الأمن القومي المصري أمام الخطر الترامبي!

بقلم: عبدالله السناوي

السناوي.jpg

في اللحظة الحرجة الحالية تكاد مصر ترفع رأسها من جديد وتستعيد ذاكرتها التاريخية كدولة لها دور محوري في حسابات محيطها وعالمها.
عندما تغوّل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على كل حق عربي وفلسطيني متوعداً سيناء بالتهجير القسري أو الطوعي، من غزة إليها، تحركت الوطنية المصرية بما يشبه الإجماع استعداداً لقبول التحدي أياً كانت أثمانه وتكاليفه حتى لو اضطرت إلى دخول الحرب.
سقطت إلى الأبد أوهام أن السلام خيار إستراتيجي و»كامب ديفيد» «اتفاقية مقدسة». لوّحت مصر بورقة تعليق تلك الاتفاقية.. تعليق لا إلغاء. دعت ترامب إلى أن يضع في اعتباره «مكتسبات السلام»! كان ذلك تحذيراً من سيناريو الإلغاء، وتنبيهاً في الوقت نفسه لأخطاره على المصالح الإستراتيجية الأميركية في الإقليم كله.
لا يعقل أن تخسر مصر سيناء، التي جرت فوقها كل حروب مصر القديمة والحديثة، دون طلقة رصاص واحدة! الحرب سوف تكون محتمة، أياً كانت عواقبها.
الجيش الإسرائيلي لا يحتمل أي مواجهة عسكرية مع مصر، مهما دعمته واشنطن. إنه جيش منهك تماماً، روحه المعنوية في الحضيض إثر خسائره الفادحة في حربَي غزة والجنوب اللبناني. هذه حقيقة ماثلة.
لا نحن ضعفاء ولا هم أقوياء. هذه حقيقة أخرى.
انطوت تصريحات ترامب، على عجرفة قوة تستضعف العرب إلى حدود لم تكن متخيلة في أشد الكوابيس السياسية جموحاً. وجاء وقت رد الاعتبار.
سادت الخطاب العربي العام درجة ملحوظة من التعويل على مصر، الدولة التي تمثل بمفردها ثلث الأمة العربية، في لعب دور جوهري لوقف الجموح الترامبي، الذي يزايد على الخطاب اليميني الإسرائيلي المتطرف. إنه استدعاء لدور مصري قيادي تحتاجه الأمة العربية الآن تحت ضغط الخطر الترامبي. لكل دور أصول وقواعد. لا توجد أدوار معلقة في فراغ الأمنيات.
قيمة جمال عبد الناصر في التاريخ أنه عبّر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربي قوياً معها فتتضاعف قوتها، وهذه الفكرة لا تجيء تاريخياً لمصر إلا ربع ساعة كل مائة سنة - بتعبير الكاتب الصحافي الراحل محمود عوض.
التعبير مجازي لكنه يعبّر، بصورة أو أخرى، عن حقيقة لا يمكن تجاهلها بأن قوة مصر في عالمها العربي، والخروج منه يفضي إلى عزلتها وتقويض ثقتها في نفسها، كما يفضي إلى إضعاف العالم العربي وإهدار أمنه القومي الجماعي.
أنشئت إسرائيل لأسباب إستراتيجية استهدفت عزل مصر عن المشرق العربي. كانت تلك الفكرة المؤسسة لـ»وعد بلفور» لا الأساطير الصهيونية عن أرض الميعاد.
بمعنى آخر، وظفت تلك الأساطير لمقتضى المصالح الإستراتيجية في تحجيم الدور المصري وعزله عن محيطه.
عملت الإدارات الأميركية المتعاقبة بعد حرب أكتوبر (١٩٧٣) إلى فصل مسارات التسوية، واعتماد الحلول الجزئية مع كل دولة على حدة لتفكيك ما تسمى وحدة الموقف العربي، حتى وصلنا بالتدهور إلى صفاقة الدعوة الترامبية للتطهير العرقي في غزة وتهجير سكانها قسرياً أو طوعياً إلى سيناء بالتزامن مع تهجير آخر من الضفة الغربية إلى الأردن.
معنى التصريح أنه جوهرياً لا يرى أمامه شعباً يستحق الحياة أو تحترم سيادته على أرضه.
قيل هنا: إن مصر لن تحارب حتى آخر جندي من أجل فلسطين.
كان ذلك تدليساً على الحقيقة، فمصر حاربت من أجل مصر قبل أي شيء آخر.
أسوأ ما يحدث للأمن القومي في أي بلد الاستخفاف بحقائقه، أو استخدامه في غير موضعه نيلاً من أي اختلاف وتنوع في الآراء. الأمن القومي موضوع توافق واسع له إطار وحدود وقواعد.
إذا لم يكن هناك هذا التوافق يفقد البلد بوصلاته التي تحدد مواطن الخطر، فلا نعرف أين نقف، ولا من أين قد تأتى الضربات المباغتة.
بالتعريف، فإن الأمن القومي مسألة تحصين للبلد تمنع الاختراقات في بنيته، وهذه مهمة أجهزة المعلومات والاستخبارات التي أنشئت من أجلها. كما أن نظرياته تصوغ العقيدة القتالية، أين مصادر التهديد؟ ومن العدو؟
لم يكن هناك شك على مدى عقود متتالية منذ تأسيس الدولة العبرية في تعريف مصدر الخطر الرئيسي. وبالتعريف فإنه يدخل في المصالح الإستراتيجية العليا، وهذه مهمة الدبلوماسية.
أين دوائر الحركة الرئيسية؟ وأين الأولويات في إدارة الملفات الخارجية؟ هناك باليقين تحسن إيجابي في لغة الخطاب الدبلوماسي المصري يستحق التحية، لكنه يتطلب المزيد حتى يكتسب كامل صدقيته.
هناك نظرتان متباينتان للأمن القومي وتعريفه، أولاهما، تقصره على مهامه المباشرة من حيث هو أمن. وثانيتهما، تدخله في الشأن العام، وتعتبر الحق في المعرفة لازماً حتى تكتسب الدولة مناعتها أمام أي تحديات ومخاطر.
وفق النظرة الواسعة، فإن عزل الأمن القومي في أطر ضيقة يسحب منه قدرته على تحصين مجتمعه. لا تحصين بالأمن وحده والحريات العامة قضية أمن قومي، فلا توافق ممكناً تحت الترهيب.
أجواء الخوف تضرب في الأمن القومي بذات قدر إنكار الحقائق الأساسية، وأهمها أن دولة الاحتلال العدو الرئيسي.
لعل أفضل تعريف للأمن القومي: «إنه الحرص على حياة سليمة وصحية، حياة مستنيرة ومتعلمة ومتفهمة، إنتاج وفير يمكن لحياة كريمة، وطن قوي له وسائله في ضمان حياة ومستقبله»، حسب الأستاذ محمد حسنين هيكل. باتساع النظرة، فإن تحسين البيئة العامة من ضرورات حفظ الأمن القومي.
هذه مهمة ثقيلة، لكنها لازمة لاكتساب القدرة على مواجهة التحديات، إذا ما اضطرت مصر إلى خوض غمار حرب لم تعد مستبعدة على حدودها الشرقية دفاعاً عن سيناء ووجودها نفسه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت