منذ بداية مارس 2025، تزامنًا مع انتهاء المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، صعّدت إسرائيل من هجومها العسكري على قطاع غزة وشددت الحصار إلى مستوى غير مسبوق. أُغلقت المعابر بشكل كامل، وتوقفت المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والوقود، ما دفع سكان القطاع إلى أزمة جوع كارثية لا تستثني أحدًا، وعلى رأسهم النساء والأطفال.
انهيار البنية الغذائية في قطاع غزة
مع توقف إدخال الوقود، توقفت جميع المخابز عن العمل، كما أغلقت التكيات التي كانت تقدم الطعام لعشرات الآلاف من المواطنين. اختفت السلع الأساسية من الأسواق، وأصبحت المواد المتبقية باهظة الثمن، ما جعل تأمين الغذاء مستحيلًا لمعظم السكان. لم يعد متوفرًا دقيق، سكر، أرز، فواكه، خضروات، لحوم أو ألبان. وأصبح الطعام في غزة امتيازًا لا يحصل عليه سوى القلة.
تجاوزت أسعار السلع القليلة المتوفرة القدرة الشرائية للمواطنين، الذين يعيش معظمهم دون دخل في ظل تدمير البنية الاقتصادية. ووفقًا لتقارير محلية، فإن أكثر من 80% من العائلات تعتمد على المساعدات الغذائية، والتي لم تعد تصل.
النساء والأطفال: الأكثر تضررًا من سياسة التجويع
أثر الحصار الغذائي بشكل مدمر على النساء الحوامل والمرضعات، حيث يعانين من سوء تغذية حاد ينعكس مباشرة على صحتهن وصحة أطفالهن. الرضاعة الطبيعية أصبحت شبه مستحيلة، والحليب الصناعي مفقود أو باهظ الثمن. الأطفال الرضع، وهم الفئة الأضعف، يعانون من الهزال، الجفاف، الإسهال، وضعف المناعة، ما يزيد من خطر الوفاة.
بحسب تقارير طبية، توفي أكثر من 50 طفلًا جراء سوء التغذية منذ بداية الهجوم، ويواجه أكثر من 65,000 طفل خطر الموت. هذه الأرقام لا تعكس فقط الإهمال، بل تفضح سياسة ممنهجة لتجويع المدنيين.
شهادات ميدانية توثق المأساة
آية السكافي، أم تبلغ من العمر 21 عامًا، فقدت طفلتها الرضيعة جنان نتيجة النقص الحاد في الغذاء والرعاية. تروي بمرارة كيف كانت تقاسم أسرتها رغيفين من الخبز يوميًا، وكيف تدهورت صحة ابنتها بسرعة بعد إعادة إغلاق المعابر وغياب الحليب والرعاية الطبية.
بسمة عوض، أم لطفلة مصابة بحساسية اللاكتوز، تعجز عن توفير الحليب الخاص اللازم لإنقاذ حياة طفلتها، واضطرت لاستخدام علب منتهية الصلاحية، بسبب نفاد البدائل.
ه. ك، امرأة حامل في شهرها التاسع، تعيش على وجبات فقيرة تفتقر للعناصر الأساسية، وتخشى أن تلد طفلها في ظروف لا تضمن له البقاء. تعاني من الإرهاق، الدوخة، وفقدان الوزن، في صورة حية لسوء التغذية.
نعمة الكفارنة، أم لرضيعة تعاني من ضعف النمو، تقول إن طفلتها لا تستطيع المشي أو الحبو رغم بلوغها عامًا وشهرًا، بسبب غياب الغذاء الكافي وتوقف الرضاعة الطبيعية.
آثار صحية كارثية طويلة الأمد
لا يقتصر خطر المجاعة على الموت الفوري، بل يمتد إلى آثار دائمة على نمو الأطفال وتطورهم العقلي والبدني. يعاني الأطفال المصابون بسوء التغذية من تأخر في المهارات الحركية واللغوية، ونقص المناعة، وقد يواجهون أمراضًا مزمنة في المستقبل.
النساء بدورهن يواجهن خطر الإجهاض، الولادة المبكرة، انخفاض أوزان المواليد، والوفاة أثناء أو بعد الولادة. الأزمة الصحية تتفاقم وسط عجز المستشفيات، وانعدام الإمدادات الطبية، والانقطاع المستمر للكهرباء والمياه.
هجمات تستهدف مراكز توزيع الغذاء
لم يكتفِ الاحتلال بقطع سبل العيش، بل استهدف أيضًا مراكز توزيع الغذاء والتكيات التي كانت تحاول توفير وجبة واحدة للمواطنين. تعرضت طوابير انتظار الطعام لهجمات مباشرة، أوقعت شهداء وجرحى، مما فاقم مناخ الخوف وعمّق المجاعة.
تحذيرات قانونية ودعوات دولية للتدخل
أكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن سياسة التجويع التي تمارسها إسرائيل ترتقي إلى جريمة إبادة جماعية بموجب القانون الدولي، إذ تهدف إلى تدمير المدنيين الفلسطينيين كليًا أو جزئيًا من خلال منع الغذاء والدواء.
ودعا المركز المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل لوقف هذه الجريمة، والضغط من أجل فتح المعابر فورًا، وضمان دخول المساعدات، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات الجسيمة. كما طالب بتنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعه السابق، المتهمين باستخدام التجويع كأداة حرب.
خاتمة: غزة تنزف جوعًا أمام صمت العالم
في الوقت الذي تلتزم فيه الإنسانية الصمت، تُترك غزة تواجه مجاعة من صنع الإنسان. نساءها يلدن وسط الجوع، وأطفالها يموتون جوعًا، وأمهاتها يشهدن يوميًا على فشل العالم في حمايتهم. لم تعد الأزمة إنسانية فحسب، بل باتت وصمة على جبين القانون الدولي ومؤسساته.