في قطاع غزة، لم تعد الحياة كما كانت، ولم تعد الحاجات الأساسية متاحة كما يفترض أن تكون. فمع استمرار الحصار وغياب الغذاء، تحول الخبز إلى أحلام، والوصفات إلى محاولات للبقاء. في كل خيمة وبيت، تتعدد الوسائل وتختلف الأدوات، لكن الغاية واحدة: النجاة من المجاعة.
ومنذ الثاني من آذار/ مارس الماضي، يمنع الاحتلال الإسرائيلي دخول المساعدات إلى قطاع غزة، علما أن غالبية المواطنين في القطاع باتوا يعتمدون بشكل كامل على تلك المساعدات بعدما حولتهم الإبادة الجماعية المتواصلة منذ 19 شهرا إلى فقراء، وفق ما أكدته بيانات البنك الدولي.
وفي مشهد مؤلم يعكس مدى تفاقم الأزمة، تروي المواطنة سامية موسى (48 عامًا) كيف لجأت إلى ما تبقى من دقيق في منزلها لمواجهة الجوع الذي يُحاصر عائلتها: "بقي عندي القليل من الدقيق، فخلطت المعكرونة بالماء وتركتها طوال الليل. في الصباح صارت كالمعجون، أضفت عليها قليلًا من الدقيق وعجنتها، وصنعت منها خبزًا بكميّة مضاعفة… كل هذه الحيل فقط لتجنب المجاعة التي باتت مستفحلة في كل خيمة وبيت".
"تسممت وأنا أحاول إنقاذ أطفالي"
أما المواطن مؤمن المدهون، الذي يقطن شمال غزة، لم يكن يتوقع أن يتسمم من دقيق اشتراه من السوق بعد أن تقطعت به السبل. يقول: "تعرضت لوجع شديد في المعدة وغثيان استمر يومًا كاملًا، وبعد فحص في المستشفى تبيّن أنه تسمم غذائي من دقيق فاسد اشتريته لإنقاذ أطفالي من الجوع… لم يكن لدي خيار آخر".
ويتحدث مؤمن عن السوق التي عادت جزئيًا بعد انقطاع: "الدقيق إن وُجد، يُباع بأسعار خيالية تصل إلى 500 شيقل، ومليء بالسوس والدود… رائحته تخنقك من بعيد، فكيف نأكله؟".
"نصنع الخبز من الدموع"
المواطنة إيمان سليم، نازحة تقيم في خيمة وسط غزة، تحاول مع زوجها وطفليها النجاة من الجوع بأبسط الإمكانيات. تقول: "اشتريت كيس دقيق بـ 400 شيقل وأنا أعلم أنه فاسد، لكن لا حل آخر. خبزته وأنا أبكي… هل يُعقل أن يُصنع الخبز في غزة بالدموع؟".
زوجها، المصاب بفقر دم، تناول قليلًا من الخبز قبل أن يداهمه ألم حاد في المعدة: "قال لي إنه شعر كأنه يأكل ترابًا، وبعدها رفض تناوله مرة أخرى خوفًا من تكرار الألم".
كارثة صحية على الأبواب
ويحذّر الأطباء من أن الأزمة لا تقف عند حدود الجوع فقط، بل تمتد لتتحول إلى كارثة صحية.
الدكتور سند البلبيسي، يوضح أن الدقيق الفاسد غالبًا ما يكون مخلوطًا بمواد ضارة مثل الجبس أو الرمل، ويُخزن في ظروف سيئة تؤدي إلى إنتاج مادة "الأفلاتوكسين" أو السموم الفطرية، وهي مواد مسرطنة.
ويضيف: "هذا الدقيق يسبب تسممًا معويًا تظهر أعراضه في شكل إسهال وقيء وانتفاخ، وتزداد خطورته على الأطفال والمرضى. وإن استُهلك لفترة طويلة قد يؤدي إلى أمراض مزمنة وحتى السرطان".
ويعاني أكثر من مليون إنسان في غزة نقصًا حادًا في الغذاء، وفقًا لما أفاد به مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، بينهم 10 آلاف طفل مصابون بسوء تغذية حاد، وهي نسبة ارتفعت أكثر من 30 ضعفًا منذ بداية حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وحذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، من أن أطفال قطاع غزة يواجهون خطرا متزايدا من الجوع والمرض والموت، ولا شيء يبرر ذلك بعد شهرين من الحصار الإسرائيلي الخانق.
وفي بيان يسلط الضوء على وضع الأطفال في القطاع بعد شهرين من الحصار الإسرائيلي ومنع دخول المساعدات الإنسانية، جددت المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل، المطالبة برفع الحصار عن غزة، والسماح بدخول السلع التجارية، وحماية الأطفال.
وقالت المسؤولة الأممية: "على مدى شهرين، واجه أطفال قطاع غزة قصفًا (إسرائيليا) متواصلًا، محرومين من السلع والخدمات الأساسية والرعاية الصحية المنقذة للحياة، ومع كل يوم يمر من الحصار الإسرائيلي على إدخال المساعدات، يواجهون خطرًا متزايدًا من الجوع والمرض والموت، ولا شيء يبرر ذلك".
ومع إعلان وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وبرنامج الأغذية العالمي نفاد مخزون الدقيق، وارتفاع سعر الكيس الواحد إلى أكثر من ألف شيقل، يزداد خطر المجاعة يومًا بعد يوم.
ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يرتكب الاحتلال جرائم إبادة جماعية في القطاع خلّفت أكثر من 170 ألف مواطن بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل.