تواجه آلاف الأسر الفلسطينية في قطاع غزة أزمة صحية متفاقمة بسبب ارتفاع معدلات سوء التغذية بين الأطفال، نتيجة توقف المساعدات الغذائية ونقص الإمدادات الطبية، في ظل الحصار المفروض على القطاع منذ أشهر. ويقول متخصصون إن هذه الأزمة باتت تؤثر بشكل مباشر على نمو الأطفال وتطورهم الجسدي والعقلي، وسط غياب منظومة تغذية صحية واستمرار تدهور القطاع الصحي.
أرقام رسمية تكشف حجم الأزمة
ووفق بيانات رسمية صادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية، فإن أكثر من 290,000 طفل دون سن الخامسة في غزة باتوا بحاجة إلى تدخلات تغذوية عاجلة، في حين تحتاج نحو 150,000 امرأة حامل ومرضع إلى مكملات غذائية ورعاية متخصصة.
وأشارت التقارير الميدانية الصادرة عن الفرق الطبية في مناطق متفرقة من القطاع، مثل النصيرات والمغازي، إلى أن متوسط عدد الحالات التي تصل شهريًا مصابة بسوء تغذية حاد يتراوح بين 180 إلى 240 حالة، وأن 60% من هذه الحالات تُحوّل إلى المستشفيات نتيجة المضاعفات الصحية.
مظاهر سوء التغذية وتأثيراته
ويظهر سوء التغذية لدى الأطفال في صور متعددة، من أبرزها التقزم (stunting) وتأخر النمو البدني والعقلي، إضافة إلى ضعف الجهاز المناعي وارتفاع قابلية الإصابة بالأمراض. تقول الدكتورة رنا زعيتري، رئيسة وحدة التغذية العلاجية في مستشفى العودة: "تشير الحالات التي تصلنا إلى وجود نقص مزمن في العناصر الأساسية، مثل الحديد، والزنك، وفيتامين A، ما يترك آثارًا قد تكون دائمة في نمو الطفل".
نقص اللقاحات والتغذية العلاجية
وبحسب تصريحات لوزارة الصحة في غزة ، فإن أكثر من 600 ألف طفل معرضون للإصابة بأمراض خطيرة، بسبب نقص اللقاحات الأساسية، وفي مقدمتها شلل الأطفال. وتقول مصادر في الهلال الأحمر الفلسطيني إن النقص الحاد في المكملات الغذائية، مثل الحليب العلاجي (F-75، F-100)، أدى إلى تدهور حالات عدد كبير من الأطفال، دون توفر بدائل علاجية داخل القطاع.
شهادات من الميدان
في شهادة للنازحة (س.ح)، وهي أم لطفل يبلغ من العمر 18 شهرًا، قالت: "طفلي لا يأكل. لا أستطيع شراء الحليب أو الفواكه. الأسعار مرتفعة، والغذاء غير متوفر. يعاني من وهن شديد ويبدو عليه الضعف المستمر".
كما أفادت سيدة أخرى (ج.م) أن ابنتها تعاني من تورم في الوجه والقدمين نتيجة اضطراب في امتصاص العناصر الغذائية، بعد أن فشلت محاولاتها المتكررة في الحصول على علاج متخصص.
صعوبات تعليمية ونفسية متفاقمة
تؤثر الحالة الغذائية أيضًا على الصحة النفسية والسلوكية للأطفال. فالمحرومون من التغذية السليمة غالبًا ما يعانون من القلق، والتشتت الذهني، وصعوبة التفاعل الاجتماعي. كما تُلاحظ لدى هؤلاء الأطفال صعوبات في الأداء المدرسي، تتراوح بين ضعف التركيز وتراجع المهارات التعليمية الأساسية.
وتوضح تقارير الفرق المعالجة أن معدل الحالات التي تصل للعلاج من سوء التغذية الحاد بين الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات يتراوح بين 180 و240 حالة شهريًا. كما أن نسبة الحالات المحولة إلى المستشفى ارتفعت من 16% إلى 60%، ما يعكس التدهور السريع في الوضع الصحي والتغذوي.
نقص اللقاحات وتهديد بالإعاقات
بسبب توقف إدخال اللقاحات الأساسية، يواجه أكثر من 602,000 طفل خطر الإصابة بأمراض مثل شلل الأطفال، ما قد يتسبب بإعاقات دائمة. وتقول الفرق الطبية إن غياب التلقيح في هذه المرحلة الحساسة من حياة الطفل يشكل خطرًا استراتيجيًا على الصحة العامة في القطاع.
تحديات القطاع الصحي
تقول مصادر طبية في مستشفى النصر للأطفال إن أغلب المرافق الصحية تعاني من نقص المعدات، وانعدام التهوية والكهرباء في أقسام الطوارئ، ما يجعل علاج الأطفال المصابين بسوء التغذية شبه مستحيل في بعض الحالات. وتضيف: "بعض المستشفيات الميدانية تعمل خارج نطاق الحد الأدنى، ونحن في حاجة عاجلة للمحاليل، أدوية الإسهال، ومضادات العدوى".
تشوهات خلقية ونقص خدمات الرعاية السابقة للولادة
وفي سياق متصل، حذّر الدكتور محمد أبو عفش، مدير الإغاثة الطبية في شمال غزة، من ارتفاع نسبة التشوهات الخلقية لدى الأجنة، قائلاً إن "النسبة تجاوزت 25%، ولا توجد أجهزة كافية للفحص أو التحليل، خاصة في مناطق شمال القطاع". وأكد أن الاستخدام الواسع للذخائر والغازات المحظورة قد يكون سببًا رئيسيًا في هذا الارتفاع.
دعوات لتحرك دولي عاجل
دعت منظمات محلية، منها اتحاد لجان العمل الصحي، إلى ضرورة فتح المعابر لإدخال الإمدادات الغذائية والدوائية، وتوفير لقاحات الطفولة بشكل فوري. كما طالبت بإرسال فرق تقييم طبية دولية للتحقيق في آثار تدهور التغذية، خاصة على الفئات الأكثر هشاشة.
إن آثار سوء التغذية في قطاع غزة لم تعد مجرد أزمة طارئة، بل تمثل تهديدًا مستدامًا لمستقبل الأطفال والصحة المجتمعية. ويتطلب ذلك تدخلًا إنسانيًا عاجلًا، يشمل فتح المعابر، وضمان إدخال الغذاء والدواء، وتوفير الرعاية الطبية للنساء والأطفال، وتوسيع نطاق التلقيح. فالحق في الغذاء والرعاية الصحية هو حق أساسي لا يقبل المساومة.
كما أن أثار سوء التغذية في غزة لا تقتصر على الجوع الجسدي، بل تمتد لتطال الجوانب النفسية والمعرفية في حياة الأطفال، ما يعرض مستقبلهم التعليمي والوظيفي للخطر. وبينما تتفاقم الأزمة، يظل تدخل المجتمع الدولي والمنظمات المتخصصة ضرورة ملحة لحماية ما تبقى من جيل يعيش تحت ضغط الجوع، والمرض، والحرب.
صور لأطفال يتلقون الرعاية الصحية في مستشفى الرنتيسي بمدينة غزة بسبب سوء التغذية