ذوو الإعاقة في غزة: الناجون المنسيون وسط حرب التجويع والحصار

المعاقون في الحرب.jpg

بين أنقاض البيوت المدمرة، والمراكز الطبية المتوقفة، والطرقات المقطعة، يقف آلاف الفلسطينيين من ذوي الإعاقة في قطاع غزة وجهًا لوجه مع كارثة مضاعفة. فمع استمرار العدوان الإسرائيلي والحصار المحكم منذ شهور، لا تقتصر المعاناة على نقص الماء والغذاء والدواء، بل تمتد لتشمل شريحة بالغة الهشاشة، تُركت لمصيرها في ظروف وصفتها التقارير الحقوقية بـ"اللاإنسانية".

أرقام مفزعة وحقائق صادمة

تشير أحدث البيانات الصادرة عن وزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية إلى أن عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في قطاع غزة بلغ نحو 85,000 شخص، من بينهم أكثر من 28,000 يعانون إعاقات شديدة. وتقدر تقارير المنظمات الشريكة مثل "أنقذوا الأطفال" ومنظمة الصحة العالمية أن أكثر من 80% منهم محرومون من الخدمات الأساسية، بما في ذلك المأوى، والرعاية الصحية، والمساعدة النفسية والاجتماعية.

ويكشف التقرير الصادر في مايو 2025 عن أن نسبة 94.7% من الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة يواجهون صعوبات حادة في الحصول على المساعدات، وأن 97.2% لا يجدون تغطية لاحتياجاتهم الأساسية، بينما 83% منهم أفادوا بتدهور وضعهم النفسي والاجتماعي بسبب الحرب.

الإعاقة في زمن المجاعة

بحسب منظمات إنسانية مثل "أنقذوا الأطفال" و"ماب"، فإن ذوي الإعاقة يتأثرون بشكل مضاعف بأزمة المجاعة التي تضرب قطاع غزة حاليًا، إذ يُقدّر أن أكثر من 65% منهم يعانون من سوء التغذية الشديد، مع غياب شبه تام للرعاية الطبية والعلاج الطبيعي.

يقول أحمد (17 عامًا)، مصاب بإعاقة حركية: "لم أتناول وجبة كاملة منذ أكثر من أسبوع. أحتاج إلى أدوية وكرسي متحرك جديد، لكن لا أحد يسمعنا. نحن لا نُعتبر أولوية حتى في الموت".

انهيار خدمات الإعاقة

قبل الحرب، كان قطاع غزة يضم ما لا يقل عن 17 مركزًا لتأهيل ذوي الإعاقة. الآن، 90% من هذه المراكز خرجت عن الخدمة، بسبب الاستهداف المباشر أو انقطاع الكهرباء وانعدام الوقود، بحسب بيان مشترك صادر عن وزارة التنمية الاجتماعية ومنظمة الصحة العالمية.

وتفيد التقارير بأن الآلاف من ذوي الإعاقات الحركية، والسمعية، والبصرية، والذهنية، لم يتمكنوا من الحصول على أبسط أدوات المساعدة، كالعكازات أو السماعات أو كراسي المقعدين. ومع توقف خدمات العلاج الطبيعي والتعليم الخاص، أصبح كثيرون منهم سجناء غرفهم أو خيام مؤقتة بلا تهوية أو خصوصية.

النجاة من القصف... والموت بالعزلة

في مخيمات النزوح، تواجه العائلات التي ترعى أفرادًا من ذوي الإعاقة تحديات هائلة. تقول أم محمد، والدة طفل مصاب بالشلل الدماغي: "نزحنا ثلاث مرات، ولم يكن هناك مكان مخصص لحالته. أحمله على ظهري أثناء الهروب، ولا توجد مياه نظيفة أو مرحاض يمكنه استخدامه".

وتضيف: "نحن مرئيون وغير مرئيين. الجميع يركض، ونحن نحاول فقط أن نبقى أحياء".

أم عبد الله – والدة لطفل مصاب بإعاقة حركية:
تقول أم عبد الله، وهي نازحة من شمال قطاع غزة، إن طفلها المصاب بالشلل الدماغي لم يتلقَ أي علاج منذ بداية الحرب، بعد أن دُمّر المركز التأهيلي الذي كان يرتاده. "لم يعد هناك أي مكان مناسب لحالته. نحمله في التنقلات، ونفتقر إلى مقومات الحياة البسيطة. لا ماء نظيف، ولا دورات مياه يمكنه استخدامها، ولا أحد يسأل عنّا"، تضيف بصوت متعب من الخيام المؤقتة في رفح.

فادي، شاب في العشرينات يعاني من إعاقة بصرية:
يقول فادي: "الناس يهربون عندما يبدأ القصف، وأنا أبقى مكانـي لأنني لا أستطيع الركض. لا أحد يفكر في كيف يهرب مثلي. في أحد الأيام تُركت وحدي في المنزل لمدة يومين بعد نزوح الجميع فجأة. كنت أسمع صوت القصف وأنتظر أن ينتهي، أو أن ينتهي أنا أولًا". ويشير فادي إلى أن انقطاع الكهرباء أضاف مأساة جديدة، حيث لم يعد يتمكن من شحن أجهزته المساعدة، ولم يعد يستطيع الاعتماد على نفسه.

خديجة، نازحة تعتني بشقيقتها من ذوي الإعاقة الذهنية:
توضح خديجة أن شقيقتها، التي تعاني من إعاقة ذهنية شديدة، تعيش منذ أسابيع في حالة اضطراب مستمر داخل مركز إيواء مكتظ. "هي لا تفهم لماذا نُقلنا من بيتنا، ولا لماذا لا نأكل سوى وجبة واحدة، أو لماذا يصرخ الناس ليلًا. أحتاج إلى أدوية مهدئة لها، لكن لا يوجد دواء، ولا طبيب، ولا من يساعدني"، تقول خديجة بينما تحاول تهدئة شقيقتها التي بدأت بالصراخ في الخلفية

أشخاص كُثر لم يتمكنوا من الإخلاء بسبب إعاقتهم، خاصة في شمال القطاع، حيث كان القصف الأعنف. وتوثق منظمات محلية حالات وفاة لذوي إعاقات لم يتمكنوا من مغادرة منازلهم أو الحصول على المساعدة أثناء الغارات.

 

الإعاقة ليست أولوية في الخطط الإنسانية

رغم الجهود الدولية لتوسيع عمليات الإغاثة في غزة، تُظهر الخطة الإنسانية الصادرة عن الأمم المتحدة أن ذوي الإعاقة لا يزالون غير مشمولين بشكل كافٍ في توزيع المساعدات. وتُفتقر المراكز الإيوائية إلى تجهيزات الحد الأدنى، كالمداخل المخصصة والكراسي المتحركة والمراحيض المؤهلة.

وحذّر توم فليتشر، منسق الإغاثة في حالات الطوارئ في الأمم المتحدة، من أن استبعاد ذوي الإعاقة من الخطط الإغاثية يمثل "فشلًا أخلاقيًا وسياسيًا لا يمكن تبريره".

تضييق إضافي: الحرب النفسية والوصمة الاجتماعية

إلى جانب التحديات المادية، يواجه ذوو الإعاقة في غزة عبئًا نفسيًا واجتماعيًا متزايدًا. تقارير أطباء ميدانيين أكدت أن الأطفال من ذوي الإعاقة يعانون من اضطرابات قلق واكتئاب مضاعف، نتيجة تدمير بيئتهم الآمنة وغياب الدعم النفسي المتخصص.

كما يواجه كثيرون منهم وصمة مضاعفة داخل المجتمع، حيث يُنظر إليهم كعبء، وهو ما تفاقم في ظل شح الموارد، مما حرمهم من الدعم المجتمعي التقليدي الذي كانوا يعتمدون عليه.

انتهاك للمواثيق الدولية

بحسب اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي وقّعت عليها دولة فلسطين عام 2014، فإن على الدولة ومؤسساتها والمجتمع الدولي توفير الحماية والرعاية المتكاملة لهذه الفئة خلال حالات الطوارئ والنزاع. لكن الواقع في غزة يعكس العكس تمامًا.

وتعد سياسة التجاهل الحالية، بما في ذلك استهداف البنية التحتية الطبية والتأهيلية، بمثابة خرق مباشر للمادة 11 من الاتفاقية التي تلزم باتخاذ "جميع التدابير اللازمة لضمان سلامة الأشخاص ذوي الإعاقة وحمايتهم في حالات النزاع والكوارث الطبيعية".

المناشدة الأخيرة

أمام هذا الواقع، أطلقت منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية نداءات عاجلة للمجتمع الدولي، تطالب فيها بإدراج ذوي الإعاقة في أولويات الإغاثة، وإنشاء مراكز مؤقتة مخصصة لهم، وتوفير المعدات الطبية الضرورية، وإعادة تشغيل برامج التأهيل والتعليم والدعم النفسي.

كما دعت إلى فتح تحقيقات دولية بشأن استهداف المراكز الطبية التي كانت تقدم خدمات لذوي الإعاقة، واعتبار ذلك جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني.

الإعاقة ليست هامشًا... بل اختبار للإنسانية

في وقت تنشغل فيه العناوين الكبرى بتعداد القتلى والدمار، يبقى ذوو الإعاقة في غزة الضحايا المجهولين، الناجون المنسيون، والعنوان الأبلغ لفشل النظام العالمي في حماية الفئات الأضعف.

وربما لا يحتاج هؤلاء إلى كثير من التعاطف، بل إلى أبسط صور الإنصاف: أن يُنظر إليهم كأصحاب حقوق، لا كمجرد أرقام خلف الجدران.

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة