في الساعات الأولى من فجر 18 مارس/آذار، شنت القوات الإسرائيلية سلسلة غارات جوية مفاجئة استهدفت مناطق متفرقة في قطاع غزة، لتُعلن بذلك انتهاء الهدنة الهشة التي استمرت لأسابيع بعد اتفاق تبادل الأسرى. من بين الأهداف التي أصيبت: مدارس، جامعات، ومراكز إيواء للنازحين، ما أعاد تسليط الضوء على الأزمة التعليمية المستمرة في القطاع منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023.
الغارات الأخيرة دمرت كليًا أو جزئيًا ما تبقى من منشآت تعليمية بالكاد كانت تعمل. ويقول مسؤولو التعليم في غزة إن مئات آلاف الطلبة باتوا الآن خارج أي مسار تعليمي منتظم، في واحدة من أسوأ الكوارث التي يواجهها التعليم في الإقليم منذ عقود.
وزارة التربية والتعليم: الاحتلال يواصل استهداف التعليم في غزة والضفة الغربية
كشفت وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية في تقريرها الصادر حول انتهاكات الاحتلال بحق قطاع التعليم في الفترة الممتدة من 7 أكتوبر 2023 وحتى 11 مارس 2025، عن حجم الدمار الهائل الذي طال المدارس والجامعات في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، مما أثر بشكل مباشر على العملية التعليمية وآلاف الطلبة والمعلمين.
غزة.. تدمير شامل واستهداف ممنهج للمؤسسات التعليمية
في قطاع غزة، تعرضت 241 مدرسة حكومية لأضرار بالغة، منها 111 مدرسة دُمّرت بشكل كامل، إلى جانب 85 مدرسة أخرى تابعة للحكومة تعرضت للقصف والتخريب، و89 مدرسة تابعة لوكالة "الأونروا" نالها القصف أيضًا. كما تم تسجيل تدمير أكثر من 53 مبنى تابعًا للجامعات، فيما طالت الأضرار 20 مؤسسة تعليمية بشكل بالغ.
على صعيد الضحايا في غزة، استُشهد أكثر من 12,612 طالبًا وطالبة، وأُصيب 20,411 آخرون بجراح متفاوتة، في حين لا تتوفر بيانات دقيقة حول أعداد المعتقلين من الطلاب. أما في صفوف الكوادر التعليمية، فقد استُشهد 575 معلمًا ومعلمة، وأُصيب 2,703 آخرون.
الضفة الغربية.. تصعيد بالاعتقالات وإغلاق المدارس
أما في الضفة الغربية، فقد بلغ عدد المدارس التي تعرضت لاعتداءات 132 مدرسة، شملت تدمير أسوار عدد منها وخاصة في مناطق جنين وطولكرم وطوباس، بالإضافة إلى اقتحام وإغلاق مدرسة التحدي. كما تأثرت 7 جامعات بالاقتحامات المتكررة والتخريب والاستهداف المباشر للمحتويات.
وفي أرقام الضحايا، بلغ عدد الطلبة الشهداء 95 شهيدًا، والمصابين 591 طالبًا وطالبة، بينما تم اعتقال 319 طالبًا. وبالنسبة لطلبة الجامعات، فقد سقط 35 شهيدًا، وأُصيب 159، مع اعتقال 301 منهم.
الكادر التعليمي لم يكن بمعزل عن هذه الانتهاكات، حيث استُشهد 4 معلمين، وأُصيب 18، إلى جانب اعتقال 163 آخرين.
أوضاع مأساوية في جنين وطولكرم
أشارت الوزارة إلى أن نحو 26,000 طالب/ة في جنين وطولكرم لا يزالون يداومون إلكترونيًا بسبب تدمير المدارس أو الأوضاع الأمنية، وأن 95 مدرسة تعمل بالتعليم الإلكتروني، في ظل نزوح آلاف الطلبة والمعلمين من مناطقهم.
قطاع التعليم قبل الحرب: هشاشة مزمنة ونظام متعب
قبل الحرب، كان قطاع التعليم في غزة يعاني من أزمات مزمنة. وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2023، بلغ عدد الطلبة في غزة أكثر من 608 آلاف، موزعين على 796 مدرسة، يعمل فيها نحو 22 ألف معلم. في المقابل، لم يتجاوز عدد المباني المدرسية 550، ما اضطر العديد منها للعمل بنظام الفترتين أو الثلاث فترات يوميًا.
على مستوى التعليم العالي، كانت تعمل 17 مؤسسة جامعية، إلى جانب جامعة القدس المفتوحة. بلغ عدد طلاب الجامعات نحو 87 ألف طالب، وأعضاء الهيئات الأكاديمية والإدارية نحو 5,000 شخص. لكن هذه المنظومة الهشة دخلت في حالة انهيار تام منذ بدء الحرب.
التعليم بعد الحرب على غزة وأحداث 7 أكتوبر
حرب الإبادة الإسرائيلية التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023 أحدثت دمارًا هائلًا في قطاع التعليم بغزة، محولةً الأزمة التعليمية من تحدٍ إداري إلى كارثة تهدد مستقبل جيل كامل من الطلاب والمعلمين. هذا التقرير يستعرض تأثيرات الحرب على التعليم، محاولات استدراك العملية التعليمية أثناء النزاع، وواقع التعليم بعد الهدنة الهشة، مع التركيز على الجهود الرسمية لتعويض الفاقد التعليمي والتحديات المستمرة في استئناف الدراسة.
تدمير البنية التحتية التعليمية
تقارير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) تشير إلى تعرض حوالي 88% من مدارس غزة للقصف المباشر، وتدمير 61% منها كليًا أو جزئيًا. معظم المدارس المتبقية تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين، مما أدى إلى تعطيل تعليم أكثر من 625 ألف طالب. منظمة اليونيسف حذرت من أن أطفال غزة قد يخسرون ما يعادل خمس سنوات تعليمية، مع تأثيرات نفسية واجتماعية طويلة الأمد.
مؤسسات التعليم العالي لم تكن بمنأى عن الدمار؛ 11 من أصل 19 جامعة دُمرت بالكامل، والأخرى تضررت بنسب تصل إلى 80%. الجامعة الإسلامية، جامعتا الإسراء وفلسطين، وجامعتا الأقصى والأزهر تعرضت لقصف مكثف أدى إلى تدمير منشآتها الأكاديمية والإدارية. جامعات غزة، القدس المفتوحة، وكلية فلسطين التقنية تعرضت لتدمير جزئي، وتحولت مبانيها إلى مراكز إيواء.
الخطاب الإسرائيلي برر الهجمات على الجامعات باعتبارها "مراكز لإنتاج الإرهاب"، في محاولة لنزع صفتها المدنية. الدمار طال أيضًا الموارد التعليمية؛ تقارير الأونروا أفادت بفقدان معظم المناهج المطبوعة بسبب استهداف المخازن التعليمية، وانقطاع الإنترنت والكهرباء حال دون تطبيق التعليم الإلكتروني، مما جعل استمرار التعليم شبه مستحيل.
استهداف الكوادر التعليمية والطلاب
تقارير حقوقية وثقت استشهاد أكثر من 450 أكاديميًا وإداريًا، بينهم رؤساء جامعات وعمداء وأساتذة بارزون مثل البروفيسور سفيان تايه، رئيس الجامعة الإسلامية، والدكتور أحمد حمدي أبو عبسة، عميد كلية هندسة البرمجيات في جامعة فلسطين. استشهد أيضًا أكثر من 13,000 طفل في سن الدراسة، وأصيب حوالي 25,000 آخرين، بينهم كثيرون بإصابات دائمة. مقتل أكثر من 400 معلم ومعلمة زاد من تعقيد استئناف العملية التعليمية.
محاولات استدراك العملية التعليمية
أثناء الحرب، لجأت وزارة التربية والتعليم إلى حلول بديلة لضمان استمرار التعليم، مثل إنشاء مدارس افتراضية ومراكز تعليمية مؤقتة، واستخدام منصات إلكترونية كـ"وايز سكول". هذه المبادرات واجهت تحديات كبرى، أبرزها انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت، وغياب البيئة الآمنة. مبادرات محلية مثل مركز "Hub Fiber" وفرت أماكن آمنة نسبيًا للدراسة، ومبادرات دولية كـ"إعادة الأمل" من جامعة بيرزيت سعت لتوفير التعليم الإلكتروني لطلبة غزة.
جهود إعادة الإعمار والتحديات المستمرة
في فبراير 2025، أعلنت وزارة التربية والتعليم عن بدء العام الدراسي الجديد 2024-2025، بهدف تدارك الفاقد التعليمي الناتج عن توقف الدراسة لأكثر من 15 شهرًا. الوزارة وضعت خططًا مكثفة لإعادة تأهيل المدارس المتضررة، واستخدام الحلول البديلة كالمنصات الافتراضية، وبرامج متخصصة للدعم النفسي والاجتماعي. تم دمج العامين الدراسيين 2023-2024 و2024-2025 في عام دراسي واحد مكثف، مع تقليص المناهج إلى وحدات تركز على المهارات الأساسية. ضغوط التعليم المكثف في بيئة غير مستقرة قد تزيد من الأعباء النفسية على الطلاب، خاصةً وأن تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 60% من أطفال غزة يعانون من اضطرابات نفسية ناتجة عن الصدمة والتشريد.
مستقبل التعليم في غزة
استهداف التعليم في غزة خلال الحرب الأخيرة دفع جنوب أفريقيا لتقديم دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بالإبادة الجماعية، خاصة مع استهداف قطاع التعليم العالي بشكل ممنهج. تدمير المدارس والجامعات واغتيال العقول الفلسطينية وحرمان جيل كامل من حقه في التعليم يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، وتهديدًا وجوديًا لمستقبل المجتمع الفلسطيني. الإبادة التعليمية التي شهدتها غزة ستترك آثارًا مدمرة تمتد لأجيال، مما يفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ويُضعف قدرة المجتمع على الصمود والنهوض. إعادة بناء التعليم في غزة معركة وجودية تهدف إلى حماية هوية الأجيال الفلسطينية القادمة وتمكينهم من أدوات الصمود والبقاء. إنقاذ التعليم ليس مجرد ضرورة إنسانية عاجلة، بل ضمان أساسي لبقاء المجتمع الفلسطيني، وحماية حقه في التعليم، وهويته الثقافية والحضارية.
أسئلة مفتوحة في أفقٍ مغلق
بينما تتوالى الضربات، ويشتد الحصار، يبدو أن التعليم في غزة لم يعد مجرد ملف إنساني، بل خط مواجهة رئيسي. فهل يمكن حماية حق الأطفال في التعلم وسط نزاع يضرب كل مفاصل الحياة؟ وهل ستتحرك المنظمات الدولية لإعادة تأهيل المدارس والجامعات قبل فوات الأوان؟
الوقت ينفد، والمستقبل يُصاغ تحت القصف.