إسرائيل وتفكيك الاقتصاد الفلسطيني: استراتيجية خنق متعددة المستويات في الضفة الغربية

مخيم جنين (2).jpg

تواصل إسرائيل تنفيذ سياسة اقتصادية ممنهجة تهدف إلى إنهاك الاقتصاد الفلسطيني وإعادة تشكيل المشهد الديموغرافي في الضفة الغربية، عبر سلسلة إجراءات مالية، وأمنية، وتنموية مدروسة. هذه السياسات لا تقتصر على مجرد تضييق الخناق الاقتصادي، بل تسعى إلى إحداث تغيير جذري ومستدام في واقع الفلسطينيين بما يخدم أهداف الاحتلال الاستيطانية طويلة المدى.

خنق مالي ممنهج: أزمة الرواتب نموذجًا

أزمة الرواتب التي تعصف بالموظفين العموميين الفلسطينيين ليست مجرد نتيجة عابرة للأحداث الجارية، بل هي انعكاس لسياسة إسرائيلية مدروسة تستهدف زعزعة الاستقرار المالي للسلطة الفلسطينية. عبر احتجاز أموال المقاصة، التي تمثل أكثر من نصف الإيرادات العامة (54.2%)، تُحكم إسرائيل قبضتها على الشريان المالي الرئيسي للحكومة الفلسطينية.

التراجع الحاد في الإيرادات المحلية (24.9%)، والانخفاض الحاد في المساعدات الخارجية (20.9%)، يضاعفان من تعقيد الأزمة. في الربع الثالث من عام 2024، سجل العجز المالي 96 مليون دولار، بينما ارتفع الدين العام إلى 4.1 مليار دولار، ما يعادل 32.4% من الناتج المحلي الإجمالي.

انعكست هذه الأوضاع بشكل مباشر على حياة آلاف الأسر الفلسطينية، حيث لم تصرف سوى 70% من رواتب شهر يناير 2025، مما أدى إلى تراجع حاد في الإنفاق الاستهلاكي، ارتفاع المديونية الفردية، وزيادة الضغوط الاجتماعية، مهددًا بتآكل الطبقة الوسطى وارتفاع نسب الفقر والاحتجاجات.

تراجع القطاع الخاص: الاقتصاد في حالة انكماش خطير

لم يكن القطاع الخاص بمنأى عن سياسة الخنق الإسرائيلية. الإغلاقات العسكرية المتواصلة والحواجز المنتشرة أصابت 29% من المنشآت الاقتصادية بالشلل الجزئي أو الكلي، مع تراجع الإنتاج بنسبة 27%، ما كبد الاقتصاد الفلسطيني خسائر تقدر بـ1.5 مليار دولار منذ اندلاع الحرب على غزة.

القطاعات الإنتاجية الأكثر تضررًا شملت البناء، الصناعة، والخدمات، التي سجلت انخفاضات في التوظيف تجاوزت 20%. فقدان الوظائف وتراجع المداخيل زادا من معدلات البطالة وأديا إلى انتشار العمالة غير الرسمية في ظروف هشّة وخالية من أي حماية قانونية.

التحكم بسوق العمل: التصاريح سلاح اقتصادي

أظهرت الأزمة الحادة في تصاريح العمل الإسرائيلية مدى هشاشة البنية الاقتصادية الفلسطينية. مع توقف عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين عن العمل داخل إسرائيل، ارتفعت البطالة إلى مستويات كارثية بلغت 51% في الضفة و80% في غزة.

فقدت السلطة الفلسطينية قرابة 50 مليون دولار من عائدات الضرائب سنويًا، بينما خسر الاقتصاد الفلسطيني أحد أهم مصادر السيولة المالية. عدم قدرة السوق المحلي على استيعاب العمال المسرّحين أدى إلى تفشي البطالة المقنّعة، تراجع الأجور، وتزايد الاعتماد على المساعدات المحدودة.

الشمال الفلسطيني: مسرح لسياسة الأرض المحروقة

تحوّلت مدن مثل جنين وطولكرم إلى ساحات مواجهة مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي ينفذ عمليات اقتحام متكررة، تدمير منازل، وتفكيك للبنية التحتية بهدف تغيير الواقع الديموغرافي.

الدمار الواسع أجبر مئات العائلات على النزوح القسري نحو مناطق أخرى، وسط غياب مقومات الحياة الأساسية، مما عمّق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وساهم في تفتيت النسيج الاجتماعي الفلسطيني.

"ضم الطاقة": استغلال الموارد كوسيلة لفرض السيطرة

في خطوة تعكس استراتيجية اقتصادية متكاملة، أعلنت إسرائيل في أكتوبر 2024 عن بناء محطتين لتوليد الكهرباء داخل الضفة، إضافة إلى تخصيص 2000 دونم لمشاريع الطاقة الشمسية لصالح المستوطنات. تهدف هذه الخطة إلى تعزيز الاعتماد الفلسطيني على الطاقة الإسرائيلية، وتقويض أي محاولة فلسطينية لبناء استقلال اقتصادي.

احتكار إسرائيل لقطاع الطاقة يجعل الفلسطينيين رهائن لسياساتها المالية، حيث يتم بيع الكهرباء بأسعار مرتفعة مع فرض ضرائب مجحفة، مما يزيد الأعباء المعيشية على الفلسطينيين ويعطل النمو الاقتصادي المحلي.

استنتاجات: تفكيك ممنهج وبُعد استيطاني واضح

تشير جميع المؤشرات إلى أن ما يجري ليس سلسلة من الإجراءات المتفرقة، بل سياسة متعمدة تهدف إلى إعادة هندسة الواقع الفلسطيني: اقتصاد هشّ، مجتمع مفكك، اعتماد قسري على إسرائيل، وتهجير ناعم عبر سياسات الخنق الاقتصادي.

في غياب تحرّك دولي فاعل، ومع استمرار إسرائيل في توسيع رقعة الاستيطان والتحكم بمقدرات الفلسطينيين، يبدو أن المشروع الإسرائيلي يسعى إلى فرض وقائع ميدانية تُمكّن من تنفيذ الضم التدريجي للضفة الغربية دون الحاجة إلى إعلان رسمي.

الفلسطينيون اليوم يواجهون معركة بقاء شاملة، تتطلب صمودًا داخليًا وإسنادًا دوليًا حقيقيًا لمواجهة هذا المخطط المدروس بدقة.

 

المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - رام الله