من تهديد وجودها المستقبلي على إثر الاتفاق المبرم مؤخراً.
مراجعة سياسية شاملة
وتعقيباً على ذلك، يؤكد الكاتب والمحلل السياسي أكرم عطاالله، أنّ "الحرب على غزة منذ 15 شهراً، كشفت حجم العجز الدولي الكبير الذي وقف متفرجاً على الإبادة الجماعية التي ارتكبت بحق المدنيين الأبرياء باستخدام أعتى أنواع الأسلحة وإلقاء أكثر من 100 ألف طناً من المتفجرات على منطقة جغرافية صغيرة جداً"، مبيناً أنّ "هذه الحرب هي الكابوس الأطول في حياة الشعب الفلسطيني التي أخيراً قد انتهت، وتوقفت معها المذبحة بحق الأطفال والنساء والمدنيين".
وبشأن مستقبل غزة بعد الحرب، يوضح عطاالله لـ "قدس نت"، أنّه "لا ملامح سياسية ستظهر بعد الحرب بسبب الانشغال في القضايا الإنسانية وإعادة إعمار ما خلفه الاحتلال من دمار واسع في مختلف القطاعات الحيوية" مبيناً أنّ "الفلسطينيين هم بحاجة كبيرة إلى مراجعة سياسية شاملة في هذا الوقت الحرج، لأنّهم غير قادرين حتى اللحظة على تحقيق أي إنجاز فلسطيني لا بالسلام ولا بالسلاح، وهذا التشتت الداخلي أفضى وأودى إلى هذا المستوى من الأداء غير الناجح على الأقل في كافة الأصعدة".
وعربياً، يقول المحلل السياسي، إنّ "الأنظمة العربية كانت ضعيفة في موقفها تجاه الحرب على غزة، فهم لم يحاولوا الضغط على الاحتلال أو على الدول الصديقة له، وافتقروا إلى استخدام إمكانيات القوة المتوفرة لديهم، والتي إذا وجّهت إلى مسارها الصحيح لاستطاعوا إيقاف الإبادة منذ أسابيعها أو أشهرها الأولى".
ويلفت عطاالله، إلى أنّ "إسرائيل" تمكنت من سحق وإبادة قطاع غزة، وتهديد الضفة، وفصل الساحات بين أذرع المقاومة في المنطقة، فضلاً عن توجيه ضربة شديدة لحزب الله"، مبيناً أنّ التغيرات السياسية العربية التي حصلت مؤخراً خصوصاً في لبنان كانت نتيجة لتغير التوازنات بعد الحرب التي اندلعت بين إسرائيل وحزب الله، إلى جانب الذي حدث في سوريا، وهذا ما يؤكد أنّ التغييرات الإقليمية ونتائجها تحققت فعلياً أثناء الحرب على غزة.
التعافي الاقتصادي والدعم الإقليمي والدولي
وبخصوص تداعيات الاتفاق دولياً، يبين المختص في العلاقات الدولية عبدربه العنزي، أنّ "مستقبل غزة بعد اتفاق وقف إطلاق النار، خصوصاً على المستوى الدولي، سيتشكل من عدة عوامل تشمل الجهود السياسية والإنسانية والدبلوماسية، وبينما قد يحقق هذا الاتفاق تخفيفاً مؤقتاً من العنف المباشر، فإن المستقبل طويل الأمد سيعتمد على كيفية تعامل المجتمع الدولي والأطراف المعنية مع المسائل الرئيسية".
ويقول العنزي، لـ "قدس نت"، إنّ "هناك بعض الجوانب الحاسمة التي ستؤثر على مستقبل غزة، منها الإغاثة الإنسانية التي من المحتمل أن يلعب المجتمع الدولي دوراً محورياً في تقديمها، فضلاً عن إعادة الإعمار التي ستتطلب دعماً مالياً وتقنياً كبيراً من الأمم المتحدة (UN)، والاتحاد الأوروبي (EU)، والدول المانحة الأخرى"، مضيفاً أنّ "الهيئات الدولية ستمارس ضغوطاً على إسرائيل لرفع القيود المفروضة على التجارة والتنقل واستيراد مواد البناء والسلع الأساسية اللازمة لإعادة إعمار المنطقة، إلى جانب أنّ المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، سيكون لها دوراً كبيراً في تعافي الاقتصاد الغزي، من خلال الاستثمار في إعادة بناء القطاعات الرئيسية مثل الزراعة والبنية التحتية والطاقة، والذي سيخلق فرص عمل للشباب الذين كانوا أكثر المتضررين من الحرب".
تأثير الانقسام على حكم غزة
وعلى الصعيد الداخلي الفلسطيني، يشير العنزي، إلى أنّ "ضعف التماسك السياسي بين الفصائل الفلسطينية وتحديداً حركتي حماس وفتح كان عقبة كبيرة أمام الاستقرار على المدى الطويل، الأمر الذي سيجعل الفاعلون الدوليون يسعون إلى تحقيق مصالحة وطنية تؤدي إلى تشكيل حكومة فلسطينية موحدة"، موضحاً أنّ" السلطة الفلسطينية التي تحكم الضفة الغربية، ستحاول زيادة نفوذها في غزة بعد وقف إطلاق النار، ومع ذلك، ستكون هذه عملية حساسة وصعبة بالنظر إلى الانقسام السياسي الفلسطيني".
استقرار إقليمي يجلب السلام
ويؤكد المختص في العلاقات الدولية، أنّ "الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى القوى الإقليمية مثل مصر وقطر، سيعملون على وقف توسع المستوطنات في الضفة والدفع نحو حل الدولتين، بينما ستدافع العديد من الدول عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وتعتمد القدرة على تحقيق تغييرات ملموسة في شأن القضية الفلسطينية على رد فعل إسرائيل والديناميكيات المتغيرة في العلاقات الدولية"، لافتاً إلى أنّ" مصر وقطر وتركيا ودول أخرى سيواصلون ممارسة تأثيرهم على عملية السلام، وتجدر الإشارة إلى أن مصر كانت وسيطاً رئيسياً في اتفاقيات وقف إطلاق النار السابقة، ومن المرجح أن تلعب دوراً مهماً في ضمان التزام الطرفين بالهدنة الحالية، وقد تشارك قطر وتركيا، اللتان دعمتا حماس تاريخياً، أيضاً في جهود إعادة الإعمار والتنمية".
ووفقاً للعنزي، فإنّ مستقبل غزة سيكون له النصيب الأكبر في التغيرات الأوسع بالعلاقات العربية "الإسرائيلية"، حيث ستؤثر اتفاقيات التطبيع بينهم (مثل اتفاقات أبراهام) على كيفية تفاعل القوى الإقليمية مع غزة، التي إذا نجحت في تحقيق استقرار إقليمي أوسع، ستخلق ظروفاً أكثر ملائمة للسلام وإعادة الإعمار في القطاع.
قلق أمني يهدد مستقبل "إسرائيل"
وحول مخاوف "إسرائيل" من التهديدات المستقبلية لغزة، يقول العنزي، إنّ "الحكومة والجيش سيركزان على تأمين الحدود ومنع المزيد من الهجمات التي تشكل تحدياً لهم، وقد يشمل ذلك جهوداً من أجل نزع السلاح من حماس وباقي الفصائل الفلسطينية، لكنها يجب أن تكون متوازنة مع ضمان أمن واستقرار المنطقة"، مشيراً إلى أنّه "قد تُطرح مطالب بنشر قوة حفظ سلام دولية أو هيئة رقابة للإشراف على تنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار وللتأكد من عدم تصعيد العنف مرة أخرى، ومع ذلك سيتطلب نشر مثل هذه القوات موافقة من كل من الاحتلال والسلطات الفلسطينية، وهو ما قد يكون صعب التحقيق".
آمال الغزيون
وبخصوص تطلعات أهل غزة بمستقبل أفضل بعد نهاية الحرب، فإنّه من المحتمل أن يطالب سكان غزة، الذين عانوا من ويلاتها، بتحسين ظروف حياتهم، وزيادة تمثيلهم السياسي، وضمان أمنهم، وستشارك منظمات المجتمع المدني في الجهود المبذولة من أجل المصالحة السياسية وتقديم الخدمات التي ستعيد بناء غزة، بحسب العنزي.
ويختم العنزي حديثه مع "قدس نت"، أنّ اتفاق وقف إطلاق النار بغزة قد يجلب راحة فورية، إلا أن السلام والتنمية المستدامة فيها سيتطلبان جهوداً دبلوماسية شاملة، واستثمارات طويلة الأمد في إعادة الإعمار، وتغييرات كبيرة في الديناميكيات السياسية داخل غزة والضفة الغربية و"إسرائيل".
ضعف سياسي داخلي يهدد "إسرائيل"
وفي تأثير نتائج الاتفاق على "إسرائيل"، يقول المختص في الشأن "الإسرائيلي" عزام أبو العدس، إنّ "الاتفاق سيكون له تداعيات كبيرة، خاصة حول مسألة مستوطني غلاف غزة الذين طالبوا بالقضاء الكامل على حماس وإنهاء وجودها، والذين لا يعرفون مصير عودتهم المهدد بعد هذه الهدنة، الأمر الذي سيضع قدرات الجيش والحكومة في محل شك، فضلاً عن المشهد السياسي الذي قد يشهد استقالات في صفوف اليمين المتطرف ولا سيما حزبي "عظمة يهودية" الذي يتزعمه "إيتمار بن غفير، و"الصهيونية الدينية" والذي يترأسه وزير المالية "سموتيرتش"، واللذان قد يؤديان إلى تفكك الحكومة ودخول إسرائيل في فترة انتقالية ستكون مشحونة وصعبة جداً بسبب الاتفاق".
ويضيف أبو العدس، لـ "قدس نت"، أنّ "مستوطني إسرائيل قد فقدوا الثقة بجيشهم بعد أن عجز عن حمايتهم في السابع من أكتوبر، إلى جانب أنّهم فقدوا الكثير من القتلى خلال الحرب وحياة العديد من الأسرى داخل غزة بسبب تعنت رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو الذي وضع عراقيل لتحقيق الاتفاق الذي طرحه رئيس الولايات المتحدة الامريكية جو بايدن في شهر يوليو العام الماضي، فضلاً عن حرب لبنان، ما أدى إلى فقدان الكثير من شعبية حزبه وتوقف الهجرة الوافدة لإسرائيل".
ويشير أبو العدس، إلى أنّه منذ اللحظات الأولى لإعلان الاتفاق، هاجمت وسائل الإعلام "الإسرائيلية" بلهجة شديدة الغضب "نتنياهو" وحمّلته مسؤولية تآكل إنجازات الحرب التي لم يحقق منها إنهاء حكم حماس بغزة، إلى جانب رفضه إدخال السلطة الفلسطينية للقطاع، ما انعكس سلباً على خطط "اليوم التالي" للحرب، مبيناً أنّ "نتنياهو" يريد سلطة ضعيفة في الضفة الغربية، وأن يحكم غزة من خلال إبقاء ما بين 4 إلى 6 فرق عسكرية فيها، وهي نصف ما يمتلك الجيش من قوات مقاتلة ما سيؤدي إلى إرهاق هائل لهم، ولكنه فشل بذلك وفي إيجاد بديلاً آخر، حيث أنّه لم يستطع تجاوز وجود حماس بغزة.
خسائر فادحة وتبدد حلم الاستيطان في غزة
ويلفت المختص بالشأن الإسرائيلي، إلى أنّ هذه الصفقة قضت على فكرة حكم "إسرائيل" لغزة والاستيطان فيها التي سعت إليها خطة الجنرالات، وهذا يعني أن كل ما خسرته "إسرائيل" من جنود ومعدات ذهب بلا فائدة، موضحاً أنّ "إسرائيل" تعاني من هشاشة دولية، ويلاحق مسؤوليها في الكثير من الدول، إذ أنّ "نتنياهو" لم يستطع الذهاب الى بولندا، والمسؤول في الإدارة المدنية "الإسرائيلية" ومنسق الضفة العقيد غسان عليان هرب من إيطاليا بشكل مخزي ومذل، أما الجنود فقد تلقوا أوامراً بعدم السفر إلى عدة بلدان خوفاً من الاعتقال.
وحول الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها "إسرائيل"، يبين أبو العدس، أنّها قد تعرضت لخسائر تكتيكية واستراتيجية فادحة فاقت 80 مليار دولاراً، وأنّ الدعم الأمريكي المتواصل لم يستطع علاج الاقتصاد المتدهور لـ "إسرائيل"، حيث أغلقت أكثر من 60 ألف شركة أبوابها بفعل تداعيات الحرب، وبات ثلث المستوطنين تحت خط الفقر الذين يعانون من زيادة الضرائب وارتفاع أسعار السلع".
وعلى صعيد مستقبل "إسرائيل" في المنطقة، يؤكد أبو العدس، أنّ "قادتها ومستوطنيها يشعرون أن هذا الاتفاق قد وضعهم في مسار خطير لا يمكن تلافيه، إذ أنّ هذه الحرب لم تقدم لهم صورة النصر المطلق التي تغنى بها نتنياهو، والذي لم يستطع هو وجيشه من سحق أعدائهم وإنما كانت دائماً جولاتهم تحقق أنصاف انتصارات لهم"، لافتاً إلى أنّ الحرب قد حولت "إسرائيل" من حليف دولي للولايات المتحدة الأمريكية إلى تابعٍ لها يتلقى المعونة منها، وهذا الأمر سيهدد وجود "إسرائيل" في حال تراجع مكانة أمريكا كما هو متوقع خلال السنوات القادمة.
خاتمة
يبقى مستقبل غزة ما بعد الحرب وتداعيات اتفاق وقف إطلاق النار رهيناً بالتطورات السياسية الإقليمية والدولية، وكذلك بالتحديات الداخلية التي تواجهها الفصائل الفلسطينية. وبينما تسعى الأطراف الدولية لتعزيز الاستقرار وإعادة الإعمار، يبقى التساؤل الأكبر حول مدى قدرة هذه الجهود على إحداث تغيير حقيقي ومستدام.
في المقابل، يواجه الاحتلال الإسرائيلي ضغوطًا سياسية واقتصادية متزايدة، ما يضع حكومته في موقف حرج أمام المجتمع الدولي وأمام مستوطنيه. وفي ظل هذا الواقع المتشابك، فإن مستقبل المنطقة يتوقف على قدرة الأطراف كافة على الالتزام بالحلول التي تلبي تطلعات الشعوب في تحقيق العدالة والاستقرار، بعيدًا عن دوامة الحروب.