تقرير أحمد زقوت
منذ أيام، يعيش أهالي قطاع غزة في عزلة شبه تامة عن العالم الخارجي نتيجة الانقطاع المتكرر والكامل لشبكات الإنترنت والاتصالات، جراء الاستهداف الممنهج للبنية التحتية من قِبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ولم يعد الأمر يتعلق بحرمان السكان من خدمات الرفاهية أو وسائل التواصل الاجتماعي، بل تجاوز ذلك ليطال أبسط حقوق الإنسان الأساسية، مثل القدرة على طلب النجدة، والإبلاغ عن المفقودين، والتواصل مع الأهل، ومتابعة الطلاب لدروسهم التعليمية عبر الإنترنت.
توقفت خدمات الاتصالات الثابتة وشبكات الإنترنت المعروفة بخدمات "الفايبر" بشكل كامل في قطاع غزة منذ فجر أمس الخميس، بعد نحو يومين من تعطلها في شمال القطاع ومدينة غزة، جراء عمليات القصف والتدمير الإسرائيلية. وقد تعرّض القطاع سابقًا لما يزيد على 16 عملية قطع في الاتصالات وشبكات الإنترنت خلال فترة حرب الإبادة المستمرة، مما انعكس سلبًا على عمل قطاعات حيوية مختلفة.
حين يُصبح النداء مستحيلاً
في أحد المشاهد المؤلمة التي تتكرر يوميًا في قطاع غزة المحاصر، تقف أم عبد الله الزيناتي، نازحة من مخيم جباليا، شاهدة على لحظة من أكثر اللحظات قسوة في حياتها؛ لحظة اختلط فيها الرعب بالعجز، والدموع بالصمت القاتل، في ظل غياب كل سبل الإنقاذ.
تقول أم عبد الله، بصوت تخنقه العبرة، عن تلك الليلة التي لن تغيب عن ذاكرتها ما حييت: "كان ابني تحت الركام، ولم أستطع الاتصال بالإسعاف، كل الشبكات كانت مقطوعة. كنت أسمع أنينه، أنفاسه المتقطعة، صوته يضعف شيئًا فشيئًا، ولا أملك وسيلة لإنقاذه. شعرتُ أن العجز يطوقني من كل الجهات، وكأن الجدران تنهار على قلبي."
وتضيف الزيناتي لـ "قدس نت": "صرختُ في الشارع، علّ أحد الجيران يسمعني ويُبلغ طاقم الإنقاذ. لا سيارة، لا اتصال، لا إنترنت، لا شيء... فقط صوتي المتعب، وخوفي من أن أفقد ابني أمامي دون أن أستطيع فعل شيء. لم أعش لحظة أكثر وجعًا من تلك."
صحفيون بلا صوت: التعتيم الإعلامي كسلاح في الحرب
يتحدث الصحفي حسن الزعانين عن معاناته في توثيق المجازر أثناء فترات انقطاع الإنترنت، قائلاً: "لم أستطع إرسال أي مادة للوكالات التي أعمل معها. بقيت تقاريري حبيسة الهاتف بسبب انقطاع الإنترنت"، موضحًا أن "العالم لا يعرف ما يحدث هنا لحظة بلحظة، مما يزيد من مأساة أهالي غزة، إذ تختفي شهادات الواقع مع انقطاع الاتصال".
ويضيف الزعانين لـ "قدس نت"، بنبرة يملؤها الإحباط: "نُغطي جرائم القصف، نلتقط الصور والفيديوهات، لكننا لا نستطيع إرسالها. هناك آلاف القصص التي تبقى مجهولة، وعشرات الشهادات التي تضيع. الاحتلال يستخدم كل الوسائل لحصارنا وعزلنا، لإخفاء الحقيقة عن الرأي العام. إنها عزلة إعلامية مقصودة."
فرق الإنقاذ عاجزة: الاتصالات المقطوعة تسرق الأرواح
بدورها، تؤكد المتطوعة غدير السقا، في إحدى الجمعيات الإنسانية التي تعمل على إغاثة النازحين والجرحى، لـ "قدس نت" أن "انقطاع الاتصالات يعرقل بشكل كبير جهود فرق الإنقاذ، حيث فقدنا أثر عائلات بأكملها، ولم نتمكن من إبلاغ الجهات المختصة عن أماكن وجود نازحين أو جرحى بسبب انعدام الإشارة".
وتضيف: "هذا الوضع يزيد من عدد الضحايا، إذ يتعذر علينا التنسيق مع طواقم الإسعاف أو الدفاع المدني، مما يُفاقم الأزمة الإنسانية. كثيرًا ما نصل متأخرين، مما يشعرنا بعجز مرير، وكأننا نحارب الوقت والصمت معًا."
طلاب الجامعات تحت الحصار الرقمي
في ظل استمرار الانقطاع الكامل للإنترنت في قطاع غزة، يواجه الطالب الجامعي أحمد الخطيب تحديات جسيمة في مسيرته الأكاديمية، كما هو حال آلاف الطلاب في القطاع.
يقول الخطيب لـ "قدس نت": "بات من شبه المستحيل متابعة الدروس والمحاضرات التي تُعقد عبر الإنترنت. لا أستطيع تحميل المحاضرات أو المشاركة في الجلسات، وهذا أثّر سلبًا على مستواي الدراسي."
ويؤكد أن "الأمر لا يقتصر على صعوبة الوصول للمواد التعليمية، بل يمتد إلى تأخر نتائج الامتحانات وأداء الواجبات، خاصة أن أغلب المحاضرين يعتمدون على إرسال المحتوى إلكترونيًا، مما يعيق تقدمنا في المنهاج."
ويشير إلى أن البدائل المتاحة محدودة: "نحاول اللجوء إلى أماكن تتوفر فيها تغطية ضعيفة، أو نعتمد على تسجيلات صوتية، لكن ذلك لا يعوض غياب التفاعل المباشر مع الأساتذة."
وعن تأثير الوضع النفسي، يعبّر عن شعوره بالإحباط والضغط، لكنه يؤكد أهمية الصبر ويأمل في تحسن الظروف قريبًا.
الاحتلال يمنع الإصلاح: عزلة رقمية وخرق للإنسانية
ووفقاً للهيئة الفلسطينية لتنظيم قطاع الاتصالات، انقطعت كافة خدمات الإنترنت والاتصالات الثابتة في قطاع غزة بعد استهداف المسار الرئيسي لشبكة "الفايبر"، مما أدى إلى عزلة رقمية تامة في وسط وجنوب القطاع، واستمرار عزل مدينة غزة وشمالها منذ يومين.
وأكدت الهيئة أن الاحتلال يمنع الطواقم الفنية من إصلاح الأعطال أو تفعيل المسارات البديلة، ما يفاقم معاناة أكثر من مليوني مواطن، ويهدد وصولهم إلى الخدمات الأساسية، خاصة الإغاثية والصحية والتعليمية والإعلامية.
ويُعد تدمير شبكات الاتصال فصلًا آخر من فصول العقاب الجماعي المفروض على سكان غزة. ففي زمن أصبحت فيه الاتصالات وسيلة للنجاة، يُترك أكثر من مليوني إنسان في خطر مضاعف، محرومين من أبسط حقوقهم في الصراخ طلبًا للنجدة.