تقرير: أحمد زقوت : منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، تزايدت عمليات النصب والاحتيال التي استهدفت حسابات الفلسطينيين البنكية عبر روابط وصفحات وهمية، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتعطّل الدورة المالية المعتادة، ومع غياب الرقابة وتدمير أكثر من 80% من أجهزة الصراف الآلي، لجأ المواطنون إلى المحافظ الإلكترونية مثل تطبيقات "بال بي"، و"جوال بي"، و"بنكي" كبديل نقدي، لكنها تحولت إلى أدوات للاحتيال بسبب فوضى السوق وضعف الوعي الرقمي، مما تسبب بخسائر مالية واسعة يعجز الضحايا عن استردادها.
اتصال وهمي
المعلمة إيناس الشريف من مدينة غزة، تفاجأت باختفاء كامل رصيدها البنكي، في واقعة وصفتها بـ "الصدمة القاتلة"، خاصة أنها تعتمد عليه لتأمين معيشتها وسط الحصار والعدوان.
تروي الشريف لـ "قدس نت" أنها تواصلت مع خدمة عملاء البنك بعد عجزها عن الدخول للتطبيق، وأُرسل لها رمز تفعيل جديد للحساب، لكن الأمور تعقدت حين تلقت اتصالاً وهمياً من مجهول ادعى أنه موظف بالبنك، وأقنعها بمساعدته، فزودته ببيانات حسابها دون أن تدري، وخلال دقائق اختفى رصيدها بالكامل وحُوّل إلى ثلاثة حسابات مجهولة، دون أن تدرك أنها أعطته مفاتيح الحساب ووقعت ضحية احتيال.
وتتابع المعلمة: "استغرقت عملية الاحتيال دقائق معدودة، وعندما حاولت تجميد حسابي، واجهت تأخيرًا في التواصل مع البنك، مما أتاح للجاني سحب المبلغ وتحويله إلى حسابات وهمية"، مؤكدةً أنّ "البنك بدأ بتتبع التحويلات وتجميد الحسابات لاسترداد الأموال".
وتشدد الشريف أنّ الحادثة تكشف ضعف الأمان وسهولة استغلال المواطنين، مطالبة بتحقيق جدي وآليات لتعقب الجناة واستعادة الأموال في ظل غياب الرقابة والحماية الرقمية وسط الحرب والحصار.
رسالة مزيفة
ولم تكن حالة الشريف وحيدة، فقد تعرض الموظف سمير خليل (55 عامًا) للاحتيال بعد استجابته لرسالة واتساب مزيفة تحمل شعار "بنك فلسطين" تحذره من تجميد حسابه، فأدخل بياناته على موقع وهمي، فتم تحويل رصيده بالكامل إلى حساب مجهول، ليكتشف أنه ضحية لعملية احتيال إلكتروني منظمة.
يقول خليل بأسى لـ "قدس نت": "ظننت أنني أحمي حسابي، لكنني سلمت بياناتي لعصابة وفقدت 22 ألف دولار جمعتها خلال 25 سنة عمل"، مبيناً أنّ محاولاته لاستعادة المال فشلت بسبب إغلاق فرع البنك وتحويل المبلغ إلى حساب مجهول في دولة عربية.
ويختتم بحسرة: "تعرضت للسرقة في وضح النهار وفقدت مدخراتي المخصصة لعائلتي، وقُضي على أحلامي"، مطالبًا بحماية المواطنين، وتطبيق آليات رقابية فعالة ضد الاحتيال، إلى جانب اتخاذ إجراءات عقابية صارمة ضد المحتالين.
انتحال صفة موظف دعم فني
أما سمر شبير (45 عامًا)، فتجلس في ركام منزلها المدمر بغزة تحت بطانية ممزقة تحتضن طفلتها بعد استشهاد زوجها، وتوضح لـ "قدس نت" إنها تلقت (1000 شيقل)، أي نحو (300 دولار)، عبر محفظة إلكترونية "باي بال" من برنامج الغذاء العالمي، وكانت تعتمد على هذا المبلغ لتأمين احتياجات عائلتها، لكنها فقدت كلمة المرور.
وتلفت شبير، إلى أنّها لجأت إلى صفحات مزيفة على "فيسبوك وإنستغرام" حيث تواصلت مع محتال ادّعى موظف دعم، فأرسلت له رمز التأكيد، فسرق المبلغ وحظرها، مؤكدة أن نساء كثيرات وقعن ضحايا مشابهة في ظروف إنسانية صعبة.
عصابات رقمية وغياب الرقابة
وفي ظل الانهيار المالي والأمني بغزة بسبب الحرب، تحولت المحافظ والحسابات البنكية الإلكترونية لأهداف سهلة لعصابات رقمية تستغل غياب الرقابة، حيث يؤكد الصراف محمد ثابت ازدياد الاحتيال يومياً بشكل مقلق عبر رسائل ومكالمات مزيفة تنتحل أسماء جهات معروفة مثل "باي بال" و"جوال باي" لطلب رموز التحقق (OTP)، ثم تُسرق الأموال فوراً.
ويشير ثابت، خلال حديثه إلى "قدس نت"، إلى تعرض موظفين ومستفيدين من رواتب ومنح لابتزاز رقمي، خاصة بين الشباب والنساء، مع غياب تعويضات رسمية للضحايا، داعياً إلى حملات توعية بالتعاملات الرقمية المالية، والرقابة فعالة على التحويلات.
ويتفق الصراف أنور عز الدين مع ثابت بشأن سرقة الأرصدة المالية، موضحًا أنّ الاحتيال يتم بتنسيق بين محتالي غزة وخارجها، ويشترك بعض الصرافين مقابل عمولات في زيادة الفوضى وعمليات الاحتيال، كما تُسرق الرواتب عبر بيانات مسروقة أو بانتحال صفة مندوبين، وأحيانًا بتعاون داخلي، مطالباً المواطنين، واستخدام وسائل آمنة، ومراقبة الحسابات، وتعزيز أنظمة الحماية وفرض رقابة صارمة من البنوك وشركات المحافظ.
300 شكوى نصب ومطالب بتوخي الحذر
وطبقاً لمصدر في المباحث الإلكترونية بغزة، أكد لـ "قدس نت" تلقي أكثر من 300 شكوى نصب واحتيال إلكتروني خلال الحرب، مشيرًا إلى جهود المباحث في استرداد الحقوق رغم صعوبات الحرب وعدم تعاون بعض البنوك، حيث تعمل المباحث مع البنوك لتجميد الحسابات عند الاستجابة.
ويدعو المصدر المواطنين إلى توخي الحذر بعدم التعامل مع جهات أو صفحات مشبوهة، وعدم مشاركة بياناتهم البنكية أو الرد على مكالمات مجهولة تدعي علاقة بالبنك، مع التأكيد على ضرورة إيقاف شريحة الهاتف فور فقدانها، مشيرًا إلى أن المسؤولية تقع على من يفشي معلوماته لجهات وهمية.
جهل رقمي وأساليب احتيال متنوعة
وبحسب ما أفاد به خبير الأمن السيبراني فادي شراب لـ"قدس نت"، فإنّ المحتالين يستخدمون أساليب متنوعة لسرقة أرصدة المواطنين، أبرزها إنشاء صفحات وهمية على "فيسبوك" و"إنستغرام"، وانتحال صفة موظفي دعم فني لخداع الضحايا والحصول على رموز التحقق للسيطرة على الحسابات أو سرقة الأموال، كما يستغلون ضعف وعي النساء وكبار السن، في حين تُدار بعض هذه العمليات من خارج القطاع، ما يصعّب ملاحقة الجناة.
تسلط هذه الشهادات الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه المواطنين بسبب ضعف الرقابة المالية والفوضى المصاحبة، ما يزيد من مخاطر الاستغلال والاحتيال، فيما تبرز الحاجة الملحة لوضع آليات رقابية فعالة تحمي المستخدمين في ظل حصار الحرب وظروفه الصعبة.
نهب الأرصدة يتصاعد وتهديد بالملاحقة القانونية
بدوره، أكد مدير جمعية البنوك في فلسطين، بشار ياسين، أنّ الحرب والانهيار الاقتصادي في غزة سهّلا انتشار الاحتيال الإلكتروني، مشيرًا إلى تلقي شكاوى متزايدة عن اختراق حسابات وسرقة أموال.
وأوضح ياسين في تصريحات، أنّ الجمعية تتابع الحالات مع البنوك وسلطة النقد، وأطلقت حملة توعية لتعزيز الأمان الرقمي، داعيًا المواطنين لتجنّب الصفحات المزيفة واعتماد وسائل موثوقة لإدارة أموالهم.
ومنذ بداية الحرب في 7 أكتوبر 2023، يواجه قطاع غزة أزمة سيولة حادة نتيجة تدمير فروع المصارف ومنع إدخال النقد، ما دفع المواطنين والتجار لاحتجاز الأموال خارج الدورة المالية، وفق سلطة النقد الفلسطينية.
وقالت "النقد" في بيان، إنّها رصدت عمليات ابتزاز من صرّافين غير مرخصين يفرضون عمولات تصل إلى 45% على السحب والتحويلات، مؤكدة أنّ ذلك مخالف للتعليمات وسيُلاحَق قانونياً.
وأضافت: "في ظل شح السيولة، تسعى سلطة النقد لتطوير بنية تحتية متقدمة للدفع الإلكتروني في غزة"، مشيرة إلى أنّ هذه الخدمات تُقدَّم مجانًا باستثناء بعض رسوم بطاقات الائتمان عند اختلاف العملة.
وأطلقت السلطة منصة إلكترونية لتلقي شكاوى المواطنين ومتابعتها بشكل عاجل، مشددةً على البنوك تفعيل خطط استمرارية الأعمال، كما ألزمت شركات الدفع الإلكتروني باعتماد أنظمة أمنية متقدمة لحماية أموال وبيانات المستخدمين.
شلل مصرفي وابتزاز نقدي وسط فوضى مالية
من جهته، يؤكد المحلل والخبير الاقتصادي سمير أبو مدللة، أنّ "العدوان الإسرائيلي على القطاع منذ 7 أكتوبر 2023 أدى إلى شلل شبه كامل في النظام المصرفي بسبب منع دخول الأموال وتدمير البنوك، ما تسبب في أزمة سيولة وانتشار الصرافة العشوائية، حيث فُرضت عمولات تصل إلى 45% على الرواتب والحوالات، مما أضعف القدرة الشرائية للمواطنين".
ويصف أبو مدللة لـ "قدس نت"، أنّ الواقع المصرفي في غزة بـ "غير رسمي وغير مستقر"، مع إغلاق البنوك، لافتاً إلى اعتماد المواطنين على صرافين متجولين ومكاتب محدودة تستغل غياب الرقابة بسبب استهداف الاحتلال لمؤسسات السلطة وعجز سلطة النقد عن تطبيق قوانينها خلال العدوان، ما أدى لانتشار السوق السوداء وابتزاز المواطنين بأسعار صرف مرتفعة لتحقيق أرباح غير مشروعة.
ويكشف أبو مدللة عن وجود حالات نصب إلكتروني بتواطؤ محدود بين بعض موظفي البنوك وصرافين، دون تعميم، داعياً لتشديد رقابة سلطة النقد ووزارة الاقتصاد على الصرافين ومكاتب الصرافة المخالفين، وتوعية المواطنين وحماية بياناتهم المالية، والضغط الدولي لرفع الحصار وإدخال السيولة.
غياب تطبيق القوانين فاقم الفوضى
من جانبه، يؤكد رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة عائد أبو رمضان، أنّ "غياب الرقابة بفعل الحرب جعل قطاع الصرافة عرضة لهجمات إلكترونية يُحتمل دعمها من الاحتلال، مشيرًا إلى استغلال جهل المواطنين بالتعاملات الرقمية.
ويوضح أبو رمضان، في مقابلته "قدس نت"، أنّ توقف عمل البنوك دفع المواطنين للاعتماد على المحافظ الإلكترونية، مبيناً أنّ القوانين موجودة لكن غياب تنفيذها تسبب بالفوضى، وأنّ الغرفة التجارية تتابع السوق وتصدر تقارير لدعم الرقابة.
ويدعو أبو رمضان، للاستفادة من منصات رسمية مثل سلطة النقد والغرف التجارية لتقديم الشكاوى بسرية، مع التأكيد على توعية المواطنين بأهمية حماية بياناتهم وتفعيل الدفع الإلكتروني، وأنّ ضبط السوق مسؤولية مشتركة بين الجهات الرسمية والمواطنين، مطالبًا وزارة الداخلية والجهات التنفيذية بإغلاق مكاتب الصرافة غير المرخصة ومنع العمولات المرتفعة.
أمان: انهيار النظام المالي وثغرات رقمية فتحت الباب للاحتيال المنظم
ووسط تفاقم الأوضاع المعيشية وتفشي الفقر المدقع في غزة بفعل الحرب، يشهد القطاع تصاعدًا لافتًا في عمليات الاحتيال المالي الرقمي، مدفوعًا بتعطيل النظام المصرفي وتآكل أدوات الرقابة، وفي هذا السياق، يؤكد مدير المكتب الإقليمي لائتلاف أمان للنزاهة والمساءلة بغزة، وائل بعلوشة، لـ "قدس نت"، أنّ تعطيل عمل البنوك، ومنع إدخال السيولة النقدية، كلها عوامل أسهمت في تفشي هذا النمط من الاحتيال المنظم.
وبحسب "أمان"، فإنّ انتشار الصرافة العشوائية والحسابات الوهمية وفرض عمولات تصل إلى 45%، يعود إلى غياب الرقابة وضعف الحماية السيبرانية، في ظل فراغ أمني واقتصادي وفقدان البيئة الرقمية لمقومات الأمان القانوني والتقني، مشيرةً إلى تقصير البنوك وشركات الاتصالات والدفع الإلكتروني في تأمين خدماتها، إضافة إلى تعطيل دور سلطة النقد بعد استهداف مقرها ونزوح طواقمها، وغياب التنسيق مع جهات إنفاذ القانون، ما فاقم هشاشة الرقابة والاعتماد المحدود على الشكاوى الإلكترونية وسط ضعف الشفافية.
وتوصي "أمان" بسن قانون مُلزم للرقابة على المحافظ الإلكترونية، وإطلاق حملات توعية، ونشر قوائم سوداء بالمخالفين، وإنشاء هيئة رقابة مجتمعية، وتوفير منصات آمنة وآليات فعالة للشكاوى، وتشريع شامل يجرّم الاحتيال الرقمي ويوفر آليات حماية وتعويض للضحايا، مطالبةً المواطنين بعدم مشاركة بياناتهم البنكية مع جهات غير رسمية، والتعامل فقط مع وكلاء مرخصين، والإبلاغ عن أي نشاط مشبوه، مع توثيق المعاملات ورفض التعامل مع الصرافين غير المرخصين.
وفي ظل هذا الواقع المتدهور، تتكشف هشاشة النظام الرقابي والقانوني في غزة بشكل صارخ، حيث غياب الرقابة الفاعلة وقصور التشريعات المتخصصة ترك المجال واسعاً لشبكات الاحتيال الرقمي بالانتشار بلا رادع، ومع تزايد معاناة المواطنين وتفشي الفوضى المالية، أصبح من الضروري الإسراع بوضع آليات قانونية ورقابية صارمة، وتعزيز وعي المجتمع الرقمي، لحماية حقوق المستخدمين وتأمين أموالهم في ظل الظروف القاسية التي يمر بها القطاع.