لم تعد الحرب مجرد انفجارات وضربات جوية، بل تحولت إلى حرب من نوع آخر: حرب على النقود، على الخبز، في ظل المجاعة التي تشتد يومًا بعد يوم؛ حرب يخوضها الناس من أجل الاستمرار في القدرة على البقاء. فمع مرور أكثر من 600 يوم على حرب الإبادة الجماعية المستمرة على غزة، دخل النظام المالي في القطاع حالة موت سريري، تاركًا أكثر من مليوني فلسطيني بلا قدرة على الوصول إلى أموالهم، أو حتى الاحتفاظ بما تبقى منها.
منذ السابع من أكتوبر 2023، استُهدف النظام المصرفي كجزء رئيسي من بنك أهداف الحرب. أُغلقت البنوك، وشُلّت شركات الصرافة، وانهارت البنية التحتية المالية بفعل القصف العنيف الذي لم يُبقِ شارعًا أو مؤسسة إلا ومرّ فوقها. في قلب هذا التدمير، اقتحمت القوات الإسرائيلية الفروع الرئيسية للبنوك الفلسطينية العاملة في غزة، ونهبت منها نحو 200 مليون شيكل (ما يعادل 54 مليون دولار)، في عملية وصفها مراقبون بـ"سرقة من العيار الثقيل تحت غطاء الحرب".
مع اشتداد الأزمة، أغلقت البنوك أبوابها، وشركات التحويل توقفت عن العمل، وشبكات الإنترنت والاتصالات تعطلت لأسابيع متتالية. ما تبقى من السيولة النقدية تلاشى سريعًا، وظهرت ما يُعرف في غزة بـ"أماكن التكييش"، من خلال التحويل عبر المحافظ الإلكترونية أو تطبيقات البنوك، واستلام النقود نقدًا، في ظاهرة اتسعت في جميع أرجاء القطاع. وصلت العمولة على هذه الطريقة الآن إلى ما يزيد عن 40%، دون رقابة حكومية أو أي جهة داخل القطاع لمنع سرقة جيوب الفقراء المطحونين من الحرب.
في ظل انهيار المؤسسات، لجأ السكان إلى خيارات أربعة للبقاء: المدخرات الشخصية التي نفدت بسرعة، رواتب السلطة التي تُصرف مجزأة وتصل بعد انتظار طويل، مساعدات نقدية من منظمات إنسانية بالكاد تكفي ليوم أو اثنين، وحوالات من مغتربين يشقّون طريقهم المالي عبر متاهة من العمولات والمخاطر.
في الأسواق، تهترئ العملة الورقية وتفقد قيمتها. فئة 5 و10 و20 شيكل لم تعد مقبولة، فيما الدولار، عندما يتوفر، يتآكل تحت التضخم وأسعار السوق السوداء. كيلو الطحين وكيلو السكر قد يتطلبان أكثر من 60 دولارًا نقدًا، إذا ما وُجدا أصلًا.
ويقول أبو يوسف، أحد سكان غزة: "المال صار عبئًا، نحمله ولا نقدر على صرفه. أحتاج إلى 100 دولار لأطعم عائلتي وجبة فلافل، ومع ذلك لا أملك شيئًا. أصبح المال في غزة ورقًا بلا قيمة".
التحويلات المالية من الخارج تواجه عراقيل هائلة: عمولات تصل إلى 30 إلى 40%، صعوبات في التحويل، وتلاعب بأسعار الصرف. وحتى التطبيقات البنكية والحوالات عبر "ويسترن يونيون" و"موني جرام" أصبحت محدودة بفعل نقص السيولة وتوقف المكاتب عن العمل، لا سيما بعد اجتياح رفح وخان يونس وإغلاق عشرات مكاتب التحويل.
ومع ازدهار أسواق بديلة قائمة على "تكييش" الرصيد البنكي عبر مكاتب صرافة ونقاط البيع في المحلات والأسواق، يحصل المواطن على نقد مقابل عمولة قد تصل إلى 45% من قيمة المبلغ، في مشهد يُعيد إلى الأذهان أساليب البقاء في الكوارث الطبيعية.
ووسط هذه الفوضى، ظهرت شبكات تحويل موازية تعمل عبر تطبيقات الهاتف وتجمعات غير رسمية على تطبيقات المراسلة، تقدم خدمات مالية مقابل نسب عالية، لكنها تملأ الفراغ الذي تركته المؤسسات الغائبة.
أما التجار فقد استفادوا من انهيار النظام في غزة، فاحتكروا السلع، وسيطروا على ما تبقى من السوق، ورفعوا الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة. كل شيء يُباع في غزة الآن له سعران: سعر السوق، وسعر السوق السوداء. وكلاهما في متناول قلة فقط.
ووفق مصدر مطّلع من سلطة النقد الفلسطينية، فإنّ إسرائيل تنفذ خطة محكمة لضرب النظام النقدي في غزة، عبر أدوات مالية غير تقليدية تهدف إلى تقويض دور سلطة النقد وعرقلة عمل البنوك التي لا تقوى على السحب والإيداع منذ الأسابيع الأولى للحرب على غزة، وأكّد المصدر لـ"العربي الجديد" أن أهداف الخطة الإسرائيلية تعطيل عمل البنوك عبر تقييد وصول النقد، ومنع ضخ عملة جديدة إلى أسواق غزة خصوصاً من الفئات الكبيرة، مشيراً إلى أنّ هناك افتعالاً داخلياً من التجار للتحكم في سوق الصرف، مع غياب الدور الفعلي للبنوك في توفير النقد واستمرار عمليات السحب والإيداع.
والسيولة المتواجدة حالياً في قطاع غزة تكفي بالحد الأدنى لتسيير حاجيات المواطنين والعمليات التجارية في الأسواق، إلّا أن احتكار النقد من فئة معينة من التجار يعقد الأزمة ويخلق سوقاً سوداء بنسب عمولة مرتفعة، وفق ذات المصدر.
لقد اجترح الغزيون حلولًا بدائية من تحت الركام: ابتكروا طرقًا جديدة للشراء، للتبادل، لتحويل المال، أو من خلال المقايضة عبر صفحات "فيسبوك" لتدبير قوت اليوم. لكن مع كل هذه المحاولات، تبقى الأسئلة معلقة: إلى متى؟ ومن سيتحمل المسؤولية؟
إن ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة مالية، بل إبادة اقتصادية كاملة، تضع النظام المصرفي الفلسطيني على طاولة الموت، وتُهدد بألا يعود للعمل لسنوات مقبلة، حتى لو توقفت الحرب غدًا.