غزة تُنهب مرتين: حصار يُجَوِّع ومساعدات تُسرق

شاحنات المساعدات الإنسانية في غزة تتعرض للسرقة.webp

في الوقت الذي يعاني فيه أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة من انعدام الأمن الغذائي وشح الماء والدواء، تتحول قوافل المساعدات الإنسانية إلى أهداف سهلة لمجموعات مسلحة ومنظمة، في ظل غياب أمني كامل، ووسط صمت دولي متواطئ. وتفيد تقارير محلية ودولية بأن سرقة المساعدات لم تعد مجرد حوادث فردية بل أصبحت مظهرًا من مظاهر انهيار النظام، بل أداة ضغط إضافية تُمارس ضد المدنيين في القطاع.

الواقع الميداني: شاحنات تُنهب والأسواق تمتلئ بالمسروقات

منذ منتصف مايو 2025، وحتى مطلع يونيو، سجل مركز الميزان لحقوق الإنسان عشرات الحوادث التي تعرضت فيها شاحنات مساعدات للنهب، غالبًا خلال دقائق من دخولها غزة. على الطرق الرئيسية، خصوصًا طريق صلاح الدين، تنصب جماعات مجهولة الهوية حواجز مسلحة تستولي على الشحنات. وأكد شهود عيان لـ"مركز الميزان" أن بعض السائقين تعرضوا للضرب والطعن، وسُجلت حالتان على الأقل استخدم فيهما السلاح الناري لترهيب المرافقين.

"لم أتمكن من إيصال حمولة الطحين. أوقفوني على الطريق وهددوني، أخذوا كل شيء"، يقول أحد السائقين الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية. أُصيب هذا السائق بجروح في الكتف والوجه ونُقل لاحقًا إلى أحد المراكز الطبية الميدانية التي تعاني بدورها من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات.

غياب رقابة وسيطرة على التوزيع

السلطة المحلية في غزة تعاني من انهيار تام في البنية الأمنية، ما يجعل عمليات التأمين والتوزيع عرضة للتجاوز والانفلات. المساعدات التي تمر عبر معبر كرم أبو سالم تُسلم لمنظمات دولية أو محلية، لكن بمجرد وصولها إلى داخل القطاع، تنعدم القدرة على ضمان وصولها للمستحقين.

موظف إغاثي يعمل مع منظمة دولية قال: "نضطر أحيانًا لتسليم المساعدات عند أطراف المدينة فقط. الدخول إلى المناطق الداخلية محفوف بالمخاطر. في إحدى المرات فقدنا ثلاث شاحنات خلال أقل من ساعة".

وتُباع العديد من السلع المخصصة للإغاثة علنًا في الأسواق المحلية بأسعار تفوق قيمتها بعشرات المرات. الطحين والزيت والعدس والرز، وحتى القفازات الطبية وأقنعة التنفس، أصبحت متوفرة في السوق السوداء بأسعار يعجز الغالبية عن دفعها.

التضييق الإسرائيلي يزيد من حدة الأزمة

الاحتلال الإسرائيلي، من جهته، يواصل فرض قيود صارمة على إدخال المساعدات إلى غزة، حيث انخفض عدد الشاحنات من 900 إلى 800 يوميًا، بينما يُمنع إدخال الوقود ومعدات التنقية والإمدادات الطبية الخاصة. تقارير الأمم المتحدة أشارت إلى أن إسرائيل ترفض بانتظام أكثر من 80٪ من الطلبات المقدمة لإدخال مواد إغاثية عاجلة.

وبحسب مركز الميزان، فإن الاحتلال لا يكتفي بفرض الحصار، بل يستخدمه كأداة عسكرية، من خلال فرض "عقاب جماعي" على السكان، عبر تعقيد مسارات المساعدات ورفض مرورها، ما يضطر السكان للجوء إلى مصادر بديلة خارجة عن القانون.

فوضى وسط الجوع: السكان رهائن الجريمة

في ظل انعدام الأمن الغذائي، ومع بلوغ أسعار المواد الأساسية مستويات غير مسبوقة، لم يعد أمام آلاف العائلات خيار سوى اللجوء للتسول أو بيع ممتلكاتها الشخصية، مقابل كيس طحين أو وجبة طعام.

أم محمد، أرملة وأم لخمسة أطفال، تقول: "ذهبتُ خمس مرات لنقطة توزيع مساعدات ولم أجد شيئًا. وفي المرة الأخيرة تعرضت للضرب من أحد المسلحين الذين حاولوا السيطرة على الموقع. الآن أطبخ الماء وبعض الأعشاب فقط".

شهادات من الميدان: مساعدات مسروقة ومهددة بالسلاح

أحد موظفي برنامج الأغذية العالمي تحدث عن مشهد اعتبره "غير إنساني بكل المقاييس". "شاهدت بعيني مسلحين يستولون على حمولة من العدس والطحين أمام حشد من الناس الجوعى. كانوا يضحكون ويتعاملون مع الشحنة كأنها غنيمة حرب"، يقول الموظف.

في حادثة أخرى، تمت مداهمة مستودع تخزين تابع لجمعية خيرية محلية، ونهب المخزون بالكامل، مع إصابة حارس المستودع بجراح في الرأس.

وبحسب شهادات ميدانية، تُباع المواد الإغاثية، خصوصًا الدقيق، بأسعار باهظة تصل إلى 2000 شيكل (قرابة 500 دولارًا) للكيس الواحد، وأكد شهود عيان أن كيلو الدقيق وصل خلال الأسبوع  الحالي على 100 شيكل (قرابة 28 دولاراً) فيما ينتظر آلاف المدنيين لساعات طويلة قرب نقاط التوزيع دون جدوى. وتحدثت تقارير أممية عن ضعف آليات التوزيع، وعجز المنظومة المحلية عن تأمين القوافل أو منع التعدي عليها.

سكان يدفعون الثمن: مجاعة وأمراض وغياب الأمل

وسط هذا الانفلات، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في ظروف إنسانية قاسية، بلا طعام كافٍ، أو ماء نظيف، أو دواء. وانتشرت أمراض ناتجة عن سوء التغذية وتلوث المياه، بينما تتعرض الأسر لمخاطر الاستغلال أو الإذلال لقاء الحصول على المساعدات.

النتيجة المباشرة لهذا الانهيار هي تفشي الجوع وسوء التغذية، وتفاقم انتشار الأمراض، وتحوّل بعض العائلات إلى الشوارع بحثًا عن الطعام أو التسوّل أو بيع ما تملك من ممتلكات قليلة مقابل وجبة. وحذرت تقارير أممية من أن الوضع "يفوق كارثة المجاعة"، وأنه "غير مسبوق منذ بداية الحصار".

منظمات حقوقية: هذا ليس فشلًا إنسانيًا فقط، بل جريمة ضد الإنسانية

حذرت الأمم المتحدة من "انهيار كامل للنظام الإنساني" في غزة، وطالبت بتوفير ممرات إنسانية آمنة، كما وصف مركز الميزان لحقوق الإنسان ما يجري بأنه "جزء من سياسة ممنهجة للإبادة الجماعية"، متهمًا إسرائيل بخلق بيئة فوضى لتقويض عمل المنظمات الإنسانية، وحرمان السكان من حقهم في الحياة الكريمة.

وأكد المركز "إن تجويع الناس، ومنع المساعدات، وخلق بيئة أمنية تسمح للجريمة بالانتشار هو نهج واضح لتفكيك المجتمع الفلسطيني. ما يجري ليس حالة طارئة بل سياسة عميقة الجذور".

تشابه مع أزمات دولية أخرى؟

شهد العالم في العقود الأخيرة أزمات إنسانية ضخمة، مثل المجاعة في الصومال، والحصار على مضايا السورية، وحصار سراييفو في التسعينات. لكن ما يزيد من صعوبة الوضع في غزة هو تقاطع ثلاثة عناصر قاتلة منها حصار خارجي محكم من قبل قوة احتلال. انهيار داخلي أمني ومؤسسي. غياب آلية رقابة دولية فعالة.

هذه العناصر تجعل الوضع في غزة حالة فريدة من الفشل الدولي، حيث لا توجد جهة مسؤولة يمكن محاسبتها بشكل مباشر، ولا توجد سلطة حقيقية تحمي المدنيين.

دعوات ومطالبات: هل من استجابة دولية؟

يطالب مركز الميزان ومعه عشرات المؤسسات الحقوقية بـ: نشر بعثة رقابة دولية على عمليات توزيع المساعدات، والعمل على إدخال المساعدات عبر قنوات محمية، ومرافق تخزين مؤمنة دوليًا.

وشدد على ضرورة إدراج سرقة المساعدات كجريمة حرب تُحاسب في المحاكم الدولية، مطاليبً برفع الحصار فورًا، دون شروط، كمدخل أساسي لأي حل إنساني.

رغم تلك الدعوات، تظل الاستجابة الدولية بطيئة ومترددة، ولا تتجاوز في أغلب الأحيان إصدار بيانات قلق أو توصيات رمزية، دون إجراءات عملية على الأرض.

خاتمة تحليلية: كارثة تتجاوز الفقر والجوع

غزة لا تعاني فقط من أزمة غذاء أو دواء، بل من انهيار ثقة كامل في المنظومة الأخلاقية والإنسانية الدولية. يعيش المواطنون شعورًا دائمًا بالخوف، وفقدان الكرامة، والعزلة المطلقة عن العالم.

المدني في غزة لم يعد يسأل عن حقوقه السياسية أو حرية تنقله، بل فقط عن وسيلة لإطعام أطفاله أو حماية نفسه من فوضى باتت تحكم كل شيء. وفي الوقت الذي تتبادل فيه القوى الكبرى التصريحات، يبقى الفلسطيني في القطاع وحيدًا، محاصرًا، وجائعًا، في مشهد يختزل الفشل الأخلاقي للعالم الحديث.

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة