بقلم مصطفى إبراهيم - حقوقي فلسطيني / عندما يجلس المسؤولون الفلسطينيون والدوليون وغيرهم للنقاش حول إدخال المساعدات الإنسانية لأهل غزة، وهم يحتسون القهوة صباحاً ويختارون نوع الحليب الذي يناسبهم (في كوب زجاجي أو من الكرتون يمكن التخلص منه)، فهؤلاء وغيرهم شركاء في المجاعة. عندما يناقش أولئك ما إذا كان من المناسب تقديم السمك على وجبة العشاء، فهم شركاء في المجاعة. وحتى عندما ينامون ليلاً، هم أيضاً شركاء في المجاعة.
في خضمّ الحرب الإيرانية – الإسرائيلية، وانشغال العالم، المشغول أصلاً، عن الإبادة في غزة، ما زالت إسرائيل مستمرة في الإبادة الجماعية، عبر القتل والتدمير الممنهج، والتجويع، وتعميق أزمة مياه الشرب التي تتفاقم مع نفاد الوقود.
منذ نهاية شهر أيار/ مايو الماضي، قُتل نحو 400 غزيّ، بالإضافة إلى مئات المصابين من “منتظري المساعدات الإنسانية” أمام مراكز “شركة غزة الإنسانية”، والسيارات المحمّلة بالمساعدات التابعة للوكالات الإغاثية الدولية. أولئك أُصيبوا من جموع الناس الجوعى.
في غزة، لم يعد الجوع مجرّد إحساس داخلي أو حالة إنسانية طارئة، بل أصبح سياسة رسمية وسلاحاً منهجياً بيد الاحتلال الإسرائيلي. عشرات الآلاف من المدنيين يسيرون كيلومترات طويلة، في مشهد مأساوي يتطابق مع سرديات المجاعات الكبرى؛ يسيرون تحت القصف، ونيران الدبابات، وأزيز الطائرات المسيّرة، من أجل كيس طحين أو كرتونة معلبات لا تكفي عائلة متوسطة ليومين.
هذا ليس تجويعاً فحسب، بل هو انتهاك وتهشيم للكرامة الإنسانية، وعقوبة جماعية تُنفّذ بحسابات دقيقة، يُترك فيها السكان بين نارين: إمّا الموت جوعاً أو الموت برصاص “المساعدات”. ما يُسمى بـ”الممرات الإنسانية” أضحى مصائد موت. طوابير النساء والأطفال والشيوخ ليست سوى أهداف متحرّكة، تغضّ عنها المؤسسات الدولية الطرف، أو تكتفي بالإدانة اللفظية والتوثيق الذي أصبح بلا جدوى.
المشهد اليومي في غزة يتكرّر كطقس من الجحيم للموت الجماعي: موجات بشرية تُنهكها الحاجة، تنطلق مع ساعات الصباح الأولى صوب شاحنات المساعدات، لتجد نفسها بين فكّي كماشة: طائرات الاستطلاع، ورصاص الدبابات والقناصة، والفوضى، والعصابات، والانهيار التام للنظام المدني. في كل مرة يُقتل العشرات ويُصاب المئات، ولا تتوقّف آلة الدعاية الإسرائيلية عن تبرير القتل بـ”الأخطاء” أو بتهديد القوات، وكأن الخطأ صار قاعدة، والسياسة هي التوحّش.
الطعام في غزة اليوم ليس حقاً، بل هو فخّ.
مع كل وجبة يُسمح بمرورها، هناك مجزرة تتحضّر. الكرتونة التي تُوزّع تحمل في طيّاتها أكثر من مجرد مواد غذائية، إنها تحمل رسالة إذلال وقهر: لا كرامة للغزيّ إلا بما تسمح به دولة الاحتلال. فالحياة لا تُمنح إلا مشروطة.
غزة خارج الجغرافيا… خارج القانون
الأفظع من جريمة الإبادة الجماعية هو التواطؤ الدولي. أين الأمم المتحدة؟ وأين الوكالات الإنسانية؟ أين أولئك الذين يتحدثون عن “قانون النزاع المسلّح” و”الحق في الغذاء” و”الحماية الدولية للمدنيين”؟ كأن غزة تقع خارج الجغرافيا وخارج القانون، وكأن الشعب الفلسطيني لا يُحسب من البشر.
في غزة، لم يعد الحصار مجرد طوق، بل صار مشهداً متكاملاً من الإبادة الناعمة والقتل الصريح والمشروع. هناك من يموت برصاصة، وهناك من يموت من الجوع، وهناك من يموت من المرض، وهناك من ينتظر دوره. ووسط هذا الجحيم، لا تزال أصوات الغزيين مرفوعة، ليس من أجل الطعام فقط، بل من أجل الكرامة، والحياة، والحرية. وما دامت هذه الأصوات حيّة، فإن الجريمة لن تُنسى، والسكوت عليها لن يُغتفر.
لا يمكن فهم هذا المشهد الدموي خارج سياق سياسة العقاب الجماعي التي تتبعها إسرائيل منذ سنوات، والتي وصلت اليوم إلى ذروتها. فالحصار المفروض على غزة منذ أكثر من 18 عاماً لم يكن مجرد حصار اقتصادي أو أمني، بل هو مشروع إفقار وتجويع وتفكيك للمجتمع الفلسطيني. والاحتلال الإسرائيلي، في حربه المستمرة، لم يكتفِ بتدمير البيوت والبنية التحتية، بل أعلن حرباً على الحق في الغذاء، وعلى الماء، وعلى الحياة نفسها.
تحت شعار “المساعدات الإنسانية”، انطلقت ما تُسمى “شركة غزة الإنسانية”، وهي مشروع مشبوه يتقاطع فيه رأس المال الخاص مع الجهات العسكرية والأمنية الأميركية والإسرائيلية وبعض الأطراف الفلسطينية المحلية. ومع ضعف المؤسسات الدولية، تمّ تسويق المشروع على أنه مبادرة إنقاذ للحياة، بينما في الواقع هو إحدى أدوات التحكّم والسيطرة، وتكريس سياسة الإذلال الجماعي وتسليع المعاناة. الطعام لم يعد يصل مباشرة الى الناس، بل عبر قنوات محكومة بالتصاريح، والإحداثيات، والمراقبة الجوية، وكلها تُدار بمنطق عسكري بحت: من يُطعَم، ومتى، وبأي كمية، وتحت أي ظرف.
المجتمع الدولي، الذي يغضّ الطرف عن هذه المسرحية القاتلة، يشارك في الجريمة بشكل مباشر أو غير مباشر. فبسكوته، يمنح إسرائيل غطاءً لمواصلة مشروعها الاستعماري، ويحوّل المساعدات إلى وسيلة ضغط لا إلى أداة إنقاذ. أما السلطة الفلسطينية، الغائبة تماماً عن المشهد، فقد تخلّت طوعاً عن دورها، وتركت الساحة للجنرالات، والشركات الخاصة، والسماسرة، في سقوط سياسي وأخلاقي كامل.
ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد مأساة إنسانية، بل جريمة سياسية كاملة الأركان: جوعٌ مغمس بالدم، ومساعدات تسوقها الرشاشات، وأمل محاصر بالدبابات. وما لم يتم كسر هذا النظام القاتل، ومحاسبة المسؤولين عنه، فإن المجاعة ستبقى مستمرة، والموت سيبقى طعام الغزيين الوحيد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت