استغلال وجشع في زمن الحرب تكلفة النزوح في غزة.. أجرة النقل أغلى من تذكرة الطيران!

نازحين بيت لاهيا (9).jpg

تقرير أحمد زقوت - تعرض عشرات الآلاف من المواطنين في قطاع غزة لموجات نزوح جماعية تهدد حياتهم، خاصة العائلات القريبة من المناطق الحدودية، التي تجد نفسها مجبرة على الفرار بحثًا عن الأمان، لكن رحلة النزوح لا تخلو من المعاناة، إذ يواجه النازحون صعوبة في العثور على مأوى، وسط بنية تحتية متهالكة غير قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة، وفي ظل هذا الواقع، يضطر كثيرون للعيش في ظروف غير إنسانية داخل المدارس أو المخيمات المؤقتة.

وتفاقمت معاناة السكان مع استمرار موجات النزوح، حيث برزت تحديات قاسية تؤثر مباشرة على حياتهم اليومية، أبرزها الارتفاع الكبير في أجرة النقل وشح وسائل المواصلات، نتيجة زيادة الطلب، الأمر الذي أجبر العديد من العائلات على دفع مبالغ باهظة لقاء انتقالهم إلى أماكن النزوح ومراكز الإيواء، ما زاد من أعبائهم في ظل ظروف اقتصادية قاسية.

التقت "قدس نت" بعدد من النازحين الذين أعربوا عن استيائهم من الاستغلال الذي يتعرضون له أثناء بحثهم عن وسيلة نقل تقلهم إلى أماكن الإيواء غرب مدينة غزة، مؤكدين أنّ معاناتهم تفاقمت بسبب قلة وسائل النقل المتاحة، سواء المركبات أو عربات الدواب.

قصي السلطان، شاب نزح مع أسرته المكونة من أربعة أفراد من مدينة بيت لاهيا شمال غزة، بدا مرهقًا وهو يحمل بعض احتياجاتهم الأساسية على كتفه، بينما يمسك بيد طفله الصغير، كانت ملامح التعب واضحة على وجهه بعد مسافة طويلة قطعها سيرًا على الأقدام، وكأن كل خطوة تحمل قصة من الألم والمعاناة.

يقول السلطان لـ "مراسلنا": "كنتُ أعتقد أن الحرب قد انتهت مع عودتي إلى بيتي في منطقة السلاطين، وقولت في نفسي أنني تخلصت من معاناة النزوح المستمر والضغط النفسي والكابوس الذي عشته طوال 17 شهراً ماضية، لكن الحقيقة كانت مريرة، فلا مهرب من واقع مرير يشهد تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق في الأيام العشرة الأخيرة"، مضيفاً أنني "أسكن في منطقة حدودية، حيث لا يمر وقت دون سماع صوت الرصاص ودوي القذائف التي تستهدف منازلنا، التي كانت يومًا ملاذًا آمنًا."

ويتابع: "اضطررتُ مجدداً لمغادرة منزلي والانتقال مع عائلتي إلى أحد مركز الإيواء في مدينة غزة، لكنني واجهت واقعًا أشد قسوة مما توقعت، فشح وسائل النقل كان أول العقبات، حيث وجدت نفسي أمام استغلال واضح من سائقي السيارات وأصحاب عربات الدواب، الذين استغلوا حاجة النازحين وفرضوا أسعارًا خيالية، تخيل أن تكلفة التنقل لمسافة لا تتجاوز 12 كيلومترًا باتت تساوي أحيانًا ثمن تذكرة طيران بين دولتين! شعرت وكأنني أخوض حربًا أخرى، حربًا ضد الجشع والاستغلال، في وقتٍ كان من المفترض أن أبحث فيه عن الأمان لعائلتي، لا أن أكون ضحية لتجار الأزمات."

رحلة نزوح شاقة في ظل استغلال الأسعار

أما تامر حمدان، مواطن آخر اضطر للنزوح، يروي معاناته لـ "قدس نت": "لم يكن لديّ خيار سوى مغادرة منزلي، فالظروف الأمنية القاسية أجبرتني على النزوح بحثًا عن أي مكان أكثر أمانًا، لكنني تفاجأت بعدم قدرتي حتى على تأمين وسيلة نقل تنقلني وعائلتي إلى بر الأمان."

ويضيف: "الأسعار المرتفعة للنقل شكلت عبئًا إضافيًا على وضعي المالي الصعب، فلم يكن لدي خيار سوى السير مع عائلتي لمسافة طويلة، من بيت حانون إلى وسط مدينة غزة، حيث منزل أقاربي، كانت خطواتنا ثقيلة، محملين بحقائبنا الصغيرة، وقلوبنا المثقلة بالهموم، ولم تترك لي الحرب سوى الوجع، واستنزفتني نفسيًا وماليًا، حتى أصبح الجشع أكثر إيلامًا من الحرب نفسها"، مشيراً إلى أنّ "تجار الأزمة لم يرحمونا، بل أصبحوا يتلاعبون بنا، كل ما يهمهم هو جمع المزيد من الأموال دون أن يبالوا بمعاناتنا".

النجاة أصبحت امتيازاً بثمن باهظ

وفي طريق النزوح، كانت علياء الشنطي تجر خلفها أمتعة قليلة، هي كل ما استطاعت حمله في رحلة الهروب من الموت، خطواتها متثاقلة، وعيناها مرهقتان من الخوف، بينما يحيط بها أطفالها الصغار الذين لا يدركون سوى أنهم يغادرون منزلهم مرة أخرى، توقفت لالتقاط أنفاسها وسط هذا الدمار النفسي والجسدي، ثم قالت بصوت مخنوق: "الحرب هي أقسى ما يمكن أن يمر به الإنسان، فهي لا تسلب منك منزلك فحسب، بل تسرق منك الشعور بالأمان، وتقتلع جذور الاستقرار من حياتك، وتقتل روحك قبل جسدك، وتستنزف حتى قوت يومك."

وتستكمل بحزن وألم لـ "قدس نت": "زوجي يعمل بجهد لتأمين حياة كريمة لنا، كنا نحلم بمستقبل مستقر لأطفالنا، لكن الحرب لا تترك لنا سوى الخوف والتشرد، ففي كل مرة يصدر الاحتلال أوامر بالإخلاء القسري، نضطر لجمع ما تبقى لدينا والهروب مجددًا، وكأننا نحمل بيوتنا على أكتافنا"، لافتةً إلى أنّ "نصف راتب زوجي يُنفق فقط على تأمين وسيلة نقل تقلنا إلى مكان أكثر أمانًا، رغم أننا نعلم جيدًا أن هذا الأمان لن يدوم، بتنا نكافح فقط كي نتمكن من النزوح مجددًا، وكأن النجاة تحولت إلى امتياز لا يُتاح إلا لمن يستطيع دفع ثمنها الباهظ."

صرخات تطالب بوقف الحرب

وتزامناً مع موجة النزوح الجماعي ووسط هذه المعاناة، خرج المئات من سكان بلدة بيت لاهيا في مسيرات تطالب بوقف الحرب المستمرة منذ أكثر من 17 شهرًا، وجاء ذلك بعد ساعات من إصدار الاحتلال أوامر إخلاء جديدة لأهالي البلدة، بينما رفع المشاركون لافتات كُتب عليها: "دماء أطفالنا ليست رخيصة، نريد العيش بسلام وأمان، أوقفوا شلال الدماء".

وفي المقابل، شهدت المسيرة هتافات من بعض الشباب ضد حركة "حماس"، مرددين شعارات مثل "حماس برا برا"، في إشارة إلى استيائهم من سياسات الحركة.

أرقام صادمة للنزوح

وطبقاً لتقديرات أممية، نزح أكثر من 120 ألف شخص منذ 18 مارس بسبب أوامر الإخلاء القسري من قبل الجيش الإسرائيلي، والتي تغطي 15% من مساحة قطاع غزة، أي ما يعادل مساحة مانهاتن في نيويورك، دون احتساب المناطق المحظورة على طول حدود القطاع وممر "نتساريم".

وأكد المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أنّ أوامر الإخلاء الجديدة في شمال القطاع، أثرت على ما بين 100 إلى 120 ألف شخص، بينهم 27 ألف نازح يحتمون في نحو 40 مركز إيواء، مشيراً إلى أنّ النازحين توجهوا إلى منطقة المواصي (الممتدة على طول الشريط الساحلي من جنوب مدينة خان يونس وحتى شمال دير البلح وسط القطاع)، في محاولة يائسة للعثور على مأوى.

ولفت دوجاريك، في تصريحه، إلى أنّ هناك مشاكل كبيرة في خدمات المياه والنظافة، حيث أنّه "في بعض الأحيان لا يتمكن الناس حتى من العثور على الماء لغسل أيديهم لعدة أيام"، مبيناً أنّ استئناف إسرائيل هجماتها على غزة تسبب أيضًا في تعليق جميع الأنشطة التعليمية تقريبًا، كما تضررت 3 مدارس بسبب هجمات الأسبوع الماضي.

إلى متى يستمر النزوح؟

وفي خضم الحرب الإسرائيلية وموجات النزوح الجماعية، يعيش سكان غزة في دوامة من المعاناة اليومية، من فقدان المنازل والأمان إلى الاستغلال والفقر المدقع، وبينما تتواصل الهجمات وتتزايد أوامر الإخلاء، يبقى السؤال: إلى متى سيظل الفلسطينيون عالقين في هذه الدائرة المفرغة من المعاناة؟ ومتى ينتهي هذا الكابوس ليستعيدوا حقهم الطبيعي في الحياة الكريمة والأمان؟

نازحين بيت لاهيا (1).jpg

نازحين بيت لاهيا (11).jpg
نازحين بيت لاهيا (9).jpg
نازحين بيت لاهيا (8).jpg
نازحين بيت لاهيا (7).jpg
نازحين بيت لاهيا (6).jpg
نازحين بيت لاهيا (5).jpg
نازحين بيت لاهيا (4).jpg
نازحين بيت لاهيا (2).jpg
نازحين بيت لاهيا (3).jpg
 

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة