في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، وبينما كانت الهدنة المؤقتة سارية، بدأت أميرة أبو طير وعائلتها الاستعداد لاستقبال عيد الفطر. كانت مشاعر الحماسة واضحة في البيت، فالعيد هذا العام له طابع مختلف. إنه أول عيد تقضيه العائلة في منزلها ببلدة عبسان الكبيرة، بعد عودتهم إليه إثر تهجيرهم منه خلال الحرب.
تقول أميرة: "كنا ننتظر العيد بفارغ الصبر، أمي بدأت بشراء الملابس الجديدة لنا. أنا وأختي هدى (18 عامًا)، وأخي ماهر (15 عامًا)، وعبدالله (10 أعوام)، حصلنا جميعًا على ملابس جديدة. حتى العباءات لنا، أنا وهدى، قامت أمي بتفصيلها خصيصًا. كانت تلك اللحظات تعني لنا الكثير، فقد حُرمنا طوال الحرب من مثل هذه التفاصيل البسيطة التي تمنح للحياة طعمها الطبيعي."
اللحظات الأخيرة من الحياة العائلية
في 18 مارس 2025، اجتمعت العائلة على مائدة السحور، جلسة نادرة جمعتهم بعد وقت طويل من التشتيت والخوف.
"كنا نضحك، نتحدث بمحبة، نشعر بالأمان للحظة. بعد السحور، ذهبت مع أختي هدى إلى الغرفة، وكانت تلك الليلة مختلفة. بدأت تفضفض لي كما لم تفعل من قبل. أخبرتني بأسرارها، تحدثت مطولًا، ثم قالت لي فجأة: ‘إذا استشهدت، اعرفيني من إسورتي وحلقي’. كأنها شعرت بشيء."
الضربة الجوية
في تمام الساعة الثانية والربع فجرًا، لم يترك القصف وقتًا للتفكير. "شعرت فجأة بضوء قوي وحرارة لا تُحتمل، وكأن موجة ضخمة دفعتني بعنف. وجدت نفسي مغطاة بالركام، وعمود خرسانة يطبق على قدمي. حاولت التنفس، لم أستطع، كان كل شيء ثقيلًا وساكنًا. اعتقدت أنني في كابوس، ثم بدأت أحرك قدمي اليسرى علّ أحدًا يشعر بي. بعد محاولات، انزاح الحجر، فرفعت قدمي عاليًا كي أُرى. لم يأتِ أحد. نطقت الشهادة، فقدت الأمل."
بعد دقائق، سُمِع صوتٌ يسأل: "هل من أحد هنا؟". "بكيت، رفعت قدمي مرة أخرى، فرأوني وأخرجوني من تحت الركام. بقيت على الأرض ساعة ونصف حتى نُقلت إلى المستشفى."
بين خطر البتر ونجاة جزئية
في المستشفى، كانت الأخبار صادمة. حروق في كلا القدمين، وكسور معقدة في الحوض والفخذ الأيمن، من أعلى إلى الركبة. "قالوا لي إن البتر ضروري لقدمي اليمنى. بدأت أصرخ، بكيت بهستيريا. تمنيت الموت على أن أعيش مبتورة. كنت صغيرة، أشعر أن حياتي لم تبدأ بعد."
لكن القدر لم يُغلق الباب. وفد طبي أردني وصل صباحًا إلى المستشفى الأوروبي، وأعاد الأمل.
"قالوا لي إن الشرايين والأوعية ما زالت سليمة، ولا داعي للبتر. شعرت أنني أُبعث من جديد."
خضعت أميرة لعملية تركيب بلاتين من الحوض حتى الركبة. وبعد العملية، كانت الركبة مائلة إلى اليمين، مما استدعى عملية ثانية لتصحيح المسار.
"لم أستطع ثني ركبتي، شعرت أن جسدي لم يعد لي. ولكنني كنت أحاول التماسك."
فقدٌ لا يُحتمل
الاستهداف لم يُصِب جسد أميرة فقط، بل حطم عالمها.
"استشهد والدي، ووالدتي، وأختي هدى، وجدتي، وأبناء عمي الثلاثة وأمهم. أخي ماهر فقد عينه اليسرى، ومرّ بخمسة أيام من الصمت التام. لم يتحدث بكلمة. كان في صدمة. الآن لا يرى بتلك العين، وحالته تتدهور. يحتاج إلى عملية عاجلة في الخارج، والتأخير قد يفقده البصر نهائيًا."
وفي اليوم الرابع بعد العملية، وبعد إلحاح، أخبرتها عمتها بالحقيقة.
"قالت لي: والدك لم يفارق والدتك في الحياة، ولا في الموت. أخذوا معهم حبيبتهم هدى. شعرت أن شيئًا داخلي انكسر. أردت أمي بقربي، لم تكن فقط أمًا، بل كانت ملجئي، صدري الذي أهرب إليه حين يثقلني العالم."
وتضيف أميرة: "أبي، ذلك الرجل الطيب، من كنت أفتخر بالسير إلى جانبه، وكأنني آخذ جزءًا من قوته. أفتقده كل لحظة."
وتتابع:
"أشتاق لصوت أمي، لكلماتها، لحضنها الذي كان يرمم كل ما بي. أفتقد هدى، أختي وشريكتي، لم نفترق أبدًا، أنا وهي وابنة عمي جنى، كنا نحلم ونضحك معًا."
تختم أميرة شهادتها بعبارة تنزف ألمًا: "لم يبقَ أحد يشبهني أو يشعر بي. رحلوا جميعًا… وبقيت وحدي."
عن المركز الفلسطيني لحقوق الانسان