تواصل إسرائيل تصعيد عدوانها العسكري على قطاع غزة، في أعقاب انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان قد أُبرم بين حركة "حماس" وتل أبيب. ومنذ صباح الثلاثاء 18 مارس، استأنف الجيش الإسرائيلي غاراته واسعة النطاق، موقعًا عشرات القتلى والجرحى، وسط تصعيد غير مسبوق وتلويح بمراحل أكثر دموية.
الاتفاق المؤقت الذي دخل حيز التنفيذ في يناير الماضي، وشهد تبادل عدد من الرهائن والمعتقلين، انتهى فعليًا في الأول من مارس. ومنذ ذلك الحين، اصطدمت المفاوضات بمأزق سياسي، حيث تطالب "حماس" بتنفيذ المرحلة الثانية المتفق عليها سابقًا، والتي تشمل انسحابًا كاملاً للقوات الإسرائيلية من القطاع، مقابل إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء، في حين تضغط حكومة بنيامين نتنياهو لتمديد المرحلة الأولى فقط، دون إنهاء الحرب أو سحب القوات.
خطط إسرائيلية للسيطرة الشاملة وتصعيد ميداني متسارع
أعلن الجيش الإسرائيلي مؤخرًا بدء تنفيذ عملية "القوة والسيف"، مؤكدًا أنه بات يسيطر على نحو 30% من أراضي قطاع غزة. ويُرجّح أن تكون هذه التحركات جزءًا من خطة أوسع تستهدف إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والسياسي داخل القطاع.
ويكشف الخطاب الأخير لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن رؤية ميدانية تقوم على اتفاقات جزئية مؤقتة، تتبعها جولات عسكرية متكررة تهدف إلى إنهاك المقاومة وتفكيك نفوذها. في المقابل، ترفض "حماس" هذا السيناريو وتصر على اتفاق شامل يوقف العدوان بالكامل ويؤدي إلى انسحاب كامل من القطاع.
"عضّ الأصابع": تفاوض صعب وسجال دولي
في ظل انسداد الأفق التفاوضي، جددت "حماس" عبر رئيسها في غزة، خليل الحية، استعدادها للتفاوض الفوري على صفقة شاملة تشمل إطلاق سراح الرهائن، مقابل انسحاب إسرائيلي كامل ووقف الحرب. وأكد الحية أن الاتفاقات الجزئية ليست سوى غطاء سياسي لاستمرار "حرب الإبادة" الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
كما أشار إلى تطابق جزئي في الموقف مع المبعوث الأميركي آدم بوهلر، الذي أبدى انفتاحًا على صفقة شاملة تتضمن ملف الرهائن وإنهاء الحرب. ويأتي هذا بالتزامن مع زيارة مرتقبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المنطقة، وسط تكهنات بشأن دور واشنطن في فرض ملامح التسوية المقبلة.
التكتيك الجديد: مفاجآت ميدانية وتدخل في المساعدات
تشير التحركات الإسرائيلية الأخيرة إلى تبني تكتيك يقوم على المفاجأة وتغيير قواعد الاشتباك، بإشراف مباشر من رئيس الأركان الجديد. ويتجلى ذلك في استعداد الجيش للتدخل في توزيع المساعدات داخل غزة، عبر وكالات أممية وشركات أمن خاصة، في ظل الحصار المشدد وإغلاق المعابر.
وتحذر الأمم المتحدة من كارثة إنسانية وشيكة، مع اقتراب القطاع من المجاعة، نتيجة النقص الحاد في المواد الأساسية. ورغم وعود إسرائيلية بفتح ممرات إنسانية، عاد وزير الجيش، إسرائيل كاتس، وتراجع عنها تحت ضغط تيارات يمينية في حكومته.
خطة التقسيم: غزة إلى خمس مناطق معزولة
ترجّح تقارير ميدانية وخبراء أمنيون أن الجيش الإسرائيلي يسعى لتنفيذ خطة لتقسيم قطاع غزة إلى خمس مناطق منفصلة، تسهّل السيطرة عليها ميدانيًا وتمنع التواصل الجغرافي بين أجزائه. ووفقًا لمصادر عبرية، تشمل هذه الخطة:
-
محور فيلادلفيا: عزل غزة عن مصر.
-
محور موراج: عزل رفح عن خان يونس.
-
محور المطاحن: عزل خان يونس عن وسط القطاع.
-
محور نيتساريم: عزل الوسطى عن الشمال.
-
محور مفلاسيم: فصل شمال غزة عن مدينة غزة.
وتُعدّ هذه المحاور امتدادًا لعمليات التدمير المنهجي التي نفذتها إسرائيل خلال الأشهر الماضية، لتهيئة الأرض ميدانيًا لتطبيق هذه الرؤية.
الميناء الأمريكي العائم
هل يعاد الحديث عن "الميناء العائم" الأميركي قبالة سواحل غزة كخيار محتمل ضمن سيناريوهات التعامل مع الوضع الإنساني. ورغم غياب التصريحات الأميركية الرسمية، يرى محللون أن هذا الخيار قد يُستخدم كمنفذ مساعدات بديل، وربما – وفق بعض السيناريوهات – كبوابة لترحيل السكان ضمن خطة "تصفية غزة"، التي لم تتراجع عنها بعض الأوساط السياسية في واشنطن وتل أبيب.
ويرى مراقبون أن إسرائيل تعتبر إحكام السيطرة على توزيع المساعدات هو المفتاح للسيطرة على القطاع، خاصة مع قرب استنفاد مخزونات الغذاء واعتماد السكان الكلي على المعونات الخارجية.
المقاومة ترد: كمائن "كسر الصمت" تخلط الحسابات
في خطوة تؤشر على إعادة تنظيم صفوفها، أعلنت كتائب القسام عن بدء تنفيذ سلسلة عمليات "كسر الصمت"، من خلال كمائن استهدفت وحدات إسرائيلية في مناطق ظنّ الاحتلال أنها باتت "آمنة". وتوضح طبيعة هذه الهجمات أن المقاومة فضّلت مرحلة الكمون المؤقت لاستدراج العدو إلى عمق الاشتباك، ما يضع القوات الإسرائيلية أمام واقع ميداني غير محسوب، ويقوّض فكرة "المناطق المحررة من التهديد".
تصعيد مفتوح وسيناريوهات بلا أفق واضح
في ظل انسداد الأفق السياسي، وغياب أي مؤشرات على تسوية قريبة، يبدو أن المشهد في غزة يتجه نحو مزيد من التعقيد والتصعيد. فبين خطة عسكرية إسرائيلية متحولة، ومقاومة تعيد تموضعها ميدانياً، وساحة إنسانية توشك على الانهيار، تظل كل السيناريوهات مفتوحة على احتمالات خطيرة.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل صراع إرادات بين مشروع إحكام السيطرة بالقوة وبين صمود شعبي تحمله المقاومة على عاتقها. ومع دخول العدوان مرحلة أكثر تعقيداً، تبقى خيارات إسرائيل محفوفة بالفشل، كما أن تعويلها على استنزاف المقاومة والضغط الإنساني قد يخلق واقعاً جديداً لا يمكن التنبؤ بنتائجه، محلياً وإقليمياً.
ختاماً، فإن التطورات الميدانية في غزة خلال الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة، ليس فقط في تحديد اتجاهات المعركة، بل في رسم ملامح المرحلة السياسية التي ستلي هذا العدوان، سواء باتجاه فرض أمر واقع، أو نحو تصعيد أوسع قد تتخطى تداعياته حدود القطاع.