تقرير آلاء أحمد :- في قطاع غزة، حيث تتراكم الأنقاض وتتعالى أصوات الفقدان، تتكشف واحدة من أشد المآسي الإنسانية قسوة، عشرات الآلاف من الأطفال الأيتام، الذين سلبتهم الحرب آباءهم وأمهاتهم، يواجهون مصيرًا مجهولًا بين التشرد، الجوع، والخوف. هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد أرقام في تقارير رسمية، بل هم جيل كامل ينهار أمام أعين العالم، في ظل حصار خانق وصمت دولي. في هذا التقرير نسلط الضوء على أوضاع الأيتام في غزة، ونعكس أبعادها الإنسانية، القانونية، والاجتماعية، مع دعوة عاجلة لتحرك دولي فوري عاجل.
أرقام كارثية "حجم الخسارة الإنسانية"
ويبقى الأطفال في خانة الاستهداف من خلال إلحاق الأذى بالمعيلين أو أحدهما، وتشير البيانات إلى أن حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة أدت إلى تضاعف عدد الأطفال الأيتام ليصل إلى نحو (40,000) ألف يتيم، من بينهم (700) طفل يصنفون كناجين وحيدين، أي أنهم فقدوا أسرهم بالكامل. في حين كان عدد الأيتام في غزة قبل شروع قوات الاحتلال في حرب الإبادة أكتوبر 2023 يبلغ نحو (22,000) ألفاً، مما يعني أن العدد تضاعف خلال ثمانية عشر شهراً من العدوان المتواصل، في مؤشّر خطير على حجم الكارثة الإنسانية التي تطال الأطفال بشكل خاص.
ويُعد هذا الرقم من أعلى النسب المسجلة في الحروب الحديثة، ويعكس عمق الكارثة الإنسانية التي تمر بها فئة الأيتام، خصوصًا مع غياب الرعاية وانهيار البنية الاجتماعية.
وفقًا لإحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية حتى مايو 2025، بلغ عدد الشهداء الأطفال في قطاع غزة (16,506 طفلًا)، وفقًا لإحصائية رسمية توثق حجم الاستهداف المباشر والممنهج لأضعف فئات المجتمع. وتُظهر البيانات أن الضحايا توزعوا على مختلف الفئات العمرية على النحو التالي:
916 شهيدًا من الرضّع أقل من عام.
4,365 شهيدًا من الأطفال بين 1 إلى 5 أعوام.
6,101 شهيدًا من الأطفال بين 6 إلى 12 عامًا.
5,124 شهيدًا من الفئة العمرية 13 إلى 17 عامًا.
هذه الأرقام تعكس بوضوح أن الأطفال لم يكونوا على هامش الحرب، بل في صلب دائرة الإبادة والاستهداف المنظم.
كما تم توثيق إبادة 2,172 عائلة فلسطينية أبيدت بالكامل، فيما وصفته منظمات حقوقية بـ"تطهير عائلي جماعي". هذه الأرقام ليست نهائية، إذ يصعب تسجيل مئات الأطفال مجهولي الهوية بسبب انهيار النظام المدني وتدمير البنية التحتية الحكومية.
هذه الأرقام تكشف عن كارثة شاملة تمتد عبر جميع مراحل الطفولة، مما يضع عبئًا ثقيلًا على المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته تجاه هؤلاء الأطفال. الكثير منهم باتوا بلا وثائق هوية، يتجولون بين الأنقاض بحثًا عن مأوى أو لقمة طعام، في مشهد يعكس انهيارًا تامًا لمنظومة الحماية الاجتماعية.
صرخات مكتومة: شهادات من قلب الأنقاض
في مراكز الإيواء المؤقتة، التي تفتقر لأدنى متطلبات الحياة الكريمة، تتكرر قصص الأطفال المؤلمة.
الطفلة مريم 11 عامًا من خان يونس، "كنت في بيتي ، فجأة حدث انفجار، وأصبح الجو عبارة عن غبار وركام، وأصبحت لا أرى شيئًا، وفي شي طابق على صدري وانا ضليت تحت الركام مدة طويلة، بعديها طلوني ودخلت المستشفى ما كان في حد جمبي وكنت كتير خايفة ولما اجا الليل نمت وصرت احلم كوابيس مخيفة عن الي صار معي وكل شوية أتذكر الحدث كانه بنعاد مرا تانية نفسي ارجع واعيش حياة طبيعية
تقول " نادية"، وهي أم لأربعة أطفال أيتام من مدينة رفح، إنهم فقدوا الأب أثناء ذهابه للعمل، ثم تعرض منزلهم للقصف، واضطروا للنزوح من مكان إلى آخر، حتى انتهى بهم المطاف في خيمة بلا معيل.
"الآن أعيش مع أطفالي في خيمة. ننتظر يوميًا بالساعات لتعبئة مياه الشرب أو الاستحمام. أقف أمام التكية للحصول على بعض الطعام، وأخبز البسكوت وأبيعه أنا وبنتي الصغيرة التي تبلغ من العمر أحد عشر عامًا، لنتمكن من تأمين حاجتنا اليومية."
هذه الشهادة، كغيرها من روايات الأمهات الناجيات، ترسم مشهدًا قاتمًا لحياة ما بعد الفقد، وتكشف حجم المعاناة اليومية التي تواجهها الأسر اليتيمة في ظل غياب الحماية والرعاية والدعم.
أزمة نفسية مدمرة: جيل يفقد طفولته
تؤكد منظمة "Save the Children" أن 90% من أيتام غزة يعانون من اضطرابات نفسية حادة، تشمل:
الصمت المطلق وفقدان القدرة على الكلام.
التبول اللاإرادي نتيجة الصدمات.
نوبات الذعر والكوابيس الليلية.
العزلة الاجتماعية ومحاولات انتحار.
المرشدة النفسية مي خالد، التي تعمل في أحد مراكز الإيواء، تصف الحالة بقولها: "نعالج أطفالًا فقدوا القدرة على الضحك، على البكاء، حتى على الحلم. طفل في السابعة قال لي: أتمنى أكون أنا اللي متت مش أمي." هذه الأعراض ليست مجرد ردود فعل مؤقتة، بل دليل على انهيار نفسي عميق يهدد بتحويل جيل كامل إلى ضحايا دائمين للصدمات.
فراغ قانوني وانتهاكات موثقة
تُعدّ أوضاع أيتام غزة انتهاكًا صارخًا لاتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، التي تكفل حق كل طفل في الحياة، الرعاية، والحماية من النزاعات المسلحة. ما يحدث في غزة يتجاوز الخرق القانوني ليصل إلى مستوى جرائم الحرب. تقارير موثقة من مركز الميزان لحقوق الإنسان تشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي استهدف منازل المدنيين بشكل متعمد، مما أدى إلى إبادة عائلات بأكملها، وخلق ما يُعرف بـ"أيتام المجازر" – أطفال فقدوا كل من يربطهم بهم صلة قرابة.
هذه الانتهاكات تستوجب فتح تحقيق دولي عاجل، لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. لكن، حتى الآن، لم تُظهر المحاكم الدولية أي تحرك جدي لمعالجة هذا الواقع، مما يعزز شعور الأطفال بالتخلي عنهم من قبل المجتمع الدولي.
استجابة دولية متعثرة: غياب شبكة الأمان
رغم النداءات المتكررة من منظمات حقوق الإنسان، فشل المجتمع الدولي في تقديم استجابة تتناسب مع حجم الكارثة. جوناثان كريسبي، رئيس قسم الاتصالات في منظمة "يونيسف"، يحذر: "ما لا يقل عن 17,000 طفل في غزة مجهولو المصير، لا يمكن الوصول إليهم، ولا التأكد من سلامتهم الجسدية أو النفسية." غياب المساعدات النفسية المتخصصة، وانعدام شبكة أمان اجتماعي، جعل هؤلاء الأطفال عرضة للاستغلال، التجنيد القسري، والعمالة غير القانونية.
وكشفت وفاء أبو جلالة، مؤسسة قرية الوفاء لرعاية الأيتام، أن الأوضاع الإنسانية في جنوب قطاع غزة أدت إلى تزايد كبير في عدد الأطفال المحتاجين للرعاية، خاصة بعد موجات النزوح والتصعيد المستمر. حيث أن هذه القرية تقع في منطقة المواصي غرب خان يونس، وتستضيف حاليًا نحو 300 طفل يتيم، من بينهم من فقدوا أسرهم بالكامل، إضافة إلى أطفال مجهولي النسب أو غير المصحوبين بذويهم، وهي من أكثر الفئات هشاشة وتضررًا من الحرب.
وأوضحت أبو جلالة أن القرية توفر إقامة دائمة ومجهزة لإيواء الأطفال، بالتعاون مع وزارة التنمية الاجتماعية، إلا أن ارتفاع أعداد الأيتام وتدمير عدد كبير من المرافق الخاصة بهم في قطاع غزة، فاقم من صعوبة توفير الكفالات والرعاية الكاملة لهم.
وأضافت أن النقص الحاد في المياه، والغذاء، والموارد الأساسية، إلى جانب ضعف الإمكانيات التشغيلية، يضع الأطفال في دائرة الخطر المستمر، مؤكدة أن تدهور الأوضاع في خان يونس وازدياد عدد النازحين، أدى إلى تضاعف الضغط على المؤسسة بشكل غير مسبوق.
مراكز الإيواء، التي كان من المفترض أن تكون ملاذًا آمنًا، تحولت إلى أماكن مكتظة تفتقر للطعام النظيف، المياه، أو الرعاية الصحية. هذا الواقع يفاقم من معاناة الأطفال، ويحول حياتهم إلى كفاح يومي من أجل البقاء.
تحديات اجتماعية: انهيار النسيج العائلي
في ظل انهيار النظام الاجتماعي في غزة، باتت شوارع المدينة والأحياء المدمرة ملاذًا قسريًا للأيتام. آلاف الأطفال لا يملكون وثائق هوية، ولا يعرفون أقاربهم، ولا يستطيعون الوصول إلى أي مؤسسة تقدم الدعم. هذا الفراغ يعرضهم لخطر الاستغلال الجسدي والنفسي، ويجعلهم فريسة سهلة للعصابات أو الجماعات التي تستغل ضعفهم.
غياب برنامج وطني شامل لرعاية الأيتام يزيد من تعقيد الأزمة. المؤسسات المحلية، التي تعاني من نقص التمويل والموارد، غير قادرة على استيعاب هذا العدد الهائل من الأطفال، يتركهم في مواجهة مصير مجهول.
دعوة لتحرك عاجل: خطوات لإنقاذ جيل
في ظل الكارثة المستمرة التي تطال أطفال غزة، لا سيما الأيتام، بات من الضروري أن يتحمل المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية مسؤولياتهم الأخلاقية والقانونية. فوقف هذا النزيف الإنساني لا يمكن أن يتم دون تحرك عاجل وممنهج، يستند إلى إجراءات عملية وشاملة تستجيب لعمق الأزمة.
وتشمل هذه الخطوات: إنشاء صندوق طوارئ دولي لتوفير الغذاء والملبس والمأوى والرعاية الدائمة للأطفال الأيتام، إلى جانب إيفاد بعثات طبية ونفسية متخصصة لتقديم الرعاية العاجلة، وإطلاق قاعدة بيانات وطنية لتوثيق هويات الأطفال فاقدي المعيلين، حفاظًا على حقوقهم القانونية. كما يجب فتح تحقيقات دولية مستقلة لمحاسبة المسؤولين عن استهداف المدنيين، والعمل على تفعيل برامج تعليم وتأهيل نفسي واجتماعي تعيد دمج الأيتام في المجتمع وتكسر دوامة العزلة والفقد.
جيل يُمحى من الذاكرة
في غزة، لا يعيش الأطفال طفولتهم، بل يواجهون شبح الموت البطيء وسط أنقاض الأمل. كل يتيم هو قصة لم تُروَ، وصرخة لم تجد من يسمعها. هؤلاء الأطفال لا يطالبون بمؤتمرات أو بيانات، بل بحضن دافئ، ومدرسة تحمي أحلامهم، ويد تربت على أكتافهم.
الصمت الدولي ليس مجرد تقصير، بل خيانة للإنسانية. كل دقيقة تمر دون تدخل هي طعنة أخرى في جسد الطفولة. العالم مدعو ليس فقط للنظر إلى هذه المأساة، بل للتحرك قبل أن تُطفئ الحرب آخر شعلة من أحلام جيل بأكمله. غزة تنتظر ضمير العالم، فهل سيستيقظ؟