بقلم د. أحمد إبراهيم حماد
في خضم التعاطي مع المقتلة والكارثة الإنسانية والسياسية التي يعيشها شعبنا الفلسطيني، لا سيما في قطاع غزة، تتسم بعض التحليلات بطابع انفعالي يغلب عليه الخطاب العاطفي، ما يُفضي إلى سطحية في المعالجة وغياب للرؤية الإستراتيجية الضرورية لفهم أبعاد الأزمة وتداعياتها. ويبدو أن هذا الخطاب في كثير من الأحيان يُعاد إنتاجه كرد فعل على مآسي الماضي، بدلاً من أن يُبنى كأداة للتأطير المستقبلي والتغيير البنّاء، مما يُعيد تفعيل أنماط الإقصاء التي كابدها الفلسطينيون لعقود طويلة.
لقد تجاوز العدوان الإسرائيلي على غزة أكثر من 600 يوم من العنف المتواصل والمجازر اليومية، وعمليات التدمير الممنهجة في مشهد يبدو فيه الاحتلال كأنه يتحرك بمنأى عن أي ضوابط قانونية أو أخلاقية، مستندًا إلى مظلة دعم غربى، كان أبرزها الموقف الأمريكي الذي وفّر الغطاء السياسي والعسكري منذ اللحظات الأولى. ومع استمرار العمليات العسكرية التي لم تبقِ شيئًا من مقومات الحياة في القطاع، تتجلى ملامح أزمة متعددة الأبعاد: إنسانية، وقانونية، وسياسية، تستدعي قراءة عقلانية تُوازن بين الألم المشروع والواقعية السياسية، بهدف بناء خطاب فلسطيني قادر على مواجهة التحديات الراهنة، والتأسيس لرؤية وطنية تتجاوز دائرة الردود الانفعالية نحو مشروع تحرري ناضج، عادل، ومستدام.
الإشكالية في هذا الخطاب تكمن في رسم خطوط حمراء جديدة تحدّ من مساحة الحوار والنقاش، مما يخلق بيئة تستبدل استبداداً بآخر. فعندما تُرفض المخاوف أو تُقصى الآراء المغايرة، يتم تجاهل شريحة واسعة من الشعب الذين قد تكون لديهم رؤى أو مخاوف مشروعة تجاه المستقبل. هذا النهج يتناقض مع القيم التي ناضل لاجلها شعبنا الفلسطيني، مثل الحرية والكرامة والاستقلال، ويعيد تكرار عقلية “مع أو ضد” التي استخدمت خلال السنوات الماضية من عمر الانقسام الفلسطيني.
بدلاً من التركيز على الانتقام أو التطبيل غير النقدي، يجب أن يكون الخطاب شاملاً وعميقاً، يعترف بالمخاوف والمحاذير، يناقشها بجدية، ويقدم حلولاً عملية. القتل والدمار في غزة أصاب الكل الفلسطيني ولم يقتصر على فصيل بعينه، بل شمل كل مكونات المجتمع في قطاع غزة، بكامله وما شهدته وتشهده مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية في الأشهر القليلة الأخيرة من قتل وتدمير، لا يخص أياً من هذه الساحات وحدها بل إنه يتصل بقضية الشعب الفلسطيني كله. وينسحب هذا الواقع القاسي أيضًا على بقية أبناء الشعب الفلسطيني في الشتات والمهاجر، الذين لا يزالون يعايشون تبعات النكبة الكبرى وتراكمات التهجير والتمييز والتجريد من الحقوق، منذ وعد بلفور وحتى اليوم. فقد شكّل المشروع الصهيوني، الذي حظي بدعم واسع من القوى الإمبريالية الكبرى، نموذجًا استيطانيًا طويل الأمد ارتكز على السيطرة على الأرض وتغيير الواقع الديمغرافي. وقد ارتبط هذا المشروع بتطبيق سياسات ممنهجة للإقصاء والتمييز، وصلت في مراحل متقدمة إلى ممارسات تطهير عرقي. ومع تطوره، لم تعد سياسات الفصل العنصري (الأبارتهايد) مجرد أدوات مرحلية للهيمنة، بل أصبحت مكونًا بنيويًا في الهوية السياسية والاستعمارية لإسرائيل.
إن مقاومة الفلسطينيين، بكل أشكالها المشروعة، ليست فعلًا لحظيًا أو انعكاسًا لردود فعل عاطفية، بل هي نتاج وعي تاريخي عميق وسعي مستمر لحماية الهوية الوطنية من محوٍ ممنهج.
ومن هنا، فإن التغافل عن المخاطر الحقيقية التي تتهدد قطاع غزة والقضية الفلسطينية ككل، سواء من أطراف دولية أو إقليمية، يُعد تجاهلًا خطيرًا لحقيقة الواقع. فهذه التحديات ليست من نسج الخيال أو نتاج المبالغة، بل هي وقائع ملموسة تتطلب إدراجها ضمن أي خطاب سياسي أو وطني يُراد له أن يكون جادًا ومؤثرًا. إن الخطاب العاطفي، رغم أثره الآني، لا يكفي وحده لتشكيل الوعي الجمعي أو صياغة المواقف الإستراتيجية. أما الخطاب العقلاني، القائم على المواجهة الصريحة للحقائق والدعوة إلى عمل مدروس ومسؤول، فهو القادر على الصمود والبناء.
ذلك لا يعني إقصاء الآراء المختلفة، بل إن احترام التعددية واجب وطني، شرط أن تستند إلى رؤية واقعية تتفهم حجم التحديات، وتُسهم في صوغ مشروع وطني قادر على الصمود والتقدم. وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، ستترك هذه الحرب إرثاً ثقيلاً من الدمار الشامل والفساد الذي طال كافة القطاعات والبنى التحتية، مما أدى إلى انهيار الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة والفقر بشكل غير مسبوق. كما أدت سياسات الاحتلال القمعية إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، وخلق حالة من الاستقطاب والتشرذم بين مختلف مكونات الشعب الفلسطيني في غزة.
ان التحديات التي تواجه المجتمع الفلسطيني تتمثل في وقف المقتلة ومنع التهجير وتعزيز صمود الشعب في القطاع من خلال اعادة البناء والاعمار على أسس عادلة ومستدامة، والعمل على توفير فرص العمل وتحسين الخدمات الأساسية، وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع الفلسطيني.
من لا يرى هذا الواقع ويفضل استئثار الخطاب العاطفي على التحليل الواقعي، يقع في خطر تهميش الأسباب الحقيقية للأزمة وتعميقها بدلاً من معالجتها. الخطاب العاطفي، رغم أهميته في تعبئة الجماهير وحشد الدعم، لا يمكن أن يكون بديلاً عن مواجهة الحقائق الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية بوضوح وواقعية. تجاهل التحديات العملية والتركيز على الشعارات قد يؤدي إلى تكرار أخطاء الماضي، ويُضعف القدرة على بناء رؤية استراتيجية قادرة على تحقيق الاهداف وإحداث التغيير المطلوب.
شعبنا الفلسطيني يحتاج إلى خطاب عقلاني يُوازن بين الإلهام العاطفي والرؤية الواقعية للتحديات. حان الوقت للتفكير من عقلية المقاومة إلى عقلية المنقذ لدماء الشعب، ومواجهة التحديات بعقول منفتحة وإرادة صلبة.
الاختلاف في الرأي ليس تهديداً، بل دليل على الحيوية. وما تحتاجه غزة هو نقاش جاد ومسؤول يعالج جذور القضايا ويبحث عن طرق لإشراك الجميع في عملية الإنقاذ، بعيداً عن منطق الإقصاء الذي عانى منه شعبنا لسنوات طويلة من كل الأطراف.
نأمل بكل صدق أن تجد غزة طريقها نحو التعافي والازدهار، وأن يتمكن شعبنا الفلسطيني من لملمة جراحه والوقوف من جديد في محاولة بناء وطنٍ يليق بتضحياته وآماله، وطنٍ يسوده العدل والمساواة ويعيد الحياة إلى ما دمرته سنوات الانقسام والحروب الطويلة. غزة وأهلها تستحق مستقبلاً أفضل، يتجاوز آلام الماضي ويحقق السلام والتنمية لكل أبنائها في إطار الدولة الفلسطينية الواحدة.
--------------------------------------------------------
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت